النقد

قراءةُ العتبة النصيَّةِ الأولى في رواية (غواية الفينيكس)

غلاف رواية (غواية الفينيكس) للكاتب الليبي محمد المغبوب
غلاف رواية (غواية الفينيكس) للكاتب الليبي محمد المغبوب

أولاً: استهلال:

يعد الأديب محمد المغبوب أحد الأسماء البارزة في المشهد الأدبي في بلادنا، والمتميز بغزارة إنتاجه الإبداعي المتنوع بين الشعر والقصة القصيرة والرواية وإعداد وتقديم البرامج الإذاعية والكتابة الصحفية، وهو بذلك كأنه في سباق مع الزمن يبهرك بقوة إرادته وعشقه للكتابة وبذل الكثير من الجهد الذي يعكس دور الكاتب المثقف وإسهاماته المتعددة في تنمية المجتمع وتنويره والارتقاء بنهجه الفكري ومستوى ذائقته الأدبية والفنية بشكل عام.

ومنذ نشره أول قصة قصيرة له بعنوان (الصرخة) وإصدار مجموعته القصصية الأولى التي جاءت بعنوان (وجهي الذي أريد) سنة 1992م، لازال يواصل مشوراه الإبداعي فأصدر مجموعاته القصصية القصيرة (المتاهة)، (بقايا)، (كلام الصمت)، (زواية حرجة للحقيقة)، (أنصاف تبحث عن أنصافها)، (حدث الهدهد قال)، (على نحو ما)، (وسط القلب تماماً)، (لعبة المكعبات) وغيرها. وكذلك إصداراته الشعرية التي تواصلت منذ قصيدته الأولى التي ولدت بعنوان (أنا الشعب) وتلتها مجموعاته الشعرية (طرابلس فيضٌ من عسل الوطن)، (طرابلس غيمة الروح الممطرة)، (هل تقبلين دعوتي إلى العشاء)، (أنبأني الهدهد)، (حافة الليل) وغيرها. أما إصداراته في جنس الرواية الأدبية فظهرت بعناوين (رجلٌ عارك ظله)، (غواية الفينيكس)، (أحزان الياسمين)، (حياة مزدوجة)، (صوت البنفسج)، (مفازة الوقت)، (بين قوسين)، (كشجرة أسقطت أوراقها).

ونحن إذ نستعرض في هذا السياق بعض عناوين إصدارات الأديب محمد المغبوب دون مراعاة لتسلسلها التاريخي الدقيق، فإننا من خلال غزارتها واستقراءها وفقاً لمنهج النقد السوسيولوجي الذي توطن في الأدب الحديث بريادة الفرنسي “لوسيان غولدمان” نؤكد أن نموذج محمد المغبوب ينتمي إلى الإيمان بأن (… الكاتب الخلاّق هو ابن بيئته، يتفاعل مع قضايا مجتمعه، ويكتب عن كل ما يحدث فيه ويحدث له…  بمعنى أن الأديب عندما يكتب فهو يعبر عن وجهة نظر تتجسد فيها عمليات الوعي والضمير الجمعي، وكذلك معرفة احتياجات القاريء نفسه، ومتطلبات تعبئة روحه بأفكار وأشعار وسرديات توطن في أعماقه ووجدانه مشاعر البهجة والمتعة، وتوخز عقله برسائل فكرية متعددة من خلال الأجناس الأدبية كافةً … متيقناً أن الأدب هو إنتاج فردي لا يعامل باعتباره وجهة نظر شخصية، بل هو تعبيرٌ عن درجة الوعي للفئات والشرائح الاجتماعية المختلفة ..).

وانطلاقاً من هذا المفهوم أزعم أن محمد المغبوب من خلال هذه المثابرة الإبداعية والغزارة الإنتاجية المتنوعة كأنه يضمن نفسه مسؤولية عظيمة تجاه المجتمع، وربما يحمل مشروعاً معيناً يخصه، يسابق الزمن لأجل إنجاز المهمة المكلف بها، أو بث رسالة فكرية معينة يؤمن بها وتتفاعل في أعماقه، بصرف النظر عن موضوع ذاك الإنتاج والحكم عليه بمقاييس الجودة والرداءة، أو تصنيفه بنوعه الجنسي الإبداعي ومستوى تقييمه الفني وتقنياته الأسلوبية، لأن المغبوب يترك كل ذلك طواعية برضى وسعة صدر وقلب، للنقاد المتخصصين والبحاث الدارسين لإصدار أرائهم بكل موضوعية بعد مطالعتهم أعماله الإبداعية وتشريحها فنياً وفقاً لمناهج نقدية أو قراءاتٍ عميقة فنياً.

