صفحات كتاب
دراسات

المفارقة في الأدب

سالم العرابي

 

أسلوب المفارقة من الأساليب البلاغية التي يستخدمها الأدباء والمبدعون في التعبير عن أفكارهم،و يتصف مصطلح المفارقة بالمرواغة،وعدم الثبات ،فاختلفت تعريفاته عبر العصور المختلفة؛ فهو يعني في عصر غير ما يعنيه في عصر آخر،وعند أديب غير ما يعنيه عند أديب آخر،وهذا يعود إلى قدم مصطلح المفارقة وجذوره الضاربة في القدم،قدم الآداب الإنسانية من جانب، وإلى طبيعتها المراوغة من جانب آخر.

والمفارقة “في النقد الغربي  تتضمن معان متعددة تبدو أحيانا متنافرة؛ فهي عند أفلاطون تعني الأسلوب الناعم الهادئ الذي يستخف بالناس ويقتبس خالد سليمان تعريف  (معجم أكسفورد المختصر) Concise Oxford Dictionary  للمفارقة حيث يورد التعريف التالي:

“المفارقة هي إما أن يعبر المرء عن معناه بلغة توحي بما يناقض هذا المعنى أو يخالفه ،ولاسيما بأن يتظاهرالمرء بتبني وجهة نظر الآخر؛إذ يستخدم لهجة تدل على المدح،ولكن بقصد السخرية أو التهكم ،وإما هي حدوث حدث أو ظرف مرغوب فيه في وقت غير مناسب البتة،كما لو كان في  حدوثه في ذلك الوقت سخرية من فكرة ملاءمة الأشياء،وإما هي استعمال اللغة بطريقة تحمل معنىً باطناً موجها لجمهور خاص مميز ومعنى آخر ظاهرموجهاً للأشخاص المخاطبين أو المعنيين بالقول”[1]

وينقل أيضا تعريف الأديب الإنجليزي “صمويل جونسون (1709-1819) “بأنها طريقة من طرائق التعبير يكون المعنى فيها مناقضا أو مضادا للكلمات”.[2] وهذا التعريف هو في حقيقته تعريف للمفارقة اللفظية،ولم  يتعرض للأنواع الأخرى. ويعرف ميويك المفارقة بأنها”طريقة في الكتابة تريد أن تترك السؤال قائماً عن المعنى الحرفي المقصود،فثمة تأجيل أبدي للمغزى ،فالتعريف القديم للمفارقة ـ قول شئ والإيحاء بقول نقيضه ـ قد تجاوزته مفهومات أخرى ،فالمفارقة قول شئ بطريقة لا تستثيرتفسيراً واحدًا ،بل سلسلة لا تنتهي من التفسيرات”.[3]

وينقل سعيد شوقي تعريفاًعن كلينث بروكس أن المفارقة هي “أكثر المصطلحات شمولية بين أيدينا لوصف التعديل الذي تلقاه العناصر المختلفة في داخل السياق ،أي بمعنى أنها التطور في المعنى الذي يصيب أحد العناصر في العمل الأدبي تحت تأثير سياقه”[4].

المفارقة عند شليجل· كما ينقلها ميويك عنه”شكل من النقيضة “[5]

فهي عنده تعني الموضوعية؛ لأنها تعني السمو الكامل فوق الذات ،وهي المناورة باللعب على كل الاحتمالات،بل المناورة باللعب على الذات نفسها،وبهذه التحديدات يدخل شليجل التعريف الحديث للمفارقة من أوسع الأبواب ،وهذا هو السبب في أن أي بحث عرض للمفارقة بعد شليجل ،سواء كان ذلك من الناحية الفلسفية أم النقدية البلاغية،لابد أن يذكر تعريف شليجل لها ،وهو التعريف الذي عرف فيما بعد بأنه تعريف المفارقة الرومانسية؛ ذلك بأن شليجل ربط بين هذا التعريف بمفهوم الجمال عندما قال” إن الشئ الجميل هو ذلك الذي له علاقة بالكوني اللامحدود”.[6]

إن صاحب المفارقة في حالة افتراض على الدوام؛ إذ إن الإنسان كلما توهم أنه وصل إلى فهم صحيح للحياة ،اكتشف أنه لا تزال هناك احتمالات أخرى للفهم .وليست التعريفات الحديثة، في كثير منها أقل تبسيطا في مفهومها للمفارقة من كثير من المفاهيم الأكثر قدما . فنحن نقرأ مثلا أن المفارقة في رأي صمويل ها ينز “نظرة في الحياة نجد الخبرة عرضة لتفسيرات متنوعة ليس فيها واحدة صحيحة دون غيرها ،وأن تجاور المتنافرات جزء من بنية الوجود” ومثل هذا التعريف يقرب المفارقة من الغموض.[7]

وننتقل إلى تعريف النقاد العرب للمفارقة فنرى سيزا قاسم تعرفها بأنها “طريقة لخداع الرقابة حيث أنها شكل من الأشكال البلاغية التي تشبه الاستعارة في ثنائية الدلالة”.[8]

إن تعريف.سيزا قاسم بهذه الصورة يجعلها حبيسة في نطاق ضيق ،حيث جعلتها هروب من الرقابة وهذا هدف ربما كان وارداً في بعض الأحيان، وليس دائما موجود،إن المفارقة تعطي جمالية للعمل الأدبي ،وتدعو القارئ إلى كد الذهن لكي يصل إلى المعنى الحقيقي الذي يقصده النص ،وبذلك يجد القارئ متعة في قراءة النص الذي أمامه ،وغرض المفارقة ليس خداع الرقابة فقط بل إن الغرض الأكثر أهمية أنها أداة للتهكم الاجتماعي،الذي يسخر من واقع المجتمع السيء الذي يطمح صانع المفارقة إلى إصلاحه؛ ولهذا يلجأ إلى هذا الأسلوب.

وعند محمد العبد نجد أنها “أداة أسلوبية فعالة للتهكم والسخرية”[9] وعند نبيلة إبراهيم “أنها لعبة لغوية ماهرة وذكية بين طرفين ،صانع المفارقة وقارئها ،على نحو يقدم فيه صانع المفارقة النص بطريقة تستثير القارئ وتدعوه إلى رفض معناه الحرفي ،وذلك لصالح المعنى الخفي الذي غالبا ما يكون المعنى الضد، وهو في أثناء ذلك يجعل اللغة يرتطم بعضها ببعض ،بحيث لا يهدأ للقارئ بال، إلا بعد أن يصل إلى المعنى الذي يرتضيه ليستقر عنده”[10].

وعند ناصر شبانة “المفارقة انحراف لغوي يؤدي بالبنية إلى أن تكون مراوغة وغير مستقرة ومتعددة الدلالات ،وهى بهذا المعنى تمنح صلاحيات أوسع  للقارئ وفق وعيه بحجم المفارقة “[11].

ويلاحظ الباحث أن هذا التعريف مقتصر على المفارقة اللفظية ،ويهمل مفارقات الموقف التي تشمل مفارقات الشخصيات والزمان والمكان ومفارقات الأحداث، وبهذا قدم التعريف المبسط الذي حاول في دراسته أن يبتعد عنه  وأشار إلى ذلك في أكثر من موضع.

وعند أمينة رشيد نجد أنها”نظرة إلى العالم وموقف من حقيقة الأشياء”[12].

وعند سعيد شوقي”بناء المفارقة يتمثل في الإدراك الواعي لطريقة من طرق الأداء تنهض على الخداع ،وتعتمد وجود الازدواج والتنافر في حيزها”[13].

ويبدو تعريف د.سعيد شوقي للمفارقة وكأنه يتحدث عن وعي قارئ المفارقة بها،وعن صانع المفارقة الذي يعي أسلوب المفارقة؛ بحيث يستطيع بناء نص مفارقي يستخدم الخداع اللغوي في هذا البناء ويهمل تعريف المفارقة ذاتها ليقدم وصفا للمفارقة اللغوية ، ولم يقتصر أمر تناولهاـ في مراوغته ـ على مفهومها فقط بل امتد أيضا ليشمل أشكال تبديها ففي النقد الأجنبي نجد ميويك ـ على سبيل المثال ـ يحدد بعض أشكال تبديها على النحو التالي :

المفارقة تنفيذا بلاغيا- التواضع الزائف أو مفارقة الاستخفاف بالذات ـ هزء  المفارقة ـ المفارقة بالتشابه ـ المفارقة غير اللفظية ـ المفارقة الدرامية أو منظر العمىـ مفارقة تنم عن نفسها ـ مفارقة خداع الذات ـ مفارقة الأحداث ـ المفارقة الكونية مفارقة التنافر ـ المفارقة المزدوجة-  المفارقة الرومانسية· [14]

وفي النقد العربي نجد محمد العبد ـ على سبيل المثال ـ يحدد أشكال تبديها في القرآن الكريم كما يلي:

مفارقة النغمة ـ المفارقة اللفظية ـ مفارقة الحكاية أو الإيهام ـ المفارقة البنائية ـ الالماع ـ مفارقة المفهوم أو التصورـ مفارقة السلوك الحركي.[15]

إن المفارقة ليست ظاهرة بسيطة ،وإنما معقدة ،إن الناس يتحدثون عنها وكأنها ظاهرة بسيطة ومألوفة ،وهذا ما جعل إدراكها صعبا ،فضلا عن مراوغة المفهوم والشكل كما يرى ميويك والمفارقة في حالة متطورة باستمرار؛ فلقد تغير مفهومها وتبدل عبر العصور وأيضا بين مختلف شعوب الأرض،وتغير أيضا مفهومها بحيث أصبحت لا تعني في لغة الشارع ما تعنيه في لغة الدرس الأكاديمي بل واختلفت بين الاكاديمين والباحثين أيضا.

وكما يرى سعيد شوقي إن هناك صعوبة في تحديد المصطلح ونقله إلى العربية وترجع الصعوبة في نقدنا العربي في تعامله مع هذا المصطلح لسببين أساسيين ننفرد عن الغرب في اولهما ونشترك في ثانيهما معه .

الأول:يتعلق باختيار اللفظ IRONY في الإنجليزية وأشكاله في اللغات الأجنبية الأخرى، مثل في الفرنسية، IRONE  و الألمانية. ولقد اعتمدت السخرية في كثير من الترجمات للقيام بهذا الدور ،وتبعها في ذلك التهكم”[16]

وقد ترجمها بعضهم إلى الخيال ،وهذا أمر غريب كما يقول سعيد شوقي ونحن معه في ذلك ويورد بعض الأمثلة منها(نعمان محمد أمين طه في كتابه”السخرية في الأدب العربي حتى نهاية القرن الرابع الهجري “نشر دار التوفيقية بالأزهر1976) حيث يتعامل مع كتاب G.G.SEDgewickالذي عنوانه Irony Of  Especially in Drama على انه كتاب في السخرية.[17] وواضح من عنوان الكتاب انه في المفارقة الدرامية.

وعبد اللطيف حمزة في كتابه “حكم قراقوش“(نشر عيسى الحلبي 1950)يتعامل مع لفظ IRONIE  في الفرنسية على أنه التهكم.

ورعد عبد الجليل جواد في ترجمته لكتاب”نظرية الاستقبال مقدمه نظريه ” لروبرت.سي.هول(نشر دار الحوار اللاذقية.سوريا،1992) يترجم كتاب     W.C.Booth الذي عنوانه A Rhetoric Of Irony طبعChicago Univ.Press 1974م،إلى بلاغة الخيال.

ومن الواضح أن الصراع في اللغة الإنجليزية بين ثلاثة ألفاظ هي :Irony  وParadox وSarcasm ففي الوقت الذي ترجمتIrony إلى السخرية أو التهكم وحتى الخيال ترجمت أيضاParadox إلى التناقض أو المفارقة الضدية أو جدل الأضداد.[18]

وهذا دليل على اضطراب هذا المصطلح ومراوغته؛ حيث يتداخل مع مجموعة من المصطلحاتٍ ،ويدل أيضا على اتساع مدى المفارقة ،إلا أنه يبقى هناك أمر تتميز به المفارقة عن غيرها من المصطلحات البلاغية ،وهو التضاد سواء كان في المفارقة اللغوية أو مفارقات الأحداث،فشرط التضاد سواء كان في المعنى أو الموقف شرط أساسي ،بل هو أساس المفارقة.

_________________________________________________________

[1] خالد سليمان،المفارقة والأدب،دار الشروق عمان،الأردن ط1999.1ص14.

[2] -المرجع السابق،ص15

[3] -دي.سي.ميويك،المفارقة وصفاتها،ترجمة،عبدا لواحد لؤلؤة،دار المأمون للترجمة والنشر،بغداد،ط1987,2 ص42.

[4] سعيد شوقي ،بناء المفارقة في المسرحية الشعرية، دار ايتراك للطباعة والنشر،القاهرة ط1،2001 ص26

فر يدريك فون شليجل (1772 ـ 1839) رائد الحركة الرومانسية الألمانية ولد في هانوفر بألمانيا ،ودرس القانون ولكنه اهتم بالأدب أهم كتبه” محاضرات في تاريخ الأدب القديم والحديث” و”فلسفة الحياة” و “فلسفة اللغة” وفلسفته مزيج من كانط، وفخته ،وسبينوزا وجوته وشلر وهو يقول بأن الوعي الجمالي إما كلاسي أو رومانسي و الشاعر الكلاسي يستعبد نفسه لمادته ،بينما الشاعر الرومانسي يخضع مادته لشخصيته.وهو يضع التأمل في مرتبة  ارفع من التفكير ومن ثم يعطي الأولوية للتخيل المبدع يمارسه بسخرية على العالم ويصف السخرية بأنها أعظم تعبير عن الحرية. انظر د .عبد المنعم الحفني،موسوعة الفلسفة والفلاسفة ،مكتبة مد بولي ، القاهرة ط2ن1999،ج1،ص797.
[5] – دي.سي.ميويك،المفارقة وصفاتها ،سبق ذكره  ص35

[6] – نبيلة إبراهيم ،فن القص في النظرية والتطبيق،مكتبة غريب،القاهرة،ب.ت،ص204

[7] – انظر  خالد سليمان ،المفارقة والأدب ، سبق ذكره ،ص15

[8] – سيزا قاسم، المفارقة في القص العربي،مجلة فصول م2 ع2،ص 144

[9].محمد العبد،المفارقة القرآنية،دراسة في بنية الدلالة،دار الفكر العربي،القاهرة،ط1،1999ص18

[10] نبيلة إبراهيم، فن القص بين النظرية والتطبيق،مرجع سابق ،ص198

[11].ناصر شبانة،المفارقة في الشعر العربي، المؤسسة العربية للدراسات بيروت ط1، 2002 ، ،ص46.

[12]   أمينة رشيد، المفارقة الروائية والزمن التاريخي،مجلة فصول ،مج،ع4، 1993،ص157.

[13] سعيد شوقي،بناء المفارقة في المسرحية الشعرية،مرجع سابق،ص84.

ترجمة أنواع المفارقة عند ميويك(المفارقة تنفيذا بلاغياIrony as Rhetorical Enforcementالتواضع الزائف أو مفارقة الاستخفاف بالذاتModesty or Mock self-Disparaging هزء المفارقةIronic Mockeryالمفارقة بالتشابهIrony by Analogyالمفارقة غير اللفظيةNon-Verbal Irony ـ غرارة المفارقةIronic Naivetyالمفارقة الدرامية أو منظر العمى Dramatic Irony or the Spectacleمفارقة تنم عن نفسهاUnconsciousمفارقة خداع ألذات Irony self-betrayingمفارقة الأحداثIrony of Events المفارقة الكونيةIrony Cosmic-مفارقة التنافرIrony Incongruityالمفارقة المزدوجةDouble Ironyالمفارقة الرومانسيةٌRomantic Iron.)
[14] دي.سي.ميويك،المفارقة وصفاتها.سبق ذكره ص20-25.

[15].محمد العبد،المفارقة القرآنية،سبق ذكره،ص53-189.

[16] سعيد شوقي ،بناء المفارقة في المسرحية الشعرية،سبق ذكره،ص30.

[17].سعيد شوقي ،بناء المفارقة في المسرحية الشعرية ،ص32.

[18] المصدرالسابق،ص32.

نشر بموقع فسانيا.

مقالات ذات علاقة

ليبيا واسعة – 42 (شَنْطَة)

عبدالرحمن جماعة

المشهد الآن.. قراءة في القصة الليبية بصيغة الفعل المضارع

الصديق بودوارة

رواية (من مكة إلى هنا) من خلال تحليل دال لغوي

عبدالرزاق الماعزي

اترك تعليق