النقد

الضمير اللقيط يُحرِّر الكتابة من إكراهية النصِّ

الأدب الليبي الحديث: عاشور الطويبي نموذجا

عبد الوهاب الملوح

ربيع قفصة/تونس 2004

لكأنها مشاهد طيفية عابرة أو هي تداعيات ذاكرة مهدودة ولعلها حواش مشروخة لحكاية يرددها صدى أصوات موجوعة؛تئن طورا وطورا آخر تصرخ من الفزع؛ فتتصادى محمومة؛لا تهدأ ولا تهفت؛لكأنها موَّال بدوي يوقد إيقاعه فتهرع إليه وحوش الخلاء مستأنسة به؛أو هي خربشات يجترحها مبتدئ يتهجَّى حروف أبجديات الكينونة بجوارحه وتوهجات ذاته المنكسرة؛ ولكنها رواية أو هي توهم بذلك؛وهي كتابة تخرج عن طاعة النصِّ؛وتنتهك حدود اللياقة الأدبية حتى إنها لا تلتزم بشيء غير ما يستدرجها من تجليات الروح المنفلتة من قيد الزمن والمكان؛هي هكذا تعلن عصيانها وتمضي في اتجاه تشكيل كيانها من بعثرة الكلام وتشظي الروح الآبقة مما يؤهلها للانضباط والالتزام بمواثيق المؤسسة؛لكنها رواية تتمرَّد على أصول وقواعد كتابة الرواية وتتمرَّد على قوانين السرد المعروفة.إنها كتابة تنتصر لنفسها بأن تهزم سياقاتها فلا تمتثل لأي ضوابط كما لا تؤسس لها؛ تعتمد على إحداث فجوات سردية عميقة من شأنها خلخلة البناء العام بحيث يبدو العمل من قراءة أولى مهزوزا ليس فيه من مواصفات النص الروائي شيءٌّ يستحقُّ الذكر فالروابط بين الأحداث معطوبة في الغالب والشخصيات تبدو غامضة الملامح مجهولة الصفات والأحداث في حدِّ ذاتها لا تكاد تأخذ في التشكُّل حتى تتوقف لتبدأ سلسلة أخرى من أحداث لا صلة لها بالأولى؛ أمَّا التسلسل الزمني فهو قمَّة الفوضى التي تعصف بالعمل فلا زمن حقيقي للسرد؛ يختلط الماضي بالحاضر بما سيأتي ولا يأتي وما كان سيحدث ولم يحدث؛ زمن الديمومة الذاهب في الأبدية؛ ليس لأحداث هذه الرواية زمن واحد ولئن أوحت بعض الوقائع بذلك أحيانا من مثل ما قبل ثورة سبتمبر في ليبيا أو زمن اتفاقيات أوسلو؛ غير إن الأمر ليس ذلك تماما طالما إن المسألة تتعدَّى مجرَّد الوقائع التاريخية إلى أمر آخر أهم بكثير.

ولكنها ليست رواية فقط إنها مشروع كتابة مغامرة على غرار ما بدأه الراحلان مؤنس الرزاز وتيسير سبول وصنع الله إبراهيم ومحمد شكري وإدوارد خرَّاط والراحل جميل حتمل ولعل عاشور الطويبي الكاتب الليبي يذهب أبعد من هؤلاء حين دخل مناطق مجهولة يجرِّب مختلف الوسائل وغير مطمئن إلى أسلوب واحد موظفا الشفهية في مستوياتها المتعددة من الكلام الدارج العرضي إلى أدب المشافهة معتمدا الوصف السردي؛ والسرد المتشظي إلى السرد العبثي؛ منوعا المشاهد من خلال عمليات مونتاج تعسفية حينا وحينا آخر منتظمة ومتداخلة دون أيَّة روابط فعلية تشدُّها إلى بعضها؛ ومستدعيا التحقيق البوليسي في تداخل مع حالات الإفضاء الشعري في أشكال مختلفة ضمن التداعي أو الهذيان المسرف إلى التكثيف وما ينجرُّ عن ذلك من التعويل على الصورة الشعرية سواء بتبني موتيفات الاستعارة أو من خلال تكسير الجمل في توازناتها النحوية أو الدلالية؛ وعدم التركيز على صوت واحد للرواي أو موقع وحيد له في خضم تواتر الأحداث وإذا بالضمير المتكلم؛ يتحوَّل فجأة إلى الضمير الغائب ليفسح هذا الأخير للمخاطب المفرد؛ ليتولَّى الحكي فجأة ضمير لا مرجعية له أصلا؛ ولا موقع له؛ يتبنى الأحداث ويسيِّر دفَّتها ويُشرف على إنجاز فعل الكتابة وقد أزاح كل صوت أصيل فيها ولا يكشف عن هويته سوى أنَّه الضمير اللقيط الذي يسطو على عالم الرواية وهو الذي لم ينتجه غير التوغل الانتهاكي للكاتب في محاولته للخلاص من إكراهية النص وإلزاميا ته المكلفة التي تفترض انضباطا من شأنه أن يضيَّع عليه ما اقتنصه من رؤى لحظة تجليِّه.