ثانياً: رواية (غواية الفينيكس):

تعد رواية (غواية الفينيكس) من بواكير إصدارات الأديب محمد المغبوب الروائية، وقد صدرت طبعتها الأولى سنة 2013م عن دار وعد للنشر والتوزيع بالقاهرة، وقد جاءت في خمسمائة وستة عشرة صفحة من الحجم المتوسط يتصدرها إهداء قصير يقول (إلى وطني) وهو يكتنز الكثير من العشق والمحبة للوطن بكل مكوناته، والذي يختلط في نفس الوقت بجميع الأمنيات السامية التي ينشدها الكاتب لهذا المعشوق وتقديمه كل ما يملكه من جهد وفكر وحب إهداءً له.

بعد ذلك يأتي الفصل الأول بعنوان (غواية) والذي تتصدره في أعلى (مفتتح الرحيل) خمسة أبيات للمتنبي يقول فيها:

 ليتَ الغمامَ الذي عندي صواعقه   

يزيلـــهن إلى من عــــنده الديــــــــمُ

 أرى النوى تقتضينني كل مرحلــة

لا تستــــقل بها الوخـــــــادة الرسمُ

 لئن تركن ضميراً عن ميمـــــــــاننا

ليحـــــدثن لمن ودعتــــــهم نــــــــــدمُ

 إذا ترحلت عن قوم وقد قـــــــدروا

أن لا تفارقـــــــهم فالراحلون هــــــمُ

 شرُّ البلاد مكانٌ لا صـــــــديق به

وشر ما يكسب الإنسان ما يصم

ويوطن هذا الاقتباس الشعري من الناحية الفنية تعالقاً جلياً بين جنس الرواية الأدبية السردية وجنس الشعر الكلاسيكي، إضافة إلى دلالات مضامينه العميقة التي يبعثها الشاعر المتنبي ويسقطها الروائي المغبوب على فضاءات (غواية الفينيكس) المكانية والزمنية وبعض شخوصها وأحداثها.

تتولى أربعة أصوات في الرواية التنقل في فضاءات السرد بين الواقعي والغرائبي والأسطوري والسريالي وهي (الدكتورة ود، راضية، سارة، والبطل) مما يجعلها جديرة بوصفها بالرواية البوليفنية، وتتسلسل داخلها عناوين العتبات الثانوية كالتالي:

– أول التحليق

– التحرك

– مسرب الهوى

– التوغل في المسرب

– احتواء

– احتفال

– رفيقان يتقاسمان غربة

– خارج العقل

– أول الكتابة

– على ضفاف النيل

– حالات

– على ذات الطريق

– ضرائر الهوى

– مسارب

– ليلة ما

– التواب

أما الفصل الثاني فجاء بعنوان (الفينيكس) متضمناً اقتباساً من ورقة للزعيم الهندي المهاتما غاندي بعنوان (خطايا العالم السبع) كان قد دسَّها في يد حفيده قبيل اغتياله بيوم واحد، وقد تضمن هذا الفصل العتبات الثانوية التالية:

– أول النفق

– خارج العش

– المنفى الجميل

– الهوة

– العودة

– العنقاء

– طريق آخر

ثالثاً: مكونات العتبة النصية الأولى:

بعد قراءة سريعة لمكونات عتبة العنوان الثنائية القصيرة في رواية (غواية الفينيكس) وتفكيكها لغوياً نجدها تتكون من مفردتين الأولى هي (غواية) وجاءت مبتدأً مضافاً. ومعنى الغواية المتفرعة من الغي هو الفساد والهلاك والطغيان والجهل والضلال والاعتقاد الفكري الفاسد. وقد ذكرت الغواية في عدة مواقع بالقرآن الكريم اسماً وصفةً مثل قوله تعالى (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ) أي أن الله يخاطب الشيطان ويقول له إن عبادي المؤمنين الصادقين ليس لك عليهم حجة أو سيطرة، إلا من ضلَّ وغوى وانحرف منهم فاتبعك على ما دعوته إليه من الضلالة وهلك جراء ذلك. (الحجر- الآية 42).

