النقد

البوسيفي والغربة.. من الدخان إلى الضفة

يدخل الكاتب محمود البوسيفي مغامرته الشعرية، متدثرا بالغربة، وإن كان في كل ما كتب من مقالة أو خاطرة او حتى تعليق، تحوم جواهر تلك المتون حول دفقة شعرية مؤجلة، قارة في تكاوين تجاربه السردية منتظرة معطيات تفجرها على السطح.

في ديوانه «لعلها شجرة بعيدة» الصادر عن دار الرواد، توحي تراتبية العناوين بالمشهد الاستحضاري لمحاولة فك لغز ما حدث أو تفسيره مدفوعا بدخان علامات الاستفهام المرحلة، «الحمل ثقيل/ وأنا يروعني السؤال عن الكائن الذي/ استأنس الكائنات/ وأستبد» ص7، لذلك كان لابد من ملاذ مؤقت أشبه بقارب نجاة يبحر فارا من النار الى المجهول، أيضا الأمر يبدو عبثيا، كمزحة تستظل بشيء ما غير حقيقي وليس خيالا، انه المسافة الحرجة بين الحلم واليقظة في ذاكرة الشاعر أو الكاتب وهي تقتفي سبيل الوضوح «إن الضوء يلعب/ ولم يقل أحد من الواقفين /أمام الباب المغلق شيئا» ص8.

تتجه الحكاية بفصولها صوب مدار يتجاوز مغاليق الكهانة، وهو فضاء المدينة المعانقة للحياة معاندة بإصرار جاذبية الموت، ستكون الأنثى مرموزة التحول العاصف وسط العاصمة، رفيقة الممشى وهي تعبر الشتاء، بحثا عن تفاصيل البقاء، ستلاحق الضوء المغادر في الممرات والشوارع، «لم يكن الوقت يشبه الرصيف / حين عبرت البنت الشارع القديم / كان الوقت أقرب للغبار »ص11, والزمن كان ولازال خارج المعادلة وإن وجد فهو لتأكيد نفيه بعيدا عن مواضع التأويل «كان الوقت يغازل التوحش / حين أطلقت ابتسامتها / على الأزقة المتوثبة» ص13.

تواقيع هذه الملامح ستصبح رفيقة أسماء أخرى، لها فتوحاتها في ممالك الغربة, واستحضارها جاء بمثابة مكون أصيل ورافد لهذا المشهد، فنص العاصفة مجسر مع نص «أشرعة» الذي يرسم طيفا للشاعر الجيلاني طريبشان وهو يختلس لحظة القصيدة يرافقه الصمت والوحدة، ولن تجد ذاكرته المشبعة بالتجوال المكتظة بلهب التمرد معراجها خارج تلك الأسوار إلا بالأحلام «على الأحلام / سحب الغطاء / إلى رأسه وتكوم كجنين.. ونام » ص18.

في نص «إجهاشة » ينسحب خط العاطفة إلى مسار المراجعة لصالح وقفات يغلفها نداء لشقيق الروح أشبه بالنشيج المكبوت، فالصورة في المدينة يشوبها الضباب، والسكون لا ينبئ بالطمأنينة دوما، لذا كان لابد لصوت آخر يغالب هذه الوحشة حتى ولو تطلب ذلك فك صاعق الأمان «افعلي ما تشائين.. انزعي الأمان عن الصواعق.. فكك ما تواصل.. ازرعي الأشواك في حلق رضيع »، وشقيق الروح الذي يخاطبه النص هو ذات النسخة لشقائق أرواح أخرى خاطبها الشعراء، كرفيق تستدعيه الذاكرة لإعادة مراكز الثبات، هل يذكرنا ذلك بقصيدة «شقيق الروح للشاعر الراحل محمد الهريوت في ديوانه «هذيان »، بغض النظر عن ما يقره الشاعران في نفسيهما، وعن مدلولات المذكر والمؤنث، فالمغزى كائن في الروح.

والأنثى «شقيق الروح» في هذا الديوان ستكون رفيقة الانسحاب نحو قارب الانتظار تأهبا لنقلة أخرى، إذ لا جدوى من البقاء في مدينة مكتحلة بالحزن، لكن على وعد إقامة فردوس آخر يحاكي الحياة المفقودة ولا يستلزم ذلك إلا شرط واحد «فقط رافقيني يا سيدة العناصر /لإزعاج العالم» ص24.

في فضاء الغربة يندفع وهج الذكريات بلا إذن مسبق يطبق بأنانيته على مفاصل الروح، لكن للغة الشعر قاموسها الاغترابي وقواعد اشتباكها مع تداعيات الانزواء، وهو الاستناد على متون الحكمة، وقاموس نساكها، وجمع كل عناصر سديم الروح المتناثر لنسج علاقة خاصة مع ضرورات المواقف، وبذا تتحول المسافات إلى إحدى بؤر التموضع الصوفي في قصائد الغربة استلهاما لمقولة الإمام النفري الواردة في الديوان «القرب الذي تعرفه مسافة / البعد الذي تعرفه مسافة» ص58، مستندا على أبجديات السكون ومتاهة العزلة بتمددها المربك، تلك مفاهيم المتصوفة وهم يمارسون طقوس كشوفات الذات بالسفر منها وإليها خارج مجالات الزمن ومفردات المحسوس، «الغربة: أن يعتقد أحد.. أنه أنت» ص59.

وتترابط فصوص الغربة في جمل قصيرة مختزلة عصارة رهبنة فرضها القدر، «الغربة: الا تسمع وألا ترى.. وأنت وسط الضجيج »ص64, ربما تأتي أحيانا الجمل مباشرة، وقد تتحول في مقامات أخرى إلى غموض يعكس أطوار المشاعر والأحاسيس المتقلبة بن الهدوء والصخب والطمأنينة والقلق، الكلام والصمت، فالغربة «علقم وتجهم أو عراك بينك وبينك» ص77،68، وفي محطة أخرى تقول عصارة التجربة «الغربة: لغة لن تتعلمها / قواعدها هواجس.. في شراسة أنثى العنكبوت».

يظهر في أفق هذه الفص الصوفي تشخيص سيسيولوجي لمسار الغربة المبني على تأنيث الحكاية في مساريها الإنساني والمعرفي، الرفيقة وفضاء المغامرة، وهي إضاءة داخلية على مجاميع المواقف التماسا لفهم مساراتها المتداخلة أو كجزء من ثبت تعريفي فسيفسائي للاغتراب، يتضمن البحث عن عالم جديد على رأي السوريالي «بريتون» عبر الصورة المتخيلة.

كل ذلك واقع في مفازات التكهن والسؤال عن عالم الشجرة البعيدة ولحظة الوصول التي ينشدها البوسيفي، إلى أن تأتي تلك اللحظة سيكون الاعتراف «لا شيء لك بحوزتي/ سوى الطين يتشكل كائنات مرحة / تركض حيث لا حيث» ص95.


بوابة الوسط | الأحد 31 مايو 2020

مقالات ذات علاقة

قضايا الإنسان في الشعر الليبي المعاصر

المشرف العام

خصوصية النص.. قراءة في المجموعة القصصية “سطوة الكلاب”

المشرف العام

التناص.. رؤية نظرية

المشرف العام

اترك تعليق