الصديق بودوارة
# .. ما أتيتُ ألقنُ الأثرياء فن الهوى
فالقادر على العطاء بغنىً عن فنى
ومن يملك أن ينال إعجاب امرأةٍ بقوله :
” اقبلي منى هذا “
أخلى له الميدان ..
ما قصدت بالحيل التي ابسطها
خدمة الأثرياء
فأنا شاعر الفقراء ..
كنتُ فقيراً حين كنتُ من العشاق
ولإخفاقي في منح الهدايا ..
كنتُ امنح الكلمات .
# أوفيد .. 43 ق.م
# .. الأدب لا يمنح الكلمات فقط .. انه ينفخ فيها من روحه ويملأها بالوهج لذلك ترتفع عالياً حتى تستوطن السماء .. وإذا كان ( أوفيد ) قبل ثلاثة واربعين قرناً من ميلاد المسيح قد نأى بأدبه أن يكون صنيعةً للأغنياء .. فان الأدب الليبي والقصة بالذات قد سبحت بهدوء على شاطئ هذا التصنيف الذي يبدو متسرعاً بعض الشيء ..
القصة الليبية دأبت على منح الكلمات بلا توقف منذ صيحة الميلاد الأولى .. ولن أتوقف طويلاً عند البداية المعتادة التي تتحدث عن بواكير القصة الليبية.. فاغلب المهتمين يحفظون عن ظهر قلب الديباجة التي تقول بنشأة القصة الليبية بأقلام روادها وسوف أجد نفسي متورطاً في مقالةٍ معادة تجتر ذات التفاصيل المعتادة .. تفاصيل العقود المتتالية وصولاً إلى هذا الجيل الذي أتحدث من قلبه .. وأحيا وسط جلبته وصخب إبداعه ..
هذه القراءة لن تهتم بسرد مراحل تاريخ القصة الليبية ولن تتورط في تمجيد روادها المبجلين فقد نالوا منه ما يفيض عن الحاجة ولن ترتدى عباءة الناقد المتخصص .. لكنى سأتكلم هنا بصيغة الفعل المضارع .. سأتحدث عن القصة الآن .. القصة الليبية التي تُكتب هذا الوقت وربما هذه الدقــائق .. ولا يهمني بعد ذلك إن كان صاحبها كهلاً في السبعين أو فتىَ في ميعة الصبا فالنص وحده هو الحكم وهو الناطق الرسمي الوحيد بلسان صاحبه .
القصة تكتب ذات صاحبها .. ترسمه على الورق .. يحدث هذا بشكلٍ عام .. لكن المقدرة على صياغة هذه الذات تتفاوت من قاصٍ إلى آخر .. وعند هذا المنعطف بالذات نعثر على جوهرةٍ ثمينة تُسمى وبالخط العريض ( الموهبة ) .
على خارطة القصة الليبية الآن العديد من الأسماء .. كلها تحتفظ لنفسها بحق التواصل وكلها تحمل هم الحرف ويبدو إنها مقتنعةً تماماً أن حياتها الحقيقية لن تكون إلا على الورق ..
تتفاوت هذه الأسماء .. حتى في تاريخـــها المهني وعمرها الزمني لكـن المشترك الكبير بينـها هـــــو (عدم التفرغ ) .. إننا و بمطالعة سريعة للسير الذاتية المختصرة لهؤلاء الكتاب نكتشف إن أحداً منهم لم يتفرغ لكتابة القصة .. انهم يزاولون مهناً أخرى بل إن بعض هذه المهن تبدو بعيدةً تماماً عن المجال الأدبي .. ولو طال بنا البحث بعض الشيء سنجد إن المتواجد الآن على الساحة هم خليط من المستويات العمرية المتباينة التي تتجاور وتتعايش وتتواصل بشكل يثير الدهشة والإعجاب معاً .