يعمد عاشور الطويبي في روايته در دانين إلى المجازفة والذهاب بعيدا في الكتابة طالما إنَّها منفاه الوحيد.

وحين تتحوَّل الكتابة إلى منفى؛ يتحوَّل النصُّ إلى لحظة خارج التاريخ متخلِّصة من تأثيراته الإجرائية ومن سطوته؛لتصبح شاهدة عليه؛ لحظة خارج المكان أيضا تؤسس له من خلال إحداثيات مغايرة للحدود الجغرافية؛ وإذ يجازف هذا التناول بقطيعته مع المرجعيات السردية السائدة فيبدو في بعض اللحظات مهددا بالانهيار؛أو هو على حافَّة السقوط؛ سواء بالتهافت على استعمال القوالب الجاهزة أو التورط في الخطابية التقريرية أو الوقوع في شراك الهذيان المجاني العبثي لكن حرفية الكاتب العالية تنقذه من السقوط طالما إنه يتمثُّل رؤيا كاملة ينهض عليها مشروعه في الكتابة شعرا أو نثرا.

لغــة الكتابة كتـــــابة اللغة:

لا تتخذ هذه الرواية اللغة مجرَّد أداة,طالما إنَّ جوهر الحكاية في وجه من وجوهه سيرة اللغة؛وإذا بالكتابة هنا ترصد اشتقا قات اللغة وتبحث في طرائق تشكلها وأوجه نموها منذ نشأتها إلى أن تتحوَّل أمما وهكذا قال الشيخ الأكبر ابن عربي’’ الحروف أمم’’ تكبر وتتسع من مجرَّد جذر لغوي إلى أن تصبح ممالك وأمما , وإذا بالكاتب يتقصَّى سيرة اللغة في القواميس والمعاجم ومختلف الأثر العربي؛ يتوقَّف عند لحظات تحوُّلاتها من العامية إلى الفصحى ومن الفصحى إلى العامية ويستوقفه الدخيل والمركب فيحفر في أصوله ولكأنه دارس لساني أنثروبولوجي. ولأنَّه ليس هناك رواية من دون وقائع؛ فتأخذ تحولات اللغة هذه حيِّزا في سير الأحداث بل إنَّها تتداخل أحيانا مع الأحداث الفعلية للأشخاص وإذا بالحدث ينفلت من يد شخصيات النصِّ لتنجزه مفردات اللغة.يقول: (حرَّك ببطء شديد إصبع الإبهام والإبهام من الأصابع العظمى معرفة مؤنثة قال بن سيده وقد تكون في اليد والقدم وحكى اللحياني أنها تذكر وتؤنث إبهام الأمر أن يشتبه فلا يعرف له وجهه وحائط مبهم لاباب فيه قدر قوة ضغط كل نتوء والزمن الذي يستغرقه الانتقال من نتوء…)

أو يقول: (تقدم أمامك إلى أن يصل إلى مفترق الطرق ثم انحرف في حديث ابن عباس أهل الكتاب لايأتون النساء إلا على حرف إي على جانب وحرف عن الشيء يحرف حرفا وانحرف وتحرف واحرورف عدل يمينا وقماش البذلة داكن ورخيص رغم جدته…).

