قراءة في رواية علكة – سراب الليل للكاتب منصور بوشناف
في سنوات سبعينيات القرن المنصرم كانت بنغازي تعيش حركة مسرحية نشطة وتقدم نصوصا ذات مستوى راق وكانت لوحات الدعاية للمسرحيات تجدها في نواصي الطرق وفي جزر الدوران وفي الأماكن الحيوية التي يؤمها الناس من أسواق ومقاه وإدارات رسمية وملاعب كرة وغيرها.. وكان الجمهور عاشقا للمسرح ومثقفا ومتفاعلا مع أحداث المسرحيات بحس مرهف.. فهناك من يتأثر من مسرحية ويدخل إلى حالة هستيرية ينقل على إثرها للمستشفى للإنعاش.. وهناك من يظل يصفق ويصعد إلى الركح ليعانق بقلبه كل الممثلين والمخرج والمؤلف وبقية فريق العرض.. لا يوجد كرسيا شاغرا قبل بدء المسرحية بنصف ساعة.. وكان للأثر الذي أحدثه الفنانون المصريون الكبار عمر الحريري والسيد راضي وغيره أثره الناجح في الارتفاع بالمستوى الفني للممثل والمخرج والكاتب وغيرهم.
آنذاك كنت صغيرا وانخرطت في أشبال المسرح الحديث بعد أن شاهدت لهم مسرحية بعنوان السنابل تم عرضها مرئيا فيما بعد وكنت أتي يوميا من منطقتنا حي المحيشي في الحافلة لأتدرب في مكتب الأهلي بميدان البلدية على آلة كاتبة ماركتها ” الممتازة ” ثم أذهب إلى المسرح الحديث لأشارك في أنشطته التي لم تكن تقتصر على التمثيل فقط بل كانت به أنشطة ثقافية ومحاضرات وصحف حائطية وموسيقا.. والمسرح الحديث مكانه كان في سينما النهضة التي تقابل تقريبا المسرح الشعبي الآن.. وفي هذا المسرح التقينا بالكثير من الفنانين المعروفين والمبدعين الآن.. منهم الفنانين علي الجهاني وعلي بوجناح وسالم عيسى وعبدالله أحمد عبدالله وأحمد الفيتوري وغيرهم كثيرين جيث كانوا يجلسون يوميا في المسرح ويتحدثون في قضايا الفن والأدب حتى تخال أن جلستهم هي ندوة أدبية أو حلقة نقاش كل واحد فيهم يحلل ويناقش ويسأل والذي لا يعرف شيئا مثلنا ما عليه إلا أن يستمع ويستفيد.. كانت رائحة المسرح خليطا من رائحة الخشب و الطلاء والرغاء والقهوة والشاي وبالطبع السجائر.
في تلك السنوات لم نكن نترك مسرحية تعرض على الخشبة من دون أن نحضرها أو تعرضها المرئية من دون أن نتابعها جيدا.. وفي هذه الأجواء عرفت الأستاذ منصور بوشناف كاتبا مسرحيا لم أنتبه أنني التقيته شخصيا ولكن عرفت اسمه عبر إعلانات معلقة في عدة أمكنة بالمدينة تتصدرها كلمة قريبا وهي إعلانات عن مسرحيتين.. الأولى بعنوان مستفز للرقابات الفنية الحكومية لسهولة تأويله وتركيبه وتشكيله على أي حيثيات ترغبها وهو: ” عندما تحكم الجرذان ” وإعلان آخر عن مسرحية لنفس الكاتب بوشناف بعنوان ” تداخل الحكايات عند غياب الراوي “.. لم أحضر مسرحية عندما تحكم الجرذان وأعتقد أنها لم تعرض بينما حضرت مسرحية ” تداخل الحكايات عند غياب الراوي ” وكانت بطلتها على ما أذكر الفنانة كريمان جبر ذات الوجه السينمائي والحضور الفني الطاغي ومخرج المسرحية الإذاعي المبدع صاحب الصوت المميز عبد الفتاح الوسيع وما زلت أذكر أول مشهد في المسرحية حيث تنسدل أو تنحدر خلف الستارة مباشرة شبكة حبال تغطى واجهة المسرح كله لنرى خلفها الممثلين وهم يلعبون أدوارهم بفن لم نعد نرى مثله اليوم.
