حول كتاب “هذا ما حدث” لـ: علي فهمي خشيـم
لنا من التاريخ مذابح مستطيرة وأحلام صغيرة..
لنـا الدمع المشِّع.. لنا نبق الحضـارة..
ولنا من ليبيا أتوات بحر زماننا ونسغ الحاجيّة المقدّس والساحل العظيم.. لنا منها الشظف والحب في شغاف الخجل والعُرف المكين.. ولنا الجمهورية الأولى وكلمات الإنسان الأول..
وقاموس الجمال في ليبيا عرف نقاطاً مضيئة.. المنهل والتذكار.. زاوية الإمام زروق وبندير الشيخ الأسمر.. الأخوة السويحليّة والزاوي فرحات.. الأزاهير البارونية وسليمانها.. الرقيب العتيد والسعداوي.. يناير الزاوية وميدانها التليد.. نخلة فزان ورعان درنـة..
كما عرف خلال نصف القرن الأخير الصيغة العربيّة لكل شيء ألا وهي د. علي فهمي خشيم..
ألم يكن هذا رأياً مستحقاً؟!!
للقارئ إذا ما انتخب للقراءة كتابه “هذا ما حدث” أجوبة.. قد تتآلف وهذه الرؤية أو تختلف معها في هوامش وموضوعات لكن د. خشيم يظل ورغم ذلك اقتراحاً ليبيّاً تشتعل في لجته ألف صلاة للكلمة بتناقضاتها.. بتوقها الحالم وبشططها الجافل..
وإذ أهمُّ بنقاش كتاب سيرة حررته أيادي أكاديمي ليبي ينتابني كما ينتاب عدداً من المهتمين بالشأن الثقافي سؤال يدور استفهامه عن غياب الدور الحقيقي للعمل الأكاديمي الرصين أو حتى الحزين في ليبيا.. ذلك الدور الذي يشكّل في بلاد العالم الأخرى رافداً حيوياً ينصهر في بوتقته المعنى بمختلف غاياته وأُطره..
فثمة أعمال وحقول معرفيّة لا يمكن أن يرتادها المثقف العصامي الذي يحمل على رأسه شارة النزق والتسكع والكتابة بالحالة وباشتراطات قد يمارس العفو معها أصحاب القطبانية العظمى من أهل التصوف..!!
ولا يعني هذا أن ذلك شيء مستحيل وإنما صعب المنال في الظروف الاعتيادية على أقل تقدير.. حقّاً أن ثمة أعمال تحتاج إلى مرانٍ في الموت الفظيع داخل تقاليد استهلاكية مريرة لا ينوء بها إلا نخبٌ من الأكاديميين الليليين لإنجاز مشاريع متفوقة..
وهذا أول خبر نذر نفسه عبر هذه السطور.. ليقول:
بأي دمٍ تكتب المعرفة جُرحِها الكامـل!!..
هذا ما حدث.. كتابٌ شحذ الذاكرة بالنبش في تلافيف المخ عن شيء يمكن أن يصمد في عاقب الأيام.. تاركاً المغزى أو حتى الذكرى بوجهيها السعيد والأليم..
لكن هذا الشحذ الذي ظلّ متواصلاً عبر (560) صفحة من القطع الكبير وبطباعة أنيقة ومستحقة وقع فريسة لعنوان صحفي لا يدفع متلقيه إلى حيث يحتاجه المؤلف أن يقف تماماً.. عنوان الكتاب حزن صغير لتذكر مديد.. وكفى!!.
قسَّم المؤلف كتابه إلى جزئين: الأول على ستين وحدة معنوناً بـ “زنقة شلاكة وما حولها” أما الجزء الثاني فقد احتوى على ثلاثين وحدة فقط معنوناً بـ “زنقة شلاكة وما بعدها”.. ويظهر بديهيّاً اتخاذ الكاتب لزنقة شلاكة هذا الزقاق الصغير والمجهول والذي لا يحتوي على أكثر من ستة بيوت وهو أيضاً زقاق لاطم –أي لا منفذ له- وبالتالي فهو مقصور على ساكنيه من البيوت الستة.. قلت يظهر من البديهي اتخاذ الكاتب لهذا الزقاق كذخرٍ معنوي.. وما كان له أن يبلغ هذا الشأو أو حتى يظهر للقراء كقيمة مكانية إلا عبر هذا الكتاب.. فهذا الزقاق وإن وجد من يعرفه من أهالي المدينة القديمة العارفين فلابد أن ذلك كان حصراً على هؤلاء بخلاف بعض الأمكنة التي استطاعت الولوج من المدينة القديمة إلى نطاق أوسع.. كشارع الأربع عرصات وكوشة الصفَّار وغير ذلك والتي لطالما سجلت حضورها أيضاً في الأدب الليبي شعراً ونثراً..