وفي موضع أخرى يتورَّط في سرد عبثي لا علاقة له إطلاقا بالحكاية الأصل فيبحث عن أصل كلمة ’’بع بع’’ التي تصيح بها الأغنام؛ وفي لحظة من أشد اللحظات تهكما في هذه الرواية التي لاتكاد تخلو فقرة منها؛ يقول: (ذات يوم أخذ الإنسان أفصح الأغنام وأجملها وطلب منه مرافقته إلى مكان قريب رأى الفصيح جلودا كثيرةمطروحة فبي الخلاء لابد إنه سيعطى بذلة جديدة يا لسخاء الإنسان وكرمه فبدأ يرقص ويتمسَّح بساق الإنسان ولسانه يلعلع بقصائد الثناء إلى أن شاهد السكين على رقبته وعندها عرف السر وقال بأعلى صوته باع باع باع ومنذ ذلك الوقت صارت لغة الأغنام كلمة واحدة باع…)

عبثية مطلقة في توجيه مسار السرد ولعب بالأعصاب إلى درجة الاستفزاز؛ يضيع خيط السرد وتنطمس معالم الحكاية فتتحوَّل الرواية إلى مبحث لغوي وكتابة في اللغة , وليس الأمر من العبث في شيء طالما إنه بحث عن لغة للكتابة وهو بحث أنتجه قلق الخروج عن السائد وعزيمة إرساء الجدَّة في الكتابة على غير شاكلة سابقة.

فإذا كان يوسف الخال قد عبَّر عن أزمة الشعر العربي من خلال بيانه ’’جدار اللغة’’ الذي بيَّن فيه ما تمثله اللغة من معوقات أمام تطور الشعر العربي وإذا كان الروائي الكبير جبرا إبراهيم جبرا كتب روايته الأولى صيَّادون في شارع ضيق’’ بالإنجليزية مدعيا إنه مازال لم يجد وقتها – في اللغة العربية- لغة روائية تمكنه من كتابة الرواية فإن عاشور الطويبي كسَّر جدار اللغة وأوجد لغته المتفردة وذلك بتوظيف جميع ما في هذه اللغة من إمكانات وطاقات في مستوياتها وأشكالها المتعددة.

يقول الفيلسوف ميرلو بونتي في كتابه ’’نثر العالم’’: (لا مكان للجدة والإبداعية والتجاوزية في اللغة المترسِّبة؛ اللغة المتأسسة والمبنية سلفا ولكن الجمال والدهشة إنما تنتجهما اللغة العرضية؛ العابرة.)

اللغة العرضية العابرة هي نفسها التي يُعوِّل عليها صاحب ’’دردانين’’ لغة متوهجة؛ حارة؛لغة التداول الشعبي المتميزة بحيويتها وسعة أفقها وقابلية انفتاحها على كلِّ ما هو جديد؛ تلبِّي حاجات الإنسان في كل وقت وفي كل مكان يستولدها لإنجاز بقائه ويستو لدها لمقاومة فنائه وتعمل هذه الكتابة على تحويل اللغة من مجرد أداة للقول إلى موضوع سردي من خلال اختبارها بتداخل مستويات استعمالها وذلك بمزج العامية بالفصحى؛ يقول: (ذهب إلى الأسواق يسأل الناس عن بالك أسئلة تعقبها ضحكات وهزات رؤوس ثم وفي سوق بعيد وفي ساحة الحطب سمع صياحا هائجا بالك أنت بالك فجرى حامدا ربه وطلب بإلحاح أن يبيعه بالك ولو أخذ فلوسه كلها أعطاه بالك وضعه في الشكارة ووصل إلى أبيه فرحانا اتيشنو يا فرخ خيرك جيت فيسع فتح له الشكارة أدخل الأب يده وصاح صيحة خر بعدها ميتا شنو بالك حنش وما فيش حنش غير بونا آدم قال الولد هادي بالك بفلوسك أشريتهالك يا داير الخير لاقيه يا داير الشر هالك شعر بالبرد يسري في أطرافه تبسم وأسرع في مشيته وحيدا)