في مستهل الألفية الجديدة التقيت منصور بوشناف شخصيا في طرابلس في مقهى القبة الفلكية أو في رابطة الأدباء والكتاب بحي الأندلس، لكن صورته القديمة التي رأيتها في السبعينيات في مسرحيته عبر اسمه فوق قماشة الإشهارات البيضاء أو في مطوية المسرحية مازالت عالقة كعلكة و مترسخة في ذهني جيدا.. ومازلت أسأل نفسي دائما هل ستتداخل الحكايات عند غياب الراوي أم أن كل حكاية ستتكيف مع الحياة وتفرز راويها.
من كلمة الراوي بالذات لم أستغرب عندما أصدر الكاتب منصور بوشناف رواية وهو المهتم بصورة أساسية بالمسرح وفن المقالة وحدث لي فضول أن أطلع على هذه الرواية لمعرفتي المسبقة بطريقة كتابة بوشناف من خلال متابعة مقالاته وأيضا للقضايا التي يهتم بها دائما وهي قضايا تتعلق بالحرية وتاريخ ليبيا القديم والمعاصر.
تحصلت على الرواية من صديق للكاتب في طرابلس وهي رواية صغيرة بحجم روايات الجيب وجلبتها معي إلى بنغازي وضاعت في وسط الكتب الكثيرة وفي أيام العيد عندما كنت أبحث عن بعض الكتب في مكتبتي العشوائية عثرت عليها وجلست مباشرة لأقرأها وفعلا أتممتها في يوم
وهي رواية أعجبتني وأعتقد أنها أول رواية ليبية سيميائية فكل شخصياتها وأمكنتها وزمانها ( عشر سنوات ليس في طرابلس الغرب بالطبع إنما في السجن ) محملة بدلالات ترتبط مع بعضها في نسيج محكم دائري كالكرة أو ككرة العلكة الملونة التي نمضغها أو نلوكها ثم ننفخها لنخرج منها كرة ثم نفرقعها ونعاود اللوك من جديد والملفت للنظر أن العلكة لا تنتج بالونات قابلة للانفجار وهي محملة وزاخرة بالحلاوة فنفخ العلكة لتكون بالونة لابد أن يكون بعد اللوك المستمر وبعد أن تفقد العلكة الجزء الأعظم من حلاوتها.
الرواية بعنوان: ” العلكة.. سراب الليل ” وزمن ومكان الصدور القاهرة 2008 م عن ليبيا للنشر وهي دار مديرها المسئول الأستاذ الناقد إدريس المسماري صاحب مجلة عراجين المعروفة.
لن تجد صعوبة في دخول عوالم بوشناف الروائية خاصة للذين يعرفون جزء من سيرة حياة الكاتب وبعض مسرحياته ومقالاته فتجربة السجن التي عاشها الكاتب تطل بصورة كبيرة بل أن الكاتب قد منحها الجزء الكبير من زمن هذا العمل الروائي وهي مشهدية التوقف لبطل الرواية مختار لمدة عشر سنوات في حديقة تاريخية معروفة في قلب طرابلس ليكون هذا الزمن المؤلم أو ساعة النبض المتوقفة خير شاهد على مأساة هذا الإنسان المحب للأدب وللحياة وللفن والذي طرقته مطرقة الزمن بمسمارها في خشب زنزانة عارية لمدة فاقت العشر سنين، ليرى الحياة تتسرب من روحه وتمر من أمامه وهو محنط مخدر لا يستطيع فعل شيء سوى الشيء الذي أجاده جيدا وهو الانتظار والصبر والتعلم من ما يوفره المكان من سكون الحكمة.