زنقة شلاكة وما يحمل معنى اسمها من طرافة ووضاعة – والتي تعني الحذاء المبدّد استعمالاً أو ما شابه ذلك- قد ألجمها الكاتب المعنى وسيّج لها السطور جاعلاً إياها مستودعاً للذكريات ونقطة انطلاق ومراجعة لإنشاء سيرته برؤية منظمة.. يقول النص “ولزنقة شلاكة العزيزة جداً على وجه الخصوص أعمق الذكريات وأحلى الذكريات.. إنها تحتل أكثر من ثلاثين عاماً كاملة (شويَّة) في سجل عمري الذي تنطوي صفحاته بأسرع من لمح البصر“.. ص 12
والكتاب يحتوي على تفاصيل حياة المؤلف من المهد إلى السنة الثالثة من قرننا الجديد وما تشابك مع حياته من أحداث وحوادث وحالات وشخصيات راصداً لقطات إنسانية عميقة الغور..
لقد اتهم الكاتب بانضمامه لحركة الإخوان في بداياته وقضى وقتاً قصيراً في السجن جرّاء ذلك ويُتهم اليوم بتعريب العالم!!.. ما أجمل هاتين التهمتين حين تنصهران في وجدان مثقفٍ واعٍ..!!
لقد وقف على رصيف الميناء مودعاً أباه القاصد بيت الله ولم تشتبك يدُه بيدِه وانتظره عند العودة في لحظة مغيب واشتبك قلبه بخبره المرّ.. وماتت زوجته بسرطان الدم وراح يبكي دماً، حابساً أحاسيسَه في فؤاده المكلوم.. وبحث عن خادمة بيته المصرية عبر الأزقة الملتوية دون غيرها بعد انقضاض ما يعرف باتحاد الجمهوريات العربيَّة في زيارة خاطفة للقاهرة زمن تأزم العلاقات السياسية بين طرابلس والقاهرة من سبعينات القرن المنصرم.. وكان أن نظر للصادق النيهوم بترقب مهيب ولم يكن ليحادثه وهما طالبان بالجامعة الليبية.. فالنيهوم متوحد في عوالمه العظيمة الغور ولا يهمه المحيط في صغائره إلا حديثاً عابراً في السفارة الليبية بالقاهرة بعد تخرجهما وأثناء توديع القاهرة للنيهوم واستقبال علي خشيم لها!!.. ماذا يفعل خشيم للنيهوم؟.. مصرته (نسبه إلى بلدته الأصل.. مصراته) ومضى يسرد سيرته والتي ستخطر عن شجارات دارت بينه وبين إدارة الجامعة في معارك إدارية عاطلة عن الفن!!..
إن الهمّ المؤسسي يطغى في سيرة الكاتب ويستحوذ على أجزاء ضافية.. ولابد من تقدير ذلك بصفته ينتسب إلى جيل التأسيس.. لذا ليس غريباً أن تكون جلّ معاركه في هذا الفلك المروّع.
وهذا خبر ثانٍ نذر نفسه عبر هذه السطور- ليقول:
ليست الكتابة حروفاً فقط وإنما حراك ميداني ومواقف فضلاً عن العشق الهستيري للكائن الأسود المسمى الحرف..!.. اللعنة الصامدة في قلب مريده!!..
إذن هي السيرة التي تضم عشرات اليوميات التي لا يمكن تناولها نقدياً أو إبداء الرأي فيها لأنها سيرة واقعة، قدمها المؤلف كما هي.. بشخصياتها وبأحزانها الصغيرة وبهمومها الكبيرة ولم تستتر أو تتوارى في نص روائي.. سيرة مرشحة من نظرة الكاتب ورؤيته للحياة والناس وظروفه وملابسات كل ذلك.. ومع ذلك يمكن استنباط مواقفٍ ظلت متسقة حتى النهاية.. كحبه لمدينة طرابلس أم السراي العالي وعشقه لمدينته الأصل مصراته وللمصراتيين في أصقاع الأرض.. لقد كتب ما كتب عن هاتين المدينتين من مهجة قلبه واصفاً الشوارع والناس والجرائد والأندية وبقايا المستعمر والمقاهي والشعراء والمطربين متناسياً الغدر اليومي الذي يمارسه الوطن ضد نخبه وضد مواطنيه ولربما أيضاً كان الوطن رحيماً مشفقاً بالمؤلف لظرف ما!!.. لكنه لم يكن أبداً مع غيره بهذا الحِلم!! فأحياناً يبدو الوطن آنية صدئة أو قربة مثـقوبة أو خرقة نتنة تمارس القرصنة على أشياء المطبخ!! الوطن في سيرة خشيم لم يكن مشدوخ الرأس أو معاقاً بل ظلّ مهذّباً يحرث للكلام أرضاً وللغة طقس الطاعة..