إننا نرى عبد الرزاق العاقل ( 59 سنة ) الذي لم تشغله مهامه المتعددة في المجال المصرفي عن كتابة قصته وبغزارة متوسطة نسبياً .. إننا نقرأ له بشكل شبه اسبوعى تقريباً وعلى مسافة قريبة منه نرى قاصاً شاباً هو محمد الأصفر يمتطى شبكة الانترنيت لينشر من خلال خيوطها المتماسكة عشرات القصص .. انه يكتب بلا توقف قصة مثيرة للجدل .. وكأنه بذلك يريد أن يعوض مسافة زمنية شاسعة من اقصر طريق ممكن .. هناك أيضاً على الساحة الآن احمد يوسف عقيلة ( 44 سنة ) الذي صدرت له مجموعـــــة ( الخيول البيض ) عام 99 .. وهناك غازى القبلاوى صاحب مجموعة ( إلى متى ) التي صدرت عام 2001 .
هذا ليس كل شئ .. فعلى درب القصة الليبية التي تُكتب الآن يسير الكثيرون ولكن تتفاوت الخطى .. هناك محمد بالقاسم ألهوني ( 65 سنة ) الذي يكتب القصة من العام 1958 وحتى هذه اللحظة .. واصدر مجموعته الأولى عام 1968 أي قبل أن ينشر غازى القبلاوى قصته الأولى بثمانية وعشرين عاماً كاملة .
هناك أيضاً عادل بوجلدين ( 35 سنة ) الذي يكتب القصة باستحياء وينشر بوهن .. وهناك عوض عبد الهادي ( 42 سنة ) .. إما محمد عقيلة العمامى ( 59 سنة ) فهو الأنشط في إصدار مجموعاته القصصية التي يريد من خلالها تأكيد تواجده على الساحة كأديب البحر الليبي مستعيناً بذخيرة وافرة من المعارف والخبرة العملية في هذا المجال .. ومنذ اصدر العمامى مجموعته القصصية الأولـى عــــــام 2000 وهو يواصل الإصدارات إلى جانب كتب متخصصة عن الكائنات البحرية .. ولا يمكننا أن نغفل سالم العبار ( 44 ) الذي ابتعدت به مهام العمل الصحفي عن عالمه المفضل .. وان كان قد تمرد على أعباء العمل بإصداره لمجموعته الثالثـة ( خديجار ) عام 98 ..
إما ابراهيم بيوض ( 33 سنة ) فيبشر بتواصل اكبر مساحة مع القصة وهو الذي نشر مجموعته الأولى
( خفايا التأويل ) عام 99 .. وعلى نفس المستوى العمرى يقف محمد زيدان صاحب ( الأشياء الكثيرة المعروفة )كما تقول سيرته الذاتية المدونة في موقع القصة العربية على شبكة الانترنيت .. وان كنت لم اعثر عليها ضمن النتاج المحلى المتوفر على ارفف المكتبات .. وقبل أن يتساءل أحدهم عن غياب المرأة على هذا المشهد أقول إن آمال العيادى تبدو وحيدة بين شباب هذه المرحلة وهى تنشر بانتظام وتحاول أن تحتفظ بحضور المرأة في عالم القصة .. سالم الاوجلى ( 41 سنة ) ورغم توليه مهام الدار الجماهيرية للنشر إلا انه يتواجد على الساحة بمجموعتـه الأولى ( شهوة السكين ) التي أصدرها عام 2000 .. ورغم إن عمر الككلى يغيب عن النشر المتكرر إلا إن مجموعته الأولى ( صناعة محلية ) صدرت عام 99 مشكلة حضوراً لهذا القاص لايمكن إنكاره .. ويبـدو محمــد المغبوب ( 48 سنة ) مصراً على التواجد من خلال ثلاثة مجموعات متتابعــــــــــــــة ( التمثال 99 ) و ( المتاهة 2000 ) و ( على نحوٍ ما 2000 )
هذا المختصر الذي أرجو أن يكون مفيداً لا يقول كل شئ .. انه يستطلع فقط .. ومن خلاله نرى إن أجيالاً عديدة تتواجد معاً على ساحة واحدة وفى زمانٍ واحد .. وتشكل معاً مشهداً حياً يكتب الآن .. هذه اللحظات .. اليوم وغداً .. هذا المشهد هو الذي يصنع القصة الليبية الآن .. ولعل هذه الصورة لا تكتمل إلا إذا مددنا البصر اكثر .. ومعه امتدت أصابعنا لتقلب أوراق هؤلاء وتقرأ لهم .. وإذا كانت المقولة المأثورة تصرخ منذ زمن ( تكلم لكي أراك ) فان المعيار الصحيح للحكم على القصة الليبية اليوم يصرخ بدوره ( أكتب لكي أراك ) .. وإذا كان هؤلاء الكتاب لا يتوقفون عن ممارسة كتابة القصة فان من حقهم علينا أن نراهم بوضوح اكثر .. وهذا بالتأكيد ما ننوى فعله عبر ما سيقبل من سطور .