الرواية امتداد طبيعي لمسرحية الكاتب الشهيرة توقف، فدخول الكاتب السجن هو دخول إلى زمن متوقف، متوقف داخله لكن خارجه يسير من دون هوادة، فبعد خروجه مباشرة إلى الشمس وجد العالم قد تغير، ووجد أن أحداثا مهمة قد اشتعلت في هذا العالم، ووجد نفسه في أول يوم دخل فيه إلى ذاك السجن ولكي يستطيع العيش عليه أن يربط خيطه في عجلة الزمن بعد أن يلف هذا الخيط لمسافة عشر سنوات فالعجلة لا ترغب في أن تعود إلى الوراء بل هي غير قابلة للعودة عشر سنوات كي تقطره معها.. عجلة شرسة فاعلة روحها خالية من رائحة المفعول به.. لقد وجد جسده وقد استهلك عشر سنوات في الفراغ وروحه أيضا ومن هنا لا ملجأ له كي يرمم هذه النفس الجريحة إلا الأدب فحول سريعا هذه العشرية المؤلمة المحرومة إلى حفلة حياة جديدة تحتفي بالقلم والورق والحبر والموسيقا وكان جميلا جدا أن يجد في انتظاره فور خروجه من السجن عام 1988 م كتبا جميلة فعلت فعل السحر في روحه وأراحته بل هذه الكتب استطاعت أن تمده بمخزون ثقافي كبير تم إنجازه عالميا خلال فترة سجنه من هذه الكتب: الحياة في مكان آخر.. الضحك والنسيان.. غراميات مرحة.. خفة الكائن التي لا تحتمل.. فالس الوداع.. لميلان كونديرا الكاتب التشيكي الذي يرفض لقب منشق ويرفض أن يكون سياسيا على الرغم من موضوعاته حول ربيع براغ ودائما ينحاز كونديرا للفن ويقول أنا روائي.. في كونديرا وجد الكاتب ما يعوض به ومن يختزل له منجزا مهما لعشر سنوات في مجموعة كتب قيمة تجد فيها آخر ما وصلت إليه الرواية من فن وإبداع وكذلك استفاد كثيرا في روايته هذه من كتاب الجميلات النائمات للكاتب الياباني المنتحر بطريقة الساموراي ياسوناري كاوباتا في تعامله مع شخصية فاطمة المتحولة إلى مومس تمارس العهر مع شخصية والد مختار الأفندي عمر التي تمثل العهد الملكي وما إن يلمسها الأفندي الهرم ويلتصق بها حتى يلفظ أنفاسه مثلما حدث أيضا في الفيلم التونسي حلق الوادي بطله جميل راتب وفي هذه الملامسة بين الجفاف والطزاجة إسقاط مهم ومكر روائي يمارسه المحترفون.. عندما خرج الكاتب من السجن شرع في قراءة الجديد وغنى أغنيته الدائمة الحياة تبدأ الآن.
في رواية منصور بوشناف نجد تقنيات روائية حديثة لم تكن معروفة لدى كتاب السبعينيات والستينيات، فلا نجد في الرواية لغة شعرية أو ركض وراء نحت مفردات جديدة أو مشاهد درامية تثير الغريزة أو تستجلب الدمع أو الضحك أو إلصاق لمواد يتم جلبها من كتب التاريخ أو الموسوعات.. فالكاتب كتب روايته ببساطة.. ركز على عملية التدوير وجلب أحداث حدثت في بداية الرواية إلى منتصفها أو نهايتها.. أيضا لم يستدع شخصيات أخرى إلى الرواية إلا للضرورة وبسطور مقتضبة وجعل تركيزه عن تجربته الشخصية متحصنا بالرمز والسيميائية.. كذلك لم يتخل عن أسلوبه الصحفي في كتابة المقالة ولا عن جمله القصيرة ذات الإيقاع والمملوءة بالشحن النفسية في كتابة مسرحياته.. ولا عن بداياته للسرد بالجمل الأسمية التي يتبعها اسم موصول في الغالب ثم تأتي الأفعال في مثابة جملة فعلية في محل رفع خبر المبتدأ.. قسم روايته لمكان وزمان وشخصيات تعيش على وفي هذه الأمكنة والأزمنة ثم عصّد هذه العناصر جيدا بقلمه حتى جعلها كرة رماها في فمه وصار يلوكها ويفرقع أصداءها على الورق.. من هذه الفرقعات استطاع أن يقدم لنا تاريخ ليبيا في فترة من الزمن بطريقة مغايرة لما قدمه لنا زميلاه المشتغلان على نفس الأيقونة الصادق النيهوم ورضوان بوشويشة اللذان قدما التاريخ الليبي القديم بالنسبة (لبوشويشة ) والتاريخ الليبي القديم والحديث والمعاصر بالنسبة ( للنيهوم ) واللذان ركزا على مسح الغبار عن ذاك التاريخ وجعله يسطع أمام شمس أعيننا وقلوبنا.
