دراسات

رواية (من مكة إلى هنا) من خلال تحليل دال لغوي

رواية من مكة إلى هنا للكاتب الصادق النيهوم
رواية من مكة إلى هنا للكاتب الصادق النيهوم

هذه التجربة بدأت باكتشاف، أثناء قراءة رواية (من مكة إلى هنا) وهي العمل الذي أعطاه الصادق النيهوم خلاصة طاقته، لكونه، فيما أرى، المنجز الأصيل الأعمق في حياته، عاشه بأقصى ما في طاقته من ذخيرة اللغة، والرغبة في أخذ مكان مرموق بين الروائيين الكبار. وقد فتح الاكتشاف لي باب تجريب التحليل (السيميائي اللغوي) للنص، كون التحليل يمكنه كشف نظام دلالي، توفره أدوات خاصة ترتبط برؤية الكاتب، وتخرج بالنص من حدود الحكاية، إلى مستوى الإيماء والقول بفعالية تنفي عشوائية تعبرها قراءة سطحية. وقد قدمتها ضمن دراسة الماجستير، وكان على بعدها أن أجد نظيرا لها في رواية (الشيخ والبحر) لهمنغواي،

وقد حسبت أولا أني تورطت في تحد لم أعرف مداه، ولكن قراءة أخرى لرواية همنغواي جعلتني أكتشف مفتاح تحليل ممثل في لفظة واحدة. وقد استغرقت كتابة المبحثين وقتا، ولكني شعرت بغبطة زائدة بسبب تحقيقهما.  أدرج هنا مبحث رواية النيهوم، أولا، وهو في الرسالة كان ثانيا:

يمثِّل مسار الرواية، حضور الشخصية المحورية لتحقيق ذات فاعلة، باقتحام عالم الصيد لتحقيق الطموح الفردي، وكون صيد السلاحف تحدياً مقبولاً مهما كان الثمن، ولكن هذا الحضور محاصر بحلول شخصيتين قويتين هما: الزوجة والفقي، وكلاهما لا يعادي الشخصية المحورية من الخارج فقط، وإنما من الداخل أيضاً، لكونهما ملتصقين بالوعي – خاصة الفقي – وبترافق والتصاق يومي – خاصة الزوجة -. وهكذا، فإن رحلة الشخصية المحورية الكبرى، ليست في الخارج وحده، وإنما في الداخل، أي مع الوعي، ومع التأثير النفسي للخارج على الداخل. وهكذا فإن انعطاف الأحداث، تشكل على مراحل في تحويل الذات نحو انتصارها المأمول. وسنرى أن المؤلف يتابع – وجود – الشخصية باستخدام مقاييس لاحتواء الحدث، مكونة من حالة زمنية قد لا يكون القياس الكمي لها مقصودا، وإنما المقصود هو انبثاق الحدث، ووجازة تكشفه. وقد استخدم المؤلف أساساً مفردة ” اللحظة ” للتعبير عن التحول، نكرة ” وفي لحظـة ما ” أو معرفةً ” وفي اللحظة التالية “.

وإذ يجري التأسيس في الرواية من خلال المطعم، والخليج، والبيت، تمهيداً لنقل الأحداث إلى صباح اليوم التالي، وهو اليوم الذي ستبدأ فيه رحلة الصيد؛ فإن ما يمكن ملاحظته، بالإمساك بتعبير ” لحظة ” أن المؤلف بدأ في تتبع شخصيته المحورية، وسنرى أنه هنا ينسب العبارة إلى نفسه، والاكتشاف للشخصية، في المرحلة الوسطى من هذا التأسيس، أي في لقائه بالصياد. ويظهر هنا أن عملية غليان قد جرت للشخصية في المطعم، وعندما نُقلِت إلى الخليج، بدأت خيوط إضاءتها من داخلها في مرحلة أهدأ، وتمثل احتكاكاً بالمجتمع الحميم، ممثلاً في صياد فقير. وهكذا سيكون عرض هذه الومضة من هنا انطلاقاً نحو النهاية:

1- وفي اللحظة التالية، كان الزنجي يبحث في هدوء عن كذبة صغيرة.. (ص 16).