عبد الرزاق العاقل الذي امتهن العمل المصرفي وعمل في أوروبا والإمارات واصدر كتاباً في مجال عمله بعنوان
( إيديولوجية السوق ) وعضو منظمة متعاملى النقد الدولى وعضو متعاملى النقد بدولة الإمارات .. كل هذا الانهماك في العمل المصرفي لم يمنعه من اصدر مجموعتين ورواية واحدة بالإضافة إلى دراسات متعددة ومخطوطات بانتظار الطبع .. ورغم المسافة الزمنية الطويلة التي قطعها هذا المحارب القديم إلا انه لا يزال متواجداً على ساحة القصة الليبية مثابراً بروح شاب في العشرينات .. انه يستحضر غربته الناتجة عن سنوات العمل الطويلة خارج الوطن بشكل لا إرادي من خلال بطله في قصة ( حديث بلا شفاه ) وكعادته يقودك إلى حوار داخلي وكأن أبطاله يتحدثون فعلاً بلا شفاه .. إن الأم هنا تحذر ابنها من اخوته قائلةً له :
اخوتك أشواكهم خطيرة .. والأخطر إن ضفائرهم تنجدل في أحضان أشجار ثقيلة !! ..
نص ( العاقل ) نص داخلي يزدحم بالهدوء .. هو نص ساكن لكنه في داخله يضطرم بالوجع .. لكن محمد الأصفر يكتب قصته بصخبٍ لا يوصف .. انه يصر على أن تكون مثيرة للجدل قدر الإمكان .. حتى انه يبدأ من العنوان فيجعله لافتةً تسطع من بعيد فتبعث على التساؤل .
إن مكتوب الأصفر يُقرأ من عنوانه كما يقولون .. فنحن نقرأ له من العناوين : ( حكاية جورب )
و ( جرعة برزخ ) و ( فواق بنكهة النعناع ) و ( أزميل يحرث ) .. و ( تداعيات الغرفة 616 ) و ما إلى ذلك .. انه يعرف الطريق جيداً حين يخرج من ذاته .. عندما يتأمل الدنيا من خارج جسده .. عندها يصبح لقصته مذاق الدهشة مثلما فعل في ( تداعيات الغرفة 616 ) إما عندما يكتب نصه الذاتى .. نصه المتأمل فانه يضل الطريق .. محمد الأصفر هو قاص الدهشة مثلما عبد الرازق قاص السكينة .. إما احمد يوسف عقيلة فانه كتب قريته بشكل جيد طيلة السنوات الماضية .. اتكأ طويلاً على الموروث .. استعار كل حكايا الجدات التى نعرفها جميعاً وحتى النكات الدارجة وفصل منها عباءة زاهية الألوان من قصص تعبق بالشمارى والبطوم والشيح .. ولكن .. ماذا بعد ؟ .. احمد يوسف خرج لبعض الوقت من أسر قريته وكتب من خارجها لكنه أضاع كمحمد الأصفر الطريق ومؤخراً قرأت له ( البركة ) التي تتحدث عن رعاة يتداولون قصة بركة مياه يبدو فيها الإنسان عارياً مهما ارتدى من لباس .. في البركة يعود احمد إلى قريته مرتدياً عباءة أساطيرها مستعيداً بذلك بعضاً من ألق بداياته .. إما إبراهيم الككلى فيكتب القصة بإحساس شاعر .. ولعل هذا ما يحملني على القول ان الاسلوب الشعري لا يسئ إلى القصة لكن على القاص أن يكتب قصته بإحساس القاص وحده .. فالإحساس هو الذي يطبع بصمته المميزة على النص .. والسؤال الحاضر على الدوام هو : بأي إحساسٍ تكتب نصك ؟ .. إننا نقرأ لإبراهيم قصة قصيرة جداً بعنوان ( العناق ) تقول وفى سطر واحد :
حاول البحر ان يعانق القمر لكن سهامه الفضية أصابته فمات .
