المحرس مدينة تنام على خد المتوسط، جغرافيا كأنها مهد نور الشمس، بيوت بيضاء متعانقة في انسجام أبدي، نهاية كل طريق يعترضك شريط في الأفق بلون أزرق. متجاورة مع البحر، متجاورة مع خضرة قلوب أهلها، زخارف ومنمنمات على عتبات أبوابها ونوافذها المرسومة بلون السماء. مآذن وقباب، حدائق وجنان، دكاكينها صغيرة تتسع قلوبها للعالم بأسره ككل مرافقها الأخرى من مقاه، مطاعم وفنادق، مدارس الفتية والفتيات، مبان رسمية ومرافئ قديمة دافئة تحتضن مراكب صغيرة بشَتَّى الألوان تسرد قصص ومغامرات البشر بكل أفراحها وأحزانها، في خاصرتها تتزين بقلادة سكة حديد كأنها سكة قطار الشرق، أحبار على ورق أبيض بعد أن رسم ضوء النهار معالم جسدها. كل يوم يحدث مثل هذا الفعل، في كل يوم تشرق الشمس والمدينة تنتظر قوارب الصيادين بشباك وسلال والمزارعين بشتى أنواع الغلال في وفرة المحبة التي تعانق الجميع.
والمحرس تحتضن المهرجان الدولي للفنون التشكيلية، وهو ملتقى سنوي يجمع الكثير من المبدعين العرب، بمختلف مدارسهم وأساليبهم الفنية. ورغم بعض الصعوبات التي أعلن عنها المهرجان في إطار تأجيله لمدة أكثر من شهر على موعد انطلاقه المحدد في السابق إلا أن المهرجان العريق والأطول عمرا بعد مهرجان أصيلة في المغرب، استدرك التأخير وعمل على صناعة حدث لا يقل أهمية عن دوراته السابقة من حيث التنظيم والاستقبال والحضور، حفل الافتتاح والورشة، والأمسيات والندوات، والمعرض المخصص ليوم الاختتام.
وتضمّن برنامج الدورة الرابعة والثلاثين معرضين رئيسيين؛ خصص الأوّل للأعمال التي أنجزها الفنّانون المشاركون في وقت سابق، بينما خصص الثاني للأعمال التي أنجزوها ضمن أيام المهرجان الذي تضمّن، أيضاً، مجموعةً من الندوات والورش الفنّية المفتوحة في فضاءات المدينة، وورش العمل في الرسم والنحت والترميم، إضافة إلى عروض موسيقية وأمسيات شعرية.
وشهدت دورة المهرجان هذا العام حضور نخبة من المثقفين والفنانين التونسيين والأجانب وتميزت بتقديم الناقد الفنان فاتح بن عامر عميد المعهد العالي للفنون بصفاقس لكتاب “مكامن الضوء: مقالات مختارة في التشكيل الليبي المعاصر”، كما شاركه الناقد الفنان خليل قويعة بمداخلة رفيعة بخصوص الكتاب وحول واقع التشكيل الليبي والفنانين الليبيين ومستوى الكتابة النقدية في ليبيا.
وكان للشاعر الصحافي هادي جاء بالله مداخلة أخرى بخصوص الكتاب نفسه بالإضافة إلى عرضي نبذة عن التشكيل الليبي وظروفه الراهنة في ليبيا.
ومن أبرز الفقرات التي كانت مخصصة في المهرجان محاضرة عن الفن والبيئة، قدمها الفنان برهان بن عربية المتحصل على جائزة الشارقة للكتابة النقدية التشكيلية للعام 2021، وتناول في محاضرته التي قدمها في المنابر الثقافية برواق يوسف الرقيق خصائص الفنون الحديثة التي تهتم بمعالجات والمحافظة على المحيط، الفن من أجل بيئة نظيفة أو “المحرس مدينة الفن والبيئة” التي كانت شعار هذه الدورة الرابعة والثلاثين من عمر المهرجان.