ويمكن أيضاً رصد تعلقه الهادر بشخص وفكر جمال عبد الناصر وما بعثه من إرث قومي.. لقد قدم المؤلف سيرته ونفسه قرباناً لهذا التعلق بغواية مستبسلة في الانتماء..
والمؤلف والذي ابتدأ حياته الثقافية بهجوم على الخراب العقائدي والنفسي الذي كان سائداً في المجتمع الليبي آنذاك، والذي ما زالت –في نظري- تداعياته ناصعة في حياتنا اليومية بمقالة صغيرة بصحيفة طرابلس الغرب (عام 1958) وهو تلميذ الإعدادية يقول فيها: “من المناظر المؤذية والصور التي انطبع بها مجتمعنا الليبي أن رجلاً ماسكاً بدف ينقر عليه نقرات ويردد معها بعض تواشيح كي يجمع الناس حوله ثم يمد يده ليسألهم إحساناً.. الخ” ص52.
ما لبث حتى عرج عن هذا التوجه الصدامي بالانصراف بممارسة العمل العلمي في ذات الموضوع الذي افتتح مشروعه الثقافي به لتكون أطروحته للدكتوراه بجامعة درهام عن الصوفية وتحديداً عن الطريقة الزروقية ووظائفها وشيخها الإمام أحمد زروق وهو بذلك وبغير ذلك يحرص شأن المثقفين الذين يوصفون بالتقليدية أو (المحافظون العرب كما أسميهم) على مشاعر العوام ومسايسة أهواءهم والدفع بهم نحو السبيل القويم بالموعظة الحسنة والإرشاد لا بالتجربة وحرارتها وتجدر الإشارة هنا أن سيرته خلت من المغامرة نحو الأنثى وما حولها ومن تجارب الشهوة الإنسانية بمختلف إشتهاءاتها.. إنه من ذلك النوع الذي يرى في حياته مرآة للآخرين وإنه لابد وأن يعيد للوصايا العشرة أرضها المستلبة ما دامت الكتابة تنسج خيوطها..
إنها سيرة مؤدبة لأديب ولغوي يقف ضمن عددٍ قليلٍ من الأدباء والكتاب ممن أغمدوا أقلامهم قبل الشروع في الكتابة في محبرة الجامعات في زمن كانت الابتدائية نصلاً يحيي ويميت!!
أما بالنسبة للغة النص فهي لغة سلسة يمكن تناولها أو تداولها لشرائح ذات ثقافات متباينة وأعمار مختلفة مدعمة بعشرات المترددات العاميّة لينتصر المؤلف في نهاية المطاف لقارئه البسيط الذي همس له في أذنه بقوله:
“أشعر وكأنني عشت خمسمائة عام. اختزلت الزمان في بضعة عقود مخربي عبرها قارب الحياة. استضأت بفتيلة الزيت وها أنا أسبح في نور الكهرباء الغامر. تعلمت أول حرف بقلم من الغاب على لوح مطلي بالطين وإذا بي أتصل بالدنيا كلها بشبكة (الأنترنت). عاصرت ضروب الحكم في بلادي مستعمرة.. فمملكة متحدة.. فمملكة موحدة، فجمهورية فجماهيرية.. وخالطت أهل مختلف الأيديولوجيات والأفكار وأرباب شتى السياسات والاتجاهات..الخ”.
ونهاية القول إن علي فهمي خشيم بكتابه “هذا ما حدث” استطاع حيازة شجاعة كافية ليخذل بالعذر الليبي أو شعار التعذر الذي يسحبه عدد من المثقفين الليبيين على مشجب نكران الذات وتقزيم التجارب ومصادرتها.. وتعليق المؤلف حول هذه النقطة يقول “يدفعني إلى نشر ما سجِّلت هو دفع التهمة أو رفعها وهي صحيحة، عن أهل بلدي أنهم ضنينون جداً بكتابة ما علموا وتسطير ما شهدوا وتقييد ما مرّوا به ومرَّ بهم، في الحياة. فلو فعلوا لأبقوا لنا سجلاّ نعود إليه نستعرض فيه ماضينا ونفهم به مظاهر تاريخنا وظواهر تراثنا وقد آن لنا أن نتلافى هذا النقص ونسد الثغرات”. ص 7-8.
لقد فعل علي فهمي خشيم هذا ملتحقاً بكامل المقهور في محطاته وأمين مازن في مساربه وعبد الرحمن الجنزوري في رحلة سنواته الطويلة والهادي المشيرقي في ذكرياته وأحمد زارم في مذكراته. وتبقى مناقشة التفاصيل وتدقيقها لمعاصريه أو معاصريها ويبقى سؤال ثراء بعض الأزمنة باليوميات والأحداث وفقر بعضها حد الجذب سؤالاً قد يبحث عن إجابة!!؟
18/4/2004