فبوشناف من خلال روايته علكة.. سراب الليل.. قدم لنا التاريخ بصورة تحليلية فنية تناول فن النحت وطرح سؤالا نستطيع إسقاطه على عالم اليوم وهو لماذا النحت الليبي دائما ملتصقا على الحجر.. لا تجد تمثالا مستقلا لذاته يقف على الأرض من دون أن يستند على شيء.. قدم لنا الحياة برمتها من خلال شخصية فاطمة ذات الشال الأحمر والفستان الأسود.. وهذا مفهوم ستاندالي على ما اعتقد أو يرمز به للدم والظلام وجعل هذه الفتاة تترك حبيبها الحي الذي يرزق والمتوقف في الحديقة العامة تحت المطر ينتظر رضاها عليه وتعشق تمثالا حجريا في أقبية السراي الحمراء وعندما لا تجد فائدة في التمثال تتركه من أجل الحياة كما يحدث الآن.. تبيع نفسها.. تبيع نفسها للماضي لتقتله بطزاجتها ونارها وتبيع نفسها للحاضر ليفتض بكارتها مقابل ألف دولار.. فتصوير الحياة أو الأنثى كمومس تسعى إلى المال هو تصوير صادق وهو التقاط حي من أرض الواقع.. فهذه الحياة التي تخلت عن الكاتب وتركته يتوقف زمنيا لعشر سنوات في الجوع والبرد والمرض راصدا تحولاته الجنسية وفحولة شبابه النازفة في الفراغ ليس هناك لقب يمكننا أن نطلقه عليها سوى هذا اللقب والذي صورها عبره الكاتب في شخصية الحياة فاطمة، لم يجد الكاتب في حبره سوى اللعنة ليمنحها لهذه الحياة التي صادرت حريته وانتزعته من بين كتبه ورسوماته ومنحوتاته لتضع خياله الجامح في السجن.
في رواية بوشناف توظيف جيد للحديقة وذلك بعرض تاريخها منذ أن انتزعها الباشا التركي من الفلاحين الليبيين الفقراء ليجعلها منتجعا لحماقاته ونزواته ويمنعها عن الشعب والرعية البسيطة فيما عدا زمرة من القوادين وبصاصي الباشا والتجار ومن بعد العهد التركي تحتلها إيطاليا وتجددها بالعرق الليبي وأيضا تمنعها عن الليبيين فيما عدا عملاء الطليان وخدمه من زمرة النخبة وغيرهم وفي عهد المملكة الشيء نفسه وفي عهد الثورة تتحول الحديقة إلى مكب للنفايات لأن الليبيين لا يعملون زبالين وإلى مرتع للبوليس والأمن وإلى مكان يعيش فيه المتشردون ويلتقي فيه العشاق وتباع فيه المخدرات والخمر وأيضا يقف فيه شاهد العصر الشاب مختار تحت المطر ورياح القبلي المغبرة الخانقة منتظرا ابتسامة الحياة وراصدا هذا التاريخ الحدائقي بخيره وشره وحكاياته ولقد أبدع الأستاذ منصور في بناء شخصية الحديقة المكانية وعبرها مرر الكثير من الفن والمسرات والمواجع والحكايات الجميلة ذات المعنى خاصة حكاية المرأة الليبية المرزقية التي جلبت الغناء المرسكاوي لتغنيه في طرابلس من وراء حجاب ثم لتتحول إلى متسولة فيما بعد.
في الرواية أيضا هناك التمثال وهو علامة مهمة في هذه الرواية وعبره استطاع الكاتب أن يدون تاريخ النحت ومدلولاته بل يُنظّر أحيانا في فن النحت في ليبيا منذ عصور ما قبل التاريخ وإلى الآن متتبعا أثاره في الصحراء وفي مكتبات إيطاليا ولكن هذا التمثال الذي هو لفتاة أستطاع أن يجعله محورا رئيسيا في الرواية فكل الشخصيات تعود إلى هذا التمثال إلى هذا الجماد الذي نحت كي يرى ما يقترفه الأحياء من ألم.. فهذا التمثال بنيت عليه الكثير من الأحداث فالذي نحته أعدم بتهمة الوثنية من قبل الباشا التركي وأستاذ الفلسفة تعلق بالتمثال وتسمر أمامه وأستاذ التاريخ أيضا والحراس يستمنون عليه والفتاة تختبئ خلفه وبطل الرواية الشاب مختار عندما يفقد حبيبته وتنغلق أمام وجهه الأبواب يأتيه ويعانقه فيتهشم التمثال كما هشمت الحياة روحه.. يعانق هذا الحجر الأملس الناعم الذي لم يبرح مكانه وظل ينتظره دائما بينما من يعرفهم من أسرة وأصدقاء تركوه وتنكروا له فمنهم من مات ومنهم من تركه كماً مهملا فريسة للغبار والقمامة والمطر البارد ورياح الحظ غير المواتية.