2- وفي اللحظة التالية، كانت أنفاس امرأته تطرق سمعه بانتظام.. (ص 30).

3- وفي اللحظة التالية، كانت امرأته تهزه بعنف وتقول له من طرف الوسادة المزينة بهلال فضي: استيقظ (ص 33، 34).

4- وفي اللحظة التاليـة، كان الزنجي يجدف تحـت وابل مريب من المطر الصاعق البرودة. (ص 42).

5- وفي لحظة ما، خيل للزنجي أن صوته لم يصدر من داخله بل جاء بطريقة مفاجئة من جانب القارب الأيسر حيث ربط حربونه. (ص 45).

6- وفي اللحظة التالية، كان كل شيء على ما يرام.. وكان الزنجي قد صفى حسابه القديم للمرة الألف.. (ص 55).

7- وفي اللحظة التالية، انزلق الحربون من يده واصطدم بحافة الجرف الناتئ (ص56 – 57).

8- وفي اللحظة التالية، رأى وجه الصبي في الماء. (ص 58).

9- وفي اللحظة التالية، رأى الزنجي فرنكاته الثلاثة.. (ص 60).

10- وفي لحظة بسيطة خالية من العمق، كانت السلحفاة تأخذ طريقها إلى السطح مفتوحة العينين (ص 62)

11- وفي لحظة ما، تذكر الزنجي قرية الصيادين..  (ص 63).

12- وفي لحظة عميقة مليئة بالعذاب والترقب، رفعت المرأة الزنجية رأسها وراء مواشير الضوء.. (ص 68).

13- وفي اللحظة التالية، كان الجرذ قد اكتشف بكبرياء أن أحداً لم يدل له الحبل الأبيض.. (ص 76).

14- وفي لحظة ما، توقفت العاصفة لكي تنظر إليه بذهول ثم دارت على أعقابها وانطلقت تصرخ مثل كلبة مذعورة..  (ص 80).

15- وفي اللحظة التالية، بدأ الزنجي يغالب شعوراً جامحاً بأن يمد يده إلى جانبه ويقرصها في بطنها علامة الرغبة في الصلح.. (ص 84).

16- وانطلق يرويها بتركيز بالغ حتى خيل إليه (في لحظة ما) أنه يستطيع أن يخرج فوراً إلى الخليج ويرى ذكر السلحفاة.. (ص 85).

17- وفي اللحظة التالية، بدا كل شيء على ما يرام (بعد الحوار مع النورس حول الطائر المعمم) (ص 97)

18- وفي اللحظة التالية، أطلت الشمس برأسها وراء زجاج النافذة.. (ص 106).

19- وفي اللحظة التالية، ظهر ذكر السلحفاة في وسط الخليج.. (ص117).

20- ثم رأى الفقي ذراعه – مسعود – يهوي من علوه الشاهق ويلمس وجهه في لحظة خاطفة خالية من الألم (ص 119).

21- وفي لحظة ما توقف الريح في مكانه.. (ص 121).

22- وفي لحظة ما، بدا أن الزنجي سمعه فوق الرف الصخري – الصبي-.. (ص 124).

23- وفي لحظة ما، وضع الزنجي ذراعيه تحت رأسه ونظر إلى وسط السماء بالضبط.. وقال ساخرا.. (ص 127).

24- وفي لحظة ما، أحس الزنجي بالامتنان تجاه امرأته.. (ص143)

25- وفي لحظة ما، بقي الفقي معلقاً في العتمة.. (ص 146)

تحليل:

يمكن ملاحظة أن مرات استعمال عبارة ” في اللحظة التالية ” قد بلغت 13 مرة، بينما كان استعمال ” في لحظة ما ” 9 مرات. إلا أن هناك ثلاث مرات يمكن أن تضاف إلى هذه المرات التسع، فقد وردت في ترتيبي (10 و12) بقول المؤلف: ” وفي لحظة بسيطة خالية من العمق.. إلخ “، حيث هذه المرة لا تمثل حدثاً تالياً، وإنما حدثاً راهناً آنياً هو لب الواقع. وقوله ” وفي لحظة عميقة مليئة بالعذاب والترقب.. ” حلّت بفاصل ” لحظة تالية ” عن الأولى ملتصقة بالزوجة، ولهذا فإن هاتين اللحظتين بتنكيرهما ” لحظة بسيطة” و ” لحظة عميقة ” تنضافان إلى صف ” في لحظة ما “، ويمكنهما أن تشتركا معها بهذه الصفة، فتعطيانها مؤازرة دلالية، حيث تنبئ مفاجأتها عن مواجهة لحظات أخرى مفاجئة، ذات أثر سالب، مثل توهم صدور صوت من الحربون. وتُضاف إليهما اللحظة الواردة في الترتيب (20) وهي مميزة بمخالفتها للحظتين المذكورتين، فهي ليست بسيطة ولا عميقة، ولكنها خاطفة.  

وهكذا فإن عدد مرات تنكير ” اللحظة ” يبلغ (12) مرة، ولكن هذه المرات تحتفي ضمنها بتميز ثلاث لحظات عنها، لمواجهة اللحظات الأخرى المقابلة، والمحددة، أي ” اللحظة التالية “. إن سبب هذا الاحتفاء هو كون أولاها بالذات هي اللحظة الوحيدة – ضمن أحداث الرواية وزمنها – التي يتحقق فيها في الواقع، اصطياد السلحفاة الأنثى، وهو الأمر الذي يشكل شق التحدي للخرافة + شق الإفلاح في الحصول على أولى بشائر الإنجاز المصلحي. ولهذا الأمر فقد اختار المؤلف أن يدقِّق، ويتأنّى قليلاً ليجعل اصطياد السلحفاة يظهر على أنه حدث بسيط في جهده من ناحية، وأن السلحفاة هي من كان يواجه الواقع، من ناحية أخرى. وسيظل الشِقّ الآخر منتظَراً، بظهور السلحفاة الأنثى مرة أخرى، بدلاً من الذكر. وأن اللحظـة الأخرى – العميقة – هي لحظة مكابدة من مسعود للإيقاع بزوجته في حبائله، وإرباكها، لنقلها إلى حالة وعي مخالفة لما هي فيه. وتُضاف لحظةٌ خاطفة في نزول ذراع مسعود على الفقي، مجسِّدة لاجتراء مادي لَمَسَه الفقي.

وظهـور السلحفاة في المرة الثانية لا يحدث اصطيـاداً، فقد جاءت مختارة، ومن وقع اصطياده – في الواقع- هو الفقي، ولهذا فإنه مواجَه بلحظة مُنَكَرة: ” وفي لحظة ما بقي الفقي معلقاً في العتمة ” ولكن زوجة مسعود صارت موضع ود مسعود في النهاية، وهي مدرجة في الترتيب (24) ضمن ” في لحظة ما “. وما دامت هاتان اللحظتان بالذات – اصطياد السلحفاة وعذاب الزوجة تحت وطأة زوجها المحاور لها- معاملتين تنكيراً، فلعل المؤلف قصد تحميلهما بقيمة مضاعفة، لمكافأة عدد مرات ” في اللحظة التالية ” البالغة (13) مرة، فتصير مرات ” في لحظة ما ” (13) بدلاً من (11) لقيمة نوعية في ثلاث لحظات مضافة إليها، وردت أولاً بصيغة تعبير لا تلتزم الحرفية، ولكنها تنطوي عليها في معناها، ثم جسدت رجحاناً في قيمتيها، كونها جوهراً لمسرى الرواية الحقيقي، [ اصطياد السلحفاة -أي قبول التحدي للخرافة- ووضع المرأة في حالة مكابدة -لإلجائها إلى الوعي الصحيح- وإشعار الفقي ببدء الاجتراء عليه ].

في تقابل آخر للحظات، سنرى أن هناك ثلاث لحظات أخرى هي:1- لحظة مرتبطة بالزوجة، ولكنها هنا محددة: ” وفي اللحظة التالية كانت أنفاس زوجته تطرق سمعه بانتظام”. 2- ” وفي اللحظة التالية كانت زوجته تهزه بعنف”. وفي مقابل هاتين اللحظتين، نلاحظ أن نهاية الرواية تشهد لحظة منكرة، تخص الزوجة: ” وفي لحظة ما أحس الزنجي بالامتنان تجاه امرأته “. 

تحليل: هذا التقابل يكشف العمق المقصود من وجود زوجة، تشكل ثقلاً، سواء للشخصية، أم للمؤلف، الذي أحل المرأة محلاً مهما، فكأن الرحلة بكاملها كانت لتنقية الإحساس بها، عبر تحريكها في إيجابية يراها جديرة بها، أو جديرة بأن تتبناها. إن أنفاس الزوجة وخفقات قلبها تنتقل إلى سمع الزوج- بانتظام- ولعله لم ينسها، فالراوي لم يقل إنه نسيها، ولا قال إنه ظل يتذكرها، مما قد يشحن هذا الانتقال بدلالات تتركز في الحساسية والالتصاق. وهزها زوجها يمثل بدوره عمق الصلة الداخلية، التي تدفع يد الزوجة من الداخل، هي التي وعت – ربما خلال الليل – بعد الشقة بينها وبين الفقي، حيث أفادها زوجها بما يقوله عن الزنوج، لكي تهز زوجها بكلمة ” استيقظ “، هذه اللفظة العامرة في دلالتها بالإيحاءات، حيث هي جديرة الآن بأن توقظ، وحدها، دون أي صوت آخر، هذا الإنسان [ سنلاحظ فيما بعد أن الأنثى تكرر فعلها هذا مع مسعود، ولكنها ستتجسد في حمامة، إذ تستيقظ الزوجة على صوت الأذان، بينما يستيقظ مسعود على طيران الحمامة، التي جاءت تنقر من الحب المتبقي من طحين اليوم السابق. وربما سنحس، بقاسم الطعام المشترك، أن الحمامة صورة مُعلاَّة للزوجة، أو للأنثى على أية حال، سواء في لا وعي الشخصية، أم المؤلف].

على أنه أمام عدم التساوي العددي الظاهر الذي يبدو محيراً، يمكن البحث عن الرقم الذي سيُحدث تكافؤاً، فنجده في لحظة علوق الفقي في الظلام، ويكون الأمر على النحو الآتي:

في اللحظة التالية، كانت أنفاس الزوجة تطرق سمع الزنجي.

في اللحظة التالية، كانت زوجته تهزه بعنف.

مقابل:

وفي لحظة ما، تذكر الزنجي امرأته بود.

وفي لحظة ما، بقي الفقي معلقاً في العتمة.

 وهكذا سنجد أن هناك لحظتين أولاً، يمكن تجربة مقابلتهما باللحظتين الأخيرتين على النحو الآتي:

1- وفي اللحظة التالية كانت أنفاس زوجته تطرق سمعه: وفي لحظة ما أحس الزنجي بود تجاه زوجته.

 2- وفي اللحظة التالية كانت الزوجة تهزه بعنف وتقول له استيقظ: وفي لحظة ما بقي الفقي معلقاً في العتمة.

 ومن الواضح أن الحالة الأولى قد شحنت وداً إلى قلب مسعود، عبر بقائها وتتابع الأحداث، بينما أدت الحالة الثانية – عبر الأحداث نفسها – إلى البدء في هذه الأحداث الممثلة لإيجابية الزوجة، إذ تهزه أولاً موقظة، ثم تضرب الفقي، إلى أن يكون الفقي معلقاً في العتمة.

ونكتشف أن دلالة ” المفاجأة ” تنبثق في صورة تبدو مماثلة للقَدَر، لكي تومض بحدث مضيء، يشحن قلب مسعود، وربما قلب المؤلف، حيث الامتنان للمرأة حدث له قيمة ثمينة وحاسمة، وما طرأ على الفقي أمر له قيمة مماثلة. [ربما لكونه من سحب وعي المرأة، وجعل هذا الوعي أرضاً مستباحة دون مسعود].

ويمكن أيضاً قراءة ثلاث لحظات منكَّرة بشكل خاص على النحو الآتي:

1- وفي لحظة بسيطة خالية من العمق كانت السلحفاة تأخذ طريقها إلى السطح مفتوحة العينين.

2- وفي لحظة عميقة مليئة بالعذاب والترقب رفعت المرأة الزنجية رأسها وراء مواشير الضوء.