آمال العيادى حاملة لواء المرأة في هذا المشهد تكتب القصة من داخل إحساس المرأة فيها .. وهذا حق طبيعي .. إنها تجعل بطلة قصتها ( استلاب ) وسادة أثيرة إلى قلب صاحبتها وتطرح أسئلتها من خلال حوار داخلي بين الاثنين .. إننا لا نكاد نعثر على جديد في قصة آمال لكن إصرارها على طرح السؤال يبشر بمستقبل واعد لكاتبة مثابرة ..
محمد زيدان يخوض معارك قصته بسلاح اللغة .. ( الولد الذي كنته ظل يعايرني هذه الليلة على نحو موصول : لو كنت أعرف إنني سأكونك ذات يوم لانتحرت . )
عادل بوجلدين يتقن التقاط المشهد .. انه يقتنص الصورة الواحدة بإتقان كما في قصتــه ( صيد ) لكنه يبقى بحاجة إلى رسم ظلال لهذه الصورة .. إلى خلق عمق لها .. انه أيضاً يفقد دفة القيادة عندما يبتعد عن التقاط مشاهده ويلجأ إلى السرد مثلما فعل في قصته ( بحجم الخيبة ) .. إما محمد الهونى فهو يكتب قصته الآن بأسلوب عصره هو .. انه يقدم لنا ذات المدرسة القديمة الكلاسيكية وهى مدرسة لها مريدوها على أي حال ..
ها قد حان وقت الصمت ..
ربما استهلكت مساحةً أرجو أن استحقها .. لكن مساحة الحديث عن القصة الليبية تبدو اكبر من أن تسعها سطور معدودات .. هذا من حيث المبدأ .. لكن المؤكد إن هذه الأقلام التي تحدثت عنها وأقلام أخرى لم يسعفني الوقت لتناول إبداعها .. هي ما يشكل الآن مشهداً قصصياً جديراً بالتناول والحديث ..
إن القصة الليبية الخارجة لتوها من صمتٍ فرضته ظروف حصار جائر دام لسنوات تبدو تماماً كالأغنية الليبية ( إبداع مدهش وحضور متواضع ) .. هذه المعادلة التي ينبغي لها أن تنتهي وتزول .. فدهشة الإبداع لا تتم ولا يكتمل بهاؤها إلا بالانتشار .. فالقمر لا يبدو بهذه الروعة إلا لكونه يتربع وسط سماء شاسعة الاتساع .
وان كنت لم أتحدث عن أسماءٍ عديدة أبدعت واعطت فلا لشئ سوى اننى تعمدت فى هذه القراءة أن أتحدث بلسان الفعل المضارع .. أي بلسان حال المكتوب الآن .. في هذه الفترة بالذات ..
وعلى أي حال .. أنا مجرد كاتب يمنح الكلمات ويحاول ان يخلق منها شيئاً .. أن يصنع منها ضوءاً ينير عتمة الطريق .. وقد مددت عبر هذه القراءة للصواب يداً أرجو أن تكون قد وصلت إليه.
___________________________________
مجلة المؤتمر- تصدر عن مركز أبحاث ودراسات الكتاب الأخضر- السنة: 01- العدد: 10-11- التاريخ: 11-12/2002- شهرية