وهو يختبر هذه اللغة بكسر البنى النحوية لها وذلك بالاقتصاد في استعمال حروف العطف والجر وأسماء الوصل وعدم التعويل على الشكل مطلقا وعدم الاعتماد على علامات الفصل بين الجمل والفقرات؛ فهو يتدبَّر أمره مع اللغة بشكل يتجاوز مستواها اللفظي المصطلحي ويذهب إلى العناية بمعاشرتها وبناء وشائج روحية معها والامتلاء بها بحيث تأتى صياغته صياغة عفوية متحررة من سلطة القواميس وقهرية النحو ومتعففة من التبعية حتى إن الصيغ الموغلة في العامية تتجاور مع الصيغ الشعرية إلى أن تتداخلا؛ يقول: (الخشب أعظم الصيادين ما تخممش نوض خش ال داخل ارتاح شوية والليلة تطلع معانا نوض نوض ينهض البحر يجري وراء أمواجه في هدير كبير أوف اووووووووف
أووووووووف أوووووووففففففــــــــــــافا. يخرج القنصل وراء مسعودة يدخلان ممرا مظلما تنفتح الظلمة)

تتداخل الصيغ العامية والصيغ الشعرية لتنتج كتابة مُحدثة تعبر عن طموح بالغ لاستكشاف مواطن الجمال بأساليب ذات تراكيب غريبة ومجهولة أحيانا تماما.

نهاية الكتاب بداية الكتابة: 

من سمات الرواية الحداثية العربية إنها كتابة تتأمل نفسها وتقلِّب النظر في وسائلها وأدواتها لتتحوَّل إلى كتابة شارحة للكتابة. الكتابة هنا بحث ملتاع عن الخلاص وهو بحث ينتهي في آخر الأمر بتحوُّل الكتابة ذاتها إلى خلاصٍ. فهذه الرواية إذا أردنا تلخيصها رغم ما قد يُلحق بها هذا التلخيص من تشويه إذ لا يخلو أي ُّ تلخيص لأيِّ رواية من خيانة في حقِّ النصِّ الأصلي؛ وبما أن لكل رواية حكاية فحكاية هذه الرواية إنَّ أحدهم شرع في كتابة قصَّة يتحدَّث فيها عن نفسه وعن جمعة بورجل هذا الصبيِّ اليتيمِ الْذي انتهى به الأمر إلى قوَّاد يكتب تقاريره عن مراقباته اليومية للناسِ وتتقاطع الكتابتان ومن حين لآخر تتدخَّل كتابة أخرى يُنجزها ضمير لامرجعية له في النصِّ أصلا يسير دفَّة الأحداث ويشرف على إنجازها فيأتي بأشخاص ويعمد إلى مواقع ويشير إلى أحداث أخرى لها قد تكون لها صلة بالحدث الجوهري وقد تكون لقيطة بلا سند. المفيد إنَّها في الظاهر حكاية رجل لا علاقة له بالعالم؛ يجلس كل يوم أمام البحر ,يلقي بحروفه إليه وعليه أن يبقى طويلا لمعرفة طرق اتصاله بالعالم. عالمه هو؛ عالم الأشياء من حوله وهو لذلك يعيش الأشياء من الداخل يعيشها بكل عمق ويعمل على تجذيرها داخله حتى أصبح بعيدا عنها؛ أصبح هامشا لمتنها. هو يريد أن يدخل عمق الأشياء يقول: (أبدا كنت تبحث عن عمق الأشياء من حولك………….)
يجلس في مقهى ويتابع حركة استفاقة المدينة في انتظار مرور امرأة ما؛ يتابع المشاهد أمامه حتى يضيع فيها؛ويوقف حركة الزمن لتأطير المشهد الدقيق في لحظة زووم مكبَّرة من ذلك: علاقة الطاقية بالأفكار في الرأس والبائعات الزنجيات الجالسات على الرصيف يبعن مختلف الحشائش فتصبح روائحهن من أنواع الحشائش وطريقة مشي العتري صاحب التاكسي وفجأة يغزو التخيل هذا الرصد الحي للمشاهد وينفصم التسلسل الروائي فيسود الالتباس السرد لتعود الكتابة إلى تأمل نسقها والحفر في ذاتها من جديد يقول: (سأوقف الكتابة الآن الشاي في انتظاري قمت على حسب أوامركم بمتابعة المشبوه…..)