ثم جاءت المفردة الثانية (الفينيكس) المقتبسة والمترجمة من اللغة الأجنبية Phoenix مضافاً إليه، وهي اسم طائر الفينيق أو العنقاء كما وردت في المثالوجيا الإغريقية، وهذا الطائر العجيب يتمتع بحياة طويلة تصل إلى خمسمائة عام، وهو كما تقول الأسطورة حين يشعر بكل ذلك الكبر والتقدم في العمر والشيخوخة يعيد تخلقه، وصناعة نفسه من جديد ذاتياً، حيث يستبدل ريشه بعد أن يحترق ويستحيل رماداً ليبعث في الحياة كياناً متجدداً.

رابعاً: دلالات العتبة النصية الأولى:

لا تقتصر جمالية العتبة النصية الأولى في (غواية الفينيكس) على هذا التمازج اللغوي بين الكلمتين العربية والأعجمية بإيقاعهما الصوتي الرقيق الرنان، بل تحيلنا إلى عوالم أرحب من التاريخ وهو المتعلق بأسطورة طائر الفينيكس ورمزيته. حيث يتضح الملمح الأسطوري في الرواية منذ عتبة النص الأولى وفي ذلك انتقال زمني بين الماضي والحاضر بكل ما يحتويه كل زمن من عناصر فكرية وجمالية متعددة.

 فأسطورة هذا الطائر الفينيكس/ الفينيق/ العنقاء الخرافي المذكورة في الميثالوجيا الإغريقية والفارسية والعربية والرومانية والتي وطنها الروائي بشكل مفصل في اقتباسه بفصل (العنقاء) في الرواية، تتجسد في خصوصيته الغرائبية الانقلابية المتحولة، والمتمثلة في تميز رماد جسده الذي يستحيل بعد موته وفنائه إلى كائنٍ جديدٍ يبعث للحياة، ويتجدد بعد موته بروح شابة أخرى، وطاقة عملية جديدة، وفي هذا دلالة ربما على قوة التحدي والاصرار والعمل الدؤوب من أجل استمرارية الحياة لمزيد من البذل والعطاء والمثابرة، خاصة وأن رمزية الطائر في السرديات المختلفة عبر كل العصور تحيلنا في الغالب إلى الروح الوثابة المتجددة وقدرتها على التحرر من القيود المعنوية واستطاعتها مفارقة بدن الكائن الحي، والانفكاك منه في حياتها السرمدية الأبدية والسجنية المادية، عشقاً للحرية مهما كانت الأثمان نظير ذلك.

خامساً: اسقاطات العتبة النصية الأولى:

لقد تمكن الروائي محمد المغبوب من الاستعانة بالأسطورة في روايته (غواية الفينيكس) من خلال إسقاط سمات طائر العنقاء أو الفينيق على أحد شخوص الرواية وهو البطل الذي لا يعطيه إسماّ معيناً، بل يصبح بذلك جديراً بتسميته بصفته (الرجل العنقاء) أو(الرجل الفينيق)، واستحقاقه أبعاداً رمزية يكتسبها تباعاً من سياقات النص الروائي والتي قد يستشفها القارئ عند انتهاءه من مطالعة الرواية.

كما سيكتشف هذا القاريء أن رحيل بطل رواية (غواية الفينيكس) عن موطنه الأصلي ثم وقوعه في غيبوبة لمدة زمنية، وبعد ذلك عودته مجدداً للحياة وقراره الحاسم بالعودة إلى بلاده ووطنه، يتماهى بهذه التحولات عبر دوراتها الزمنية المتتابعة مع أسطورة الفينيق ومراحل حياة هذا الطائر الخارق العجيب؛ وكما تقول الرواية بمقدمة فصل (العنقاء) في سياق ذلك (وبعد ألف عام، أرادت العنقاء أن تولد ثانية، فتركت موطنها وسعت صوب هذا العالم واتجهت إلى فينيقيا واختارت نخلة شاهقة العلو لها قمة تصل إلى السماء وبنت لها عشاً. بعد ذلك تموت في النار، ومن رمادها يخرج مخلوق جديد .. دودة لها لون كاللبن تتحول إلى شرنقة، وتخرج من هذه الشرنقة عنقاء جديدة تطير عائدة إلى موطنها الأصلي) فالعنقاء هنا رمز الحياة المتجددة والانبعاث من الرماد لتكملة المسيرة، وتحقيق الأهداف والغايات رغم كل الخذلان والتحديات التي تجعل بطل الرواية الرجل الفينيق ينتقدها مخاطباً الدكتورة ود بقوله (أنا جثة تمشي على الأرض يريدونها أن تسير على أسنانها كي يُضحِك منظرُها، ويشبعوا نهم سلطتهم، وفي أحسن الأحوال يا سيدتي أنا لستُ إلاّ وليمة شهية لأسنان الزمن الرديء الذي نعيشه بزعامة الغلمان الذين يسيرون بنا إلى هاوية بلا قرار).

من خلال تأمل هذه الاقتباسات نجد أن الكاتب قد أسقط ووظف مضمون الأسطورة ورمزيتها بشكل يتوافق مع فكرة عمله الروائي الأساسية، وعبّر عن ذلك بوسيلة تجمع الحدث التاريخي الواقعي والأسطوري السريالي وتوطينه في الزمن الراهن الحقيقي، وهذا الأسلوب يعد سمةً من سمات التعبير في الرواية العربية الحديثة، وفي ذلك مواكبة من الكاتب الأديب محمد المغبوب للتقنيات الفنية التي يسعى من خلالها لتطوير عمله الروائي بشكل دائم، وهذا ليس بغريب على أي روائي الاتكاء على الأسطورة التاريخية من أجل إثراء أحداث روايته، أو إسباغ أخيلة خلابة تعطي الشخوص إمكانيات وقدرات مبهرة، أو تثري الفضاءات المكانية والزمنية وتصويرها وفقاً لرؤاه، وكذلك استغلالها أحياناً سواتر وأقنعة لتمرير رسائل سياسية أو أيديولوجية معينة تفادياً لمحاذير رقابة الدولة كمؤسسة دكتاتورية تطوق الإبداعات العربية مثلما تقول الدكتورة ود إحدى شخصيات الرواية (كثيرون في بلادنا العربية هاجروا إلى بلاد الغرب بعد أن طردتهم قراهم الظالم أهلها لأن الصبية هم من يقومون بتصريف شؤونها ويجرونها إلى الخلف جراًّ.)

سادساً: الخاتمة:

إنَّ هذه القراءة القصيرة المتواضعة لجماليات العتبة النصية الأولى في راوية (غواية الفينيكس) للأديب محمد المغبوب ومحاولة تفكيكها لغوياً ودلالياً، متجاوزة سيميائية الصورة الغلافية وألوانها أو التشكيل الحروفي ونوعية خطوطه، أضاءت لنا بعض الجوانب المهمة المستوطنة مضمون الرواية، وكشفت البعد الجمالي التخيلي الذي اكتنزه النص في عدة مشاهد صنعها الكاتب من سبحاته الخاصة ونسجها بإتقان فني مبهر. كما أبانت براعة الكاتب في توظيف وإسقاط الأسطورة على بطله الروائي وسياقاته السردية، وأفادت في الكشف عن المخبوء والغامض في البعد الدلالي للعتبة، والذي أتاح لنا الوقوف للتمعن ملياً في جمالية العتبة ذاتها التي أكدت بأن عناصرها لم تظهر بشكل عفوي عرضي في الرواية بل تأصلت وتأسست على الكثير من العلامات الفنية الواجب توافرها في العمل الروائي الجيد.

إن رواية (غواية الفينيكس) أجادت بحرفية رصد الواقع البائس في الزمن الروائي المعاش، واستطاعت مشاكسته ونقده بأسلوب ولغة تتعالى كثيراً عن التقريرية المباشرة والرتابة المملة، واكتظت بمشاهد روائية وتعبيرات وصفية، ونسج عوالم من الأحلام المتخيلة بروح مؤمنة باستمرارية التغيير، وولادة الحياة من رحم الموت، وتأجج لهيب النار من تحت انطفاء الرماد، وهذه بلا شك رسائل إيمانية وفكرية عميقة تعزز الثقة في مواصلة العمل الدؤوب والسعي والمثابرة والكد والاجتهاد، لا نملك إلاّ الاعتزاز والاشادة بها، والايمان بقيمتها الإنسانية النبيلة، والدعوة لتبنيها والعمل وفق نهجها.


ورقة قدمت في افتتاح صالون (بيت القصيد) بأكاديمية الدراسات العليا بجنزور احتفاءً بالكاتب محمد المغبوب بتاريخ 1 يونيو 2023م

مقالات ذات علاقة

زرايب العبيد: من العبودية إلى العبودية*

المشرف العام

بين مرجعية السيرة، ومتخيل الرواية

المشرف العام

الخيول البيض.. مد أسطوري يتغلغل في ثنايا الحاضر

المشرف العام

اترك تعليق