3- ثم رأى ذراعه يهوي من علوه الشاهق ويلمس وجهه في لحظة خاطفة خالية من الألم.

واللحظات السابقة، بصيغتها الخاصة المميَّزة، تحمل دلالات تطور: اصطياد السلحفاة، اصطياد الزوجة، أو إنقاذها، وضرب الفقي أو إلقاؤه أرضاً ليشمَّ رائحة منطقة يتخذها مسعود عالماً له، أي رائحة البحر الذي وصف نفسه – لاحقاً – بأنه فقيه (ص 131) والأمور ثلاثتها تجلب تشفياً لنفس مسعود، وتحمل أيضاً دلالات رمزية لما يمثله الثلاث: الفقي والزوجة والسلحفاة من أهمية. ويُلاحظ أن الزوجة فيما بينهما مخصوصة بلحظة عميقة، لأنها مقصودة بالإنقاذ.

وإذا سعينا وراء المؤلف، وهو يكتب نصه، لاحظنا أنه يتعامل مع الحدث بوصفه مترتباً على   ما يُحوِّله إلى قيمة، فهو ليس مجرد حدث ممتد في زمن مقيس، بحيث يمكن تأمله ببطء، والانفعال معه بوقع الترقب والإثارة، ولكنه عَرْضٌ لتحولات ولأحوال، ولهذا فإن القياس الزمني تُستعمل له ألفاظ مثل ” في لحظة ما” و ” في اللحظة التالية”، وفيما بين ذلك تُستعمل ألفاظ ” ثم ” و ” فجأة ” و ” لبرهة ” و ” واو العطف “. ولتتبع مثال عن ذلك، يمكن ملاحظة ما يلي:

لحظة (1): بعد تلاوة مسعود لآيات الكرسي: ” وفي اللحظة التالية رأى وجه الصبي في الماء”.

الأحداث: الحدث الوحيد الذي سيقع بعد هذا هو أن مسعوداً سحب حربونه وفحصه، [ربما للتأكد من حقيقة الوهم كونه وهما]، ثم أدخلـه من جديد وانزلق وراءه بقاربه مستعملاً مجدافاً واحداً (ص 59) [كناية عن شدة فعاليته].

 لحظة (2): إثر هذه التصرفات – وهي قد لا تستغرق وقتاً طويلاً – يعبر عن الحدث التالي بقوله: ” وفي اللحظة التالية رأى الزنجي فرنكاته الثلاثة تسبح برزانة … “.

لحظة (3): وما يحدث إثر ذلك هو تجديف مسعود، وهو تجديف خفيف، يعبر عنه الراوي بأنـه ” مثل ريشة ناعمة الملمس دون أن يحدث صوتاً مسموعاً (ص 61) [كناية أخرى عن شدة الفعالية]. ورؤيته ذكر السلحفاة، واعتراضه طريقه بمجدافه، ومخاطبته، وانزلاق الحربون، ورفع السلحفاة.

ثم يُعبَّر عن الحدث الملتمَس من مسعود بـ: ” وفي لحظة بسيطة خالية من العمق كانت السلحفاة تأخذ طريقها إلى السطح مفتوحة العينين “.

لحظة (4): إثر هذه التصرفـات يذكر الراوي أن مسعـوداً كان بعد أن خاطب الصبـي الميت ” يجدف بسرعة ملحوظة رغم إحساسه بالتعب ” (ص 63) [كناية ثالثة عن شدة الفاعلية] ثم ترد مفردة اللحظة إثر هذا التصوير: ” وفي لحظة ما تذكر الزنجي قرية الصيادين وتذكر المطعم الجديد والقسيس الجاسوس … إلخ ” (ص 63).

فجأة): بعد لحظة التذكر التي تحتوي الفقي أيضاً، يعبر عن اختراق هذه اللحظة بـ.. “فجأة”:” وفجأة ترامى إلى سمع الزنجي هدير محرك ” (ص 64).

ثم): بعد سماعه هدير المحرك فوراً، يسمع مسعود صوت الصياد وهو يغني، والراوي يعبر عن هذا الحدث بقوله:” ثم سمع الصياد يغني بأعلى صوته ” (الصفحة نفسها).

برهة): والقارب يمر، والصياد يغني، ينصت مسعود، وهناك فترة زمنية يعبر عنها الراوي ببرهة:” وأنصت إليه برهة مستشعراً نسائم الليل الخريفي الباردة” (نفسها).

و): لوصل ما يحدث بالسابق، يعبر الراوي عما يحدث لمسعود بالتذكر، وهو يربط ذلك بواو العطف: ” وتذكر إذ ذاك الرومي الأعرج.. إلخ ” (نفسها).

 قيم التراكم الزمني للحظات والتحولات:

 إذا نظرنا إلى اللحظات الثلاث الأولى، رأيناها على النحو الآتي:

1- لحظة أولى: يرى وجه الصبي الميت ____________ الخوف (-).

2- لحظة ثانية: يرى السلحفاة ___________________ الاستبشار (+).

3- لحظة ثالثة: يصيدها _______________________ تحقق (+).

وبهذا تزحف اللحظتان الأخيرتان على اللحظة الأولى، عبر خطوتين تاليتين، تترتب الأخيرة على سابقتها، بعامل الفعل الإنساني الإيجابي، وتضع مسعوداً في حالة وجود صاف. أي أنه الآن في أقصى حالات تحقق كينونته، بتحقق انتصاره، لأمر ما مغروس في داخله، ضمن هذه الحادثة بالذات.

ولكن مسعوداً في البحر الآن، وأمامه القرية، وعليه أن يعود. وبهذا فإن الأمر سيختلف، لأن المعاناة ستواجهه، وكذلك مشكلته المادية، حيث عليه أن يكرر رحلاته هذه، وعدم وجود المحرك يتعبه. وسوف نلاحظ ما يلي:

لحظة: يتذكر القرية.

فجأة: يسمع هدير المحرك.

ثم: ينصت لغناء الصياد.

و: يتذكر الرومي الأعرج.

إن الحالات الثلاث الأخيرة ليست مترتبة سببياً على الأولى بالطبع. وفي الواقع أنها سببياً تبدأ من ” فجأة “، وينتج عنها مترتبات الإنصات والتذكر. إن هذه الأمور مرتبطة، وهي تحدث تباعاً، ولا نتصورها إلا كذلك، حتى إنها قد تتداخل. لكن اللحظة الأولى تملك قيمة ذاتية، وهي تخص ما يلي اصطياد السلحفاة، وهو أمر طيب لمسعود، ولكن بعد إنجازه سيبدأ في التفكير في العودة، وثقل ما سيلقاه، أو ما يحمله في ذاكرته، وهذه القيمة تصل هذا التذكر الذي يحدث تلقائياً، وبشكل متوقع، بالظهور الذي يبدو مصادفاً للقارب الآخر. إلا أن هذا التعدد الرباعي يضع اللحظة الأولى في حالة تكافؤ مع رؤية وجه الصبي الميت.

ولو أننا أعدنا النظر في التجزئة الأخيرة، لكانت على النحو الآتي:

يتذكر القرية، يسمع هدير المحرك، يتذكر الرومي. فالترابط الحقيقي هو بين الحدثين الأخيرين، ولكن تذكر القرية معادل نصي، مثل رؤية وجه الصبي، وقد حدثا بالفعل، ولكن حدوثهما ينطوي في استدعاء الشخصية لهما، إذ إن رؤية وجه الصبي هو خوفها، وتذكر القرية هو انشقاقها عن المجتمع، وعبء ذلك الانشقاق.

ومع توالي هذه اللحظات، فإن النظر إليها- كونها ملخصاً – هو ما يمنحها قيمة، بحيث يمكن عدها تحولات على النحو التالي:

1- وهم ____________ وجه الصبي الميت.

2- معاينة ____________ رؤية السلحفاة.

3- تحقق ____________ صيدها.

وهذه الوحدات الثلاث موضوعة في مواجهة مترتباتها. لقد انتصر مسعود على خوفه منذ هذه اللحظة [الخائف التالي سيكون زوجته وهو ما يبدو في الترتيب 12، المؤشرة على ما حدث لدى عودة مسعود من رحلته، ووجوده في البيت]. أي أن الانتصار الآن سيكون في القرية، التي لوحت له بمشكلة المحرك، وبعناصرها الأخرى المحبطة لنفسه، راشحةً من الذاكرة.

لقد كشف التجميع السابق مغزى التوالي المؤشر له من المؤلف بـ.. ” اللحظة “، وهو أمر يجعل المغزى محتوى في تكثيف مهم وجوهري. وسوف تجري محاولة أخرى للتجميع، بحيث تُضم اللحظات في وحدات، تمثل تحولات على النحو التالي:

الوحدة الأولى: 1- يبحث مسعود عن كذبة: نقص في الشخصية.

[تقعيد الشخصية] 2- تطرق أنفاس امرأته سمعه بانتظام: تزويد للشخصية بثقل سيلازمها.

3- توقظه امرأته: تقريراً لارتباط الزوجة بالبطل.

الوحدة الثانية: 1- يُجدِّف.

2- يسمع صوت حربونه.

[نحو إنجاز 3- يكون كل شيء على ما يرام.

 الصيد عبر 4- يرى وجه الصبي.

  فعاليات] 5 – يرى السلحفاة.

6- يصطادها.

الوحدة الثالثة: 1- يتذكر القرية.

2- يبدأ في إرهاق زوجته بحوار المنتصر.

3- الجرذ يكتشف أنه صياد. [ينوب الجرذ الآن عن الصياد ليحس

بمن يشاركه مسعى الحياة بانفراده وعزلته] (·)                                                                                                                                            

 [مكابدة وشك 4- تتوقف العاصفة مبهورة لرؤية مسعود يجر السلحفاة.

ومعاناة 5- يغالب مسعود رغبته في مصالحة امرأته.

 والسعي لجني 6- يعود إلى الكذب إلى أن يصدق نفسه، بشأن ظهور ذكر السلحفاة.

إنجاز واعتراف] 7- يصحِّح حوارُه مع النورس ظنه حول العاصفة.

“بدا كل شيء على ما يرام “.

[استجماع كل ذلك في لحظة واحدة، ليتبع الطائر الأسود الرأس، لأنه صياد مثله.]

الوحدة الرابعة: 1- تحدثه الشمس من وراء الزجاج.

 [الحقيقة تبحث 2- يظهر وهم ذكر السلحفاة.

عن الصياد 3- يتوقف الريح في مكانه.

وتقرر صلابة 4- يلوح كأن مسعوداً سمع الصبي. [إنجاز للصبي وإعداد له]

وجودها]

الوحدة الخامسة: 1- ينظر إلى وسط السماء.

2- يتذكر زوجته بود.

3- يبقى الفقي معلقاً في العتمة.         [إنجاز كلي للبطل المحوري]

 [تقرير لارتباط البطل بالزوجة

توقظه ———– يتذكرها بود]

وسنرى من خلال التلخيص، أن وحدات مناصرة مسعود تكونت من: الجرذ، والصبي، والزوجة.

وفي شكل خاص بـ ” وفي لحظة ما ” نلاحظ الأمر على النحو التالي:

 1- صوته لم يصدر من داخله، وإنما من قلب القارب، إذ الحربون في الجانب الأيسر منه.

2- رفع السلحفاة بيسر مطلق.

3- تذكَّر القرية: المكابَدة.

1- بدأت زوجته تعاني المكابدة.

2- توقفت العاصفة مبهورة [العاصفة معادلة للزوجة]

3- توقف الريح في مكانه. [الريح هو الصبي.. إنشاء حالة الصراع في القرية من خلال ظاهرة نمو].

4- بدا أن الزنجي سمع الصبي.

 1- نظر إلى وسط السماء،

2- يتذكر زوجته بود.

3- بدا الفقي معلقاً في العتمة.

لحظة ما معالج مفاجئ، يخف لإحداث التجاوز نحو الإيجاب. وقد مثلت أخيراً انتصاراً، وتناقَصَ تواترها معبِّراً عن تسارع الأحداث وهو يصل نحو نهاياتها.

نتيجة عامة:

يتلمس المؤلَّف مخرجاً من الواقع عبر إغراق وحدات عاملة في نصه الروائي، داخل نسيج صراع، ثم إخراجها، وتتمثل هذه الوحدات في:1- الصياد. 2- الزوجة. 3- الحربون. 4- وجه الصبي الميت. 5- السلحفاة. 6- الاصطياد. 7- التذكر. 8- الجرذ. 9- النورس. 10- العاصفة. 11- الشمس. 12- ذكر السلحفاة. 13- الريح. 14- الصبي الحي. 15- الفقي.

ولعل مفردة اللحظة، أقرب ما يحقق حالة التجلي في وعي المؤلف، لتمثل الحضور، كونها وجوداً في آنه ومكانه. وقد وظَّفها المؤلِّف مع العناصر المذكورة، لتحقيق العمل لها، تصعيداً نحو اكتشاف لحظة تحقق مثلى (·) إن كلمة “اللحظة” يدل تكرار استعمالها عند المؤلف على انطوائها على قيمة يمكن أن تتخطى زمنيتها إلى دلالات قد تكون حُمِلَت إلى وعيه من خلال تراكم معان اصطلاحية لها في مجالات مختلفة. وينبئنا معنى معجمي أنها من خلال إشارتها إلى مهرجان لإحياء “إظهار المسيح” تشير إلى إظهار “حضور الله في العالم”( ) فضلاً عن معان لها في مجالات علمية( )، والذي أراه أن المؤلف يوظف مفردة اللحظة لكونها من ناحية اختصاراً للزمن كله، ومن ناحية أخرى لكونها إفلاتاً من أي قياس، وبذلك تكون مع ما استعمله من وسائل قياس أخرى مثل:  ثم، وبرهة، وفجأة، وكان يحاول ضبط ما قد لا يقبل القياس بهذه المفردات المشعرة بالقصر الشديد للزمن، الذي يريد أن يجسد من خلاله رؤيته في إمكان تحقق الوعي بالذات، وإدراك حقيقة ما، فمسعود تحرر من قسوة إحساسه بمعوقات نفسه، وصارت نظرته إلى نفسه متفائلة وراضية لكونه قد نظر إلى “وسط السماء” وهو تعبير يجمع بين تركيز الفكر اتصالاً مع كلمة “وسط” وتجلي الفكر أو النفس اتصالاً بكلمة “السماء” وأنه غير منقسم في داخله وشاك بحاله، إذ مضى بتصميم وحُمِِّل بمودة. وبالعودة إلى الرسم الخاص بدائرة حركة مسعود في الفصل الخاص بالشخصيات، سنلاحظ حالتين: انتقال، وتوقع؛ وهما ممثلتان أيضاً في تعبيرين: في “اللحظة التالية”، لكونها انتقالاً إلى حالة أخرى، وفي لحظة ما كونها مفاجئة، وكون هذه المفاجأة ما يحمل إمكان المعجزة، وقد تمثلت في أقصى حالاتها عند طرفين: لحظة اصطياد السلحفاة، ولحظتي تذكر الزوجة بود ثم وجود الفقي معلقاً في العتمة، ولعل علينا تذكر أن اصطياد السلحفاة قد عبر عنه بشـكل خاص، إذ هـو: في لحظة بسيطـة خالية من العمق، مضافاً إليها وقوع الزوجة نفسها – معادلةً للسلحفاة – في ” لحظة عميقة حافلة بالعذاب ” ليجري أقصى اختصار للزمن، إلى حدٍ تلاشي أثره، لكون الفعل هو صاحب الأثر، وهذا الأمر لعله جدير بأن يقابل بمرتين من ” في لحظة ما ” في نهاية الرواية، تواجه القوتين الأخريين الكبيرتين، المعترضتين على صيد السلاحف، حالة جديدة، إذ الزوجة نفسها تحولت تقريبا، والفقي فقد أرضيته.

مقالات ذات علاقة

أوراق أدبية (عبد الرَّحمن الجُعيدي وحصار بيروت )

المشرف العام

البناء النصّي في شعر عبدالمنعم المحجوب (4) .. الكتابة والصمت، ولعبة ملء الفراغ

المشرف العام

بعضُ ملامح الجندرة في الكتابات السردية النسائية الليبية

يونس شعبان الفنادي

اترك تعليق