في هذه الرواية عرض لنا الكاتب الكثير من الأحداث التي عاشتها ليبيا العصر الراهن خاصة الأحداث المؤثرة في بنية الشعب وفي تركيبته وعاداته وتغيراته وتقلباته من جهة إلى جهة فالأدوات التي استخدمها من كتابة ساخرة تهكمية كالتي يمارسها في عموده الأسبوعي بصحيفة الجماهيرية إلى مس قضايا كانت في الماضي من المسكوت عنها وغير القابلة للتعرض للنقد إلى جعل فعاليات هذه الرواية تحدث في مناطق طرابلسية معروفة جدا وذات مغزى وتاريخ عالمي مثل الساحة الخضراء.. السراي الحمراء.. الحديقة التي بجانب الفندق الكبير.. منطقة بن عاشور.. الصحراء الليبية وما بها من آثار.. لبدة الكبرى.. آثار غرزة.. وغيرها تجعل هذه الرواية من الروايات الليبية الرابطة بين الماضي والحاضر والمعرية لكثير من نفاق وعقد الإنسان الليبي والحافرة في خصوصيات هذا المجتمع الذي نعيش فيه والمحللة له اجتماعيا ونفسيا والعارضة بكل شفافية لمعاناته اليومية على مر التاريخ.
لا يمكنك أن تغادر قراءة هذه الرواية من دون أن تحدث لك تلك الخلخلة اللذيذة والتداعيات المرعبة ولا يمكن أن تغادر قراءة هذه الرواية من دون أن تتأمل وأن ترى العشر سنوات والعشر سنوات وكل زمن في حياتك يوقفه القدر من دون رغبة منك.
أجمل ما في هذه الرواية هي العلكة ولكي نفهم العلكة لابد أن نربطها بالكلام وانتزاع الحلاوة بتكراره الممل والعلكة قريبة من شيء اسمه الملل.. والعلكة غير اللوبان الذي تنزفه الأشجار ويظل طعمه في الفم مهما لـُكناه ولا يصنع بالونات حرباوية ملونة تتفرقع في الهواء.. العلكة مرتبطة في فترة من الفترات بالليبيين وما عانوه من حصار.. لقد منع عنهم كل شيء حتى لوك العلكة.. وعندما تم رفع الحصار جزئيا وسافرنا للخارج وفتحت المنافذ البرية هجمت علينا العلكة وبضائع الدرجة الثانية ( سكند هاند ) وصرنا نستهلك ونلوك ولا ننتج حتى علكتنا.. نمنح البترول مقابل العلكة.. بل نمنح أرواحنا أحيانا ونخاطر من أجل تهريب هذه العلكة إلى أرض الوطن.. فوطن بلا علكة لا يصنع بالونات.. ونحن نحتاج للبالونات كي نفرقعها والبالونات التي ننفخها من أنبوب بلاستيك مغموس في رغوة الصابون بالونات مائية نظيفة تحملها الرياح إلى الشمس فلا تعود إلينا أبدا.
العلكة في الرواية تميمة مهمة وحجر نرد منح الرؤية الأفقية ست نقاط وفاز.. فهل سنظل نمضغ الكلام ونلونه وعندما يبح ويفرغ محتواه نرميه ليلتصق في بنطلوناتنا وبدلنا العربية فلا نجد من يخرطه عنها.. هل الحياة نفسها علكة ذات قليل من السكر نلوكها ونرميها قبل أن ترمينا هي وتترك العلكة لتلتصق في أفواهنا.. هذه الرواية من الروايات الجميلة وقصرها هو الذي جعلها طويلة ومن الممكن أن نلوكها من أي مكان نراه كما يفعل عشاق التمثال معه عندما تقفل السرايا أبوابها ويقتربون منه وهو ساكن مانحهم نعومته وبرودته ونظرته الساخرة والباقية إلى الأبد.
لقد ربط بوشناف العلكة بسراب الليل مقدما للقارئ حلوة المبتدأ ولكن هذه الحلوة التي نظل نلوكها سرعان ما تفقد سكرها وتتحول إلى سراب غير مرئي.. سراب مظلم يحتاج إلى قناديل كي نراه.. والقناديل لا تشتعل لتضيء إلا في الأحلام.. والنوم لا يأتي كي نرتاح ونحلم.. فالنوم يحتاج إلى الكثير من العلك.. يحتاج إلى الارتواء والشبع والسعادة والنوم يحتاج أيضا إلى الحرية التي دائما على مر التاريخ تمنح لنا بواسطة الحكام وعندما نأخذها بأنفسنا يعد ذلك جرما يزج بصاحبه إن كان محظوظا في السجن وإن كان سيء الحظ فسوف يعتبر علكة يقدم إلى آلة الموت لتلوكه بصدئها ونارها وغبارها وسرابها الدامي.