ولم يغفل المهرجان التشكيلي الانفتاح على الفنون حيث نظم أمسية شعرية قرأ خلالها الشاعر الهادي جاء بالله نصوصا من خارج مجموعة صادرة سنة 2001 “خطاهم هنا وهناك.. قصيدة الطائر”. وقد تفاعل الحضور مع هذه القصائد نظرا للطرافة والخروج عن سياق المضمر في النسق واللغة الأنيقة والعرض الذي ألقى به الشاعر.
وشارك الشاعر جاء بالله أيضا بعض ما ورد في روايته الجديدة والتي خرجت هي الأخرى عن مدارات الرواية العربية الكلاسيكية والمعاصرة. كما شاركه زميله الشاعر التونسي علي مبزعية ببعض قصائده القديمة في أجواء من التفاعل الإيجابي.
هذه المحاضرات والندوات والأمسيات الثقافية كانت في المنابر الثقافية التي أصبحت سمة تميز مهرجان المحرس بتونس في المساهمة الثقافية إلى جانب الحدث التشكيلي استضافة الكثير من النقاد والفنانين والشعراء والكتاب وإقامة العديد من الأمسيات الشعرية والنقدية عبر سنوات طويلة، كانت فرصة للتعرف على العديد من التجارب التشكيلية والأدبية.
إضافة إلى ذلك تحضر الورش الفنية التي هي أساس فكرة المهرجان، حيث تتم استضافة الفنانين من داخل وخارج تونس لمدة عشرة أيام لتنفيذ أعمال فنية الكل حسب اتجاهه والكل حسب رؤيته، فمنهم الرسام والنحات ورسام الجداريات في الفضاء العام ومنهم الفوتوغرافي وكلهم ينجز عمله.
في نهاية الورشة يوم الختام يتم عرض كل الأعمال المنجزة بمعرض فني واحد الكل في فضائه، في قاعات العرض أو في الفضاءات العامة التي تزين المدينة وتساهم في المحافظة على البيئة الخالية من الملوثات، ذلك أن إقامة أعمال فنية في الحدائق والساحات العامة تدفع وتلزم الجميع بالاهتمام بهذه المساحات والحفاظ عليها في حالة من النظافة الدائمة وهذا ما حدث لكل ساحات وميادين وشوارع مدينة المحرس. عند دخول الزائر المدينة يشعر كأنه يتجول في عمل فني كبير، فهذه المدينة بمجهود جمعية المهرجان منذ تأسيسها من قبل الفنان الراحل يوسف الرقيق ورفاقه كانت مثالا نموذجيا يحتذى به في كافة المدن التي تحاول أن تزهر بالفن والجمال.
بعد سنوات من العمل المضني من قبل لجنة مهرجان المحرس، أصبحت المدينة وجهة كل الفنانين العرب من أجيال مختلفة، فمنذ أن بدأ المهرجان لقاءه الأول سنة 1988 استضاف المئات من الفنانين من شتى أنحاء العالم، بمختلف الأعمار والمستويات من رواد في أوطانهم إلى فنانين شباب وأصحاب تجارب معاصرة وإضافات مهمة للتشكيل العربي.
ومن بين الأسماء المشاركة على امتداد الدوارات السابقة الفنانان التونسيان الهادي التركي والزبير التركي والفنان الفلسطيني مصطفى الحلاج والنحات محمد بوكرش والفنان رشيد قريشي من الجزائر والفنان علي العباني والفنان الطاهر المغربي والفنان علي الزويك من ليبيا ومن مصر أسماء مهمة جدا وكذلك من دول الخليج العربي ومن سوريا وفلسطين والأردن والعراق والمغرب والسودان من بينهم الفنان محمد عبدالله عتيبي والكثير غيرهم من أوروبا وأميركا اللاتينية.
وكانت المشاركات هذا العام بالإضافة إلى تونس البلد المضيف، من اليابان وتايوان وليبيا والجزائر وساحل العاج.
وخصص المهرجان في الدورة الرابعة والثلاثين ورشة للأطفال وهي التي مثلت الحدث الأبرز الذي أَثَّث الفضاء الخارجي وزاد من أناقة ورهافة المشهد بإشراف العديد من الفنانين التونسيين ومنهم الفنانة الكبيرة فوزية الهيشري، فتنوعت الأعمال المرسومة بتنوع الألوان والأشكال والمساحات القماشية والتي تم عرضها في معرض الختام.