(متى تنتهي الأسطر في الصفحة حتى أقلب الأمر وأنام…)

(ترددت كثيرا في الاستمرار في الكتابة ورأيت أن هناك إمكانية لنهايات متعددة؛ الأولى أن يغير الأحدب رأيه ويقرر الخروج وربما أسمح للسمين أن يأذن له بالخروج…لا لن أتوقف لا لن استسلم سأصل إلى النهاية…)

(إن القصَّة كالدائرة أيّ نقطة فيها يمكن أن تكون النهاية أو البداية) 

(أرعبني أن أموت وينتهي أثري قررت أن أكتب عني وعن بورجل)

إن التذكير في كل مرَّة بهذه المقاطع يدخل ضمن إعادة تشكيل الكتابة للكتابة ’’ الميتارواية’’ حيث يتم اختراق جسد النصِّ وإحداث شقوق فيه لتتمرد الكتابة على عناصرها وهو ما يؤكد قلق البحث عن أسلوب متجدد ويصبح هاجس الكتابة هو الحدث الجوهري في النص هذا الهاجس الذي أوجده الضمير القادم من الفراغ؛ الضمير اللقيط؛ الذي أنتجه هول الفراغ وهول الكارثة التي يعيشها سواء هذا المسمى عاشور الطويبي أو جمعة بورجل أو أستاذ التاريخ أو عبد الوهاب الملوح أو قارئ آخر في مكان ما أو جهة ما؛ حتما سيعيد كتابة الرواية على طريقة غير التي كُتبت بها المرة الأولى ليفهمها ويتعشَّقها على طريقته؛ تفسح الميتا كتابة المجال لارتياد مجاهل لا حدود ولا آفاق لها غير التجلي والشطح.

في الحقيقة ليس لصاحب المجموعة الشعرية’’ أصدقاؤك مرُّوا من هنا’’علاقة محدَّدة بكتابته وهو إذ يجنح أحيانا إلى توثيق الأحداث بأسلوب تقريري أو مستدعيا التحقيق البوليسي فإنما يتخذ موقفا محايدا من النصِّ لا دخل له فيه يورده كما جاء جافا باردا؛ لكنه ينزع في أحيان أخرى إلى التورُّط في الحدث بحيث يصبح من صانعيه بل ويبدو وكأنه المسيِّر الوحيد له وأحيانا اخرى يلتبس الأمر بينه وبين أحد الشخصيات وإذا بهذا الضمير اللقيط يستولي على مسار الأحداث وبين الكتابة المحايدة والكتابة المتورِّطة يفقد النصُّ ترابطه العضوي ليسلم أمره إلى معالجات في الكتابات ذات مستويات عميقة ومتعددة تتجاور فيها الصيغ الشعرية والصيغ النثرية العامية ويتجاور فيها الأسطوري والحقيقي وتتداخل فيها الثقافة الشعبية مع الثقافة في بعدها الرسمي والتاريخ الهامشي مع التاريخ المدوَّن وإذ يعوِّل عاشور الطويبي على مبدأ التجاور ثم التداخل بين الصيغ فإنما يفتح الباب مشرَّعا لزوايا نظر مختلفة المصادر لفهم الشخصيات التي تنوء بالحدث وتصنعه أو العكس لأنه ليس من سبيل إلى فهم الكتابة دون المجازفة فيها وتجريب مختلف الأساليب ولذلك لن يتأخر صاحب دردانين عن توظيف مختلف الوسائل للوصول إلى فهم حقيقي للكتابة؛ فهم متجاوز فيعمد إلى جلب مفردات الثقافة الشعبية وزرعها في أنحاء النصِّ لتتحوَّل لحمة وسداة الكتابة معا والتوقف الطويل عند مشاهد الثقافة الشعبية والتلوين عليها إنما هو حفر في أعماق الجذور الأولى المكوِّنة للشخصية بحثا عن هوية قلقة انتهت إلى التشظي؛ هذه الهوية التي تفتقدها شخصيات الرواية وعلى رأسهم جمعة بورجل؛ يقول: (رغبة حملها لسنوات أن يعرف من هو أمر قد يبدو للآخرين عاديا وبسيطا لكن لمثله الحياة تعتمد كلها على هذه المعلومة الصغيرة) وما العودة إلى منابع الثقافة الشعبية إلا محاولة لاستعادة هذه الهوية ,كما في مثل حديثه عن لعبة الخربقة, يقول: (الحركة عادية وفرق لاعبي السيزة أو الخربقة منتشرون في كل مكان بحواليهم وظهورهم المحنية على الرقعة الرملية ما اجمل هذه الجملة شعرية يمكنني أن استفيد منها في قصيدة يتابعون اللاعبين لن هذه اللعبة تستوجب لاعبين فقط)

أوحين يتعرَّض لحكاية منكر ونكير؛ يقول: (اللي ميتين راقدين تحت التراب راقدين بحدا بعض من غيرخوف هي ليلة وحدا الليلة اللولة يجيهم فيها منكر ونكيروبعدين خلاص لا خوف ولاهم يحزنون) 

وفي موضع آخر يستطرد في وصف الرقصة الشعبية التونسية؛ يقول: (تبدأ الضربات القوية على الطبل تنداح صوت الغيطة حادة ولاسعة تدخل أربع نساء ممتلئات الأجسام يرتدين أردية تونسية تقليدية فضفاضة…..) 

وفي مقطع من أشدِّ المقاطع طرافة يتحدث عن مرض الحصبة؛ يقول: (كنت مريضا بالحصبة ووضعتني المرأة على فرشة حمراء فوق السدة ثم غطتني ببطانية حمراء والسبب في اختيار اللون الأحمر هو الاعتقاد السائد أن اللون الأحمر يساعد علىاظهار الطفح الجلدي وبالتالي الاسراع في الشفاء)

ولا أعتقد أن مثل هذا الاستطراد في استحضار مشاهد من الثقافة الشعبية والتلوين عليها من زخرفة النص أو توشيحه بمقامات فلكلورية تتزيَّ بالقشرة في سبيل عرض كرنفالي سياحي ولكن هذا الاستحضار مقاربة في البحث عن تقنية أخرى في الكتابة؛تقنية تعتمد على استلهام المنابع الأولى لمكونات الشخصية العربية ولذلك سيحفل النص أيضا بمقاطع مستدعاة من الأسطورة الشعبية؛ الأسطورة التي يتداولها الناس وليست أسطورة الكتب والنخبِ.من ذلك استحضار أسطورة بوسعدية ص89

إن اللجوء إلى هذه الموتيفات من خلال أسلوب يتعمد الانتقال الفجائي من حدث إلى آخر والولع بالتفاصيل الدقيقة والالتباس وغياب التوازن بين العناصر المألوفة في السرد: الوصف والحكي والحوار في تهميش مقصود لمركزية الراوي وإفساح المجال لتعددية مصادر الحكي. هذا كله أدَّى إلى إنجاز كتابة متحررة من إكراهية النص في سبيل تحقيق ذاتها.

ولعل مكر الكاتب الذي عرف كيف يحدد مسارات هذه المتاهة ويقدر على تحقيق إرجاء المعنى بإخفائه أو التلوين عليه أو التوغل في تفاصيله لتشتيته وتشظيه استطاع أن يصل بخيوط شبكته الدقيقة إلى حيث انتهى الكتاب ولم تنه الرواية ولم تنته الكتابة ذلك إنه يُفاجئُ القارئ بشخصية جديدة في الصفحة الأخيرة؛ هذه الشخصية هي لتي عنون بها الكتاب ’’دردانين’’ وإذا بالرواية أو ما توهمه القارئ كذلك يعود إلى الدائرة الأولى وإذا بها كتابة تصلح أن تُقراَ من آخرها عكس بقية الكتابات.

يا لمكر الكاتب ويا لدهائه الجميل؛ لا يكفي إنه خرج عن طاعة النص وإذا به يفتتح كتابته من حيث ينتهي الكتاب ويعتقد القارئ إن المسألة انتهت وإذا بالنهاية هي البداية.

هكذا يتعمد عاشور الطويبي إرجاء المعنى في عملية لإغواء القارئ الذي حتما سيفقد صوابه ليعود لقراءة الرواية من جديد بحثا عن العلامة indice التي ستدل على هذا الدخيل في الرواية و هو ليس في الحقيقة سوى الضمير اللقيط الذي أدار كل شيء من الأول ومازال طالما إن الكتابة لم تنته والحفر مازال متواصلا وهذه الرواية لا تحفر في مفهوم الكتابة فقط بل تحفر في التاريخ أيضا.

 

التاريخ المسكوت عنه:

في رائعته’’بـاب الشمس’’ يستعرض الروائي إلياس خوري جانبا من تاريخ القضية الفلسطينية ويطرح سؤالا على غاية من الخطورة؛ أيُّ تاريخ أجدر بالثقة؟ التاريخ الذي تعتمده السلط والأنظمة؟ أم التاريخ الذي يدوِّنه العلماء أم التاريخ الذي تصنعه الشعوب وتحكيه بطريقتها ؟ وليس يخفى على أحد مدى خطورة هذا السؤال المشاغب. كيفية التعامل مع التاريخ هي حجر الزاوية لفهم اللحظة التي يمرُّ بها كل شعب إضافة إلى إنها تدخل في تحديد التوجُّهات المستقبلية له ويمكن إعادة صياغة المسألة بالشكل التالي: عن أي تاريخ نتحدَّث؛ التاريخ الرسمي الذي تعتمده الدول والأنظمة ؟أم تاريخ الشعوب الفعلي ؟ أم تاريخ المواجهات بين الشعوب والأنظمة؟ ’’ دردانين’’ لعاشور الطويبي الكاتب الليبي المشاغب تعالج هذه المسألة رغم إنها ليست رواية تاريخية؛ لكنها تحفر في التاريخ وتسأل عنه؟، لا تتوقف الكتابة في هذه الرواية عند زمن معين ورغم إن أغلب الأحداث تتم في الظاهر في ليبيا أثناء الاستعمار الإيطالي؛ لكن وقائع أخرى تجري أحداثها بعد الاستعمار خلال العشرية الأخيرة من القرن الفائت.

إن عدم تعويل الكاتب على التسلسل الأفقي لسير الأحداث وتمرُّده على التعاقب الخطِّي للزمن وفَّر على الكتابة لجوءها إلى مبدأ التعليل وأخرجها من دائرة الأسلوب التقليدي في السرد وإكراهية التسلسل التاريخي فعاشور الطويبي يؤرخ للأحداث من خلال درجة وعي شخصياته وتأويلهم للواقع؛ لذلك يعمد إلى استعراض وجهات النظر المتباينة؛ كيف يكتب جمعة بورجل التاريخ ومن ورائه رجل السلطة وكيف يكتبه مدرس التاريخ؟ وإذا كان التاريخ عند جمعة بورجل هو تاريخ التجسس على الناس و مراقبة أعمالهم وتسجيلها في تقارير بوليسية؛ فالتاريخ عند مدرسه هو تاريخ الشعوب وبين رأي جمعة ورؤِية المدرس يتدخل الضمير اللقيط ليعيد ترتيب الأمور بشكل فوضوي؛ يقول: (إنت تقري فاش سأله فجأة في التاريخ تاريخ شنو تاريخ ليبيا لكن مش التاريخ الصحيح اللي نقرى فيه تاريخ الحكومة أما التاريخ الحقيقي اللي صنعوه الشهداء والمجاهدين محبوس إهني وأشار إلى صدره ولازم في يوم من الأيام يطلع)

يشاكس عاشور الطويبي السؤال في مقاربة ذات أسلوب تهكمي فهو يقول في موضع آخر:
(نظر في عينيه سأله ماذا تدرس التاريخ وهل تِمن بالتاريخ كل شيء تاريخ باهي ووقوفكم هنا في هذه الساحة تاريخ نعم وعدم وقوفنا هنا في هذه الساحة تاريخ باهي أي تاريخ تدرس تاريخ الوطن العربي أي تاريخ فيهم تاريخ الحكومات أنا آسف على وقوفكم كل هذا الوقت لكن مش بإيدي فكر في التاريخ بالك يخفف عليك…)

بهذه اللهجة التهكمية الساخرة يستعرض الكاتب وجهة النظر الرسمية التي تجيء على لسان الضابط؛ لكن ساركاسم المؤلف يصل إلى ذروته حين يقول: (زاره الجمعة الماضية مدرس الجغرافيا قال له ضاحكا التاريخ في السجن أما الجغرافيا ستبقى دائما حرة)

غير أن الكاتب المهموم لا يترك الأمر على هذه الحال وبالأحرى ليس الكاتب فهاهو الضمير اللقيط هذا الضمير الذي يتابع سير الكتابة و يتدخل بشكل صدامي في اللحظات الأشد تأزما يقول: (إنه هنا ليعلمهم التاريخ وسيعلمهم التاريخ سيجعلهم يصنعون أو على الأقل يفهمون التاريخ الحقيقي…وأمانتي تاريخ الوطن العربي ياله من تاريخ مزري وحافل بالخيانات حكومات خائنة سلاطين وملوك من ورق باعوا أنفسهم لغيرهم وباعوا شعوبهم للذئاب)
يروق لصاحب دردانين أحيانا أن يترك الخطابية تتسلل إلى كتابته ولكنها ليس انفعالية إجرائية بقدر ما هي مشاكسة استفزازية للسياق العام سياق الكتابة المألوف وسياق الرؤية التقليدية للتاريخ.

وبرغم تعدد الأصوات في هذه الرواية بطبقاتها المختلفة وآرائها المتباينة لا يلجأ الكاتب إلى إجراء التقابلات التي قد تدفعه إلى السقوط في التعليل بحكم ما قد تفترضه بنية السرد التقليدي من إحداث توازنات بين الأطراف المشاركة في القصِّ غير أن المتأمل في تقنية الكتابة لن يضطرَّ إلى اللجوء إلى مثل هذه المقاربات على اعتبار إن العمل في حدِّ ذاته خال من التوازنات طالما إن أوصال الحبكة مفككة والنسق السردي متشظٍ.إن بنية هذه الرواية؛تشبه إلى حد كبير البوزل تركيبها يستدعي فطنة كبيرة والكثير من القدرة على التحيل وعاشور الطويبي إذ يعمد إلى هذا الأسلوب في طرحه لمسألة التاريخ أليس فيه دعوة إلى إعادة تركيب التاريخ بهذا الشكل بالكثير من المكر والتحايل كمثل تخليص الحرير من الشوكِ وأي شوك يتخبط فيه تاريخ العرب لا يذهب عاشور الطويبي إلى التاريخ للاستجداء ولا يذهب إليه للاستمناء كما إنه لا يعمل على استرداده ولكنه يريد أن يصنع التاريخ وهو إذ يعود إليه لا ينظر في السجلات والوثائق ومدوَّنات المؤرخين أو تحليلات العلماء إنما يُنصت إلى إيقاعات الثقافة الشعبية وتأويلات الملفوظ الشفهي ويغوص في أعماق الأسطورة كما استولدها الحسُّ الشعبي ويُفسح المجال للشخصية أن تسجِّل رأيها فيما حدث وهذه الشخصية لا علاقة لها بالمؤسسة إنها شخصية تعيش أشدَّ حالات الاغتراب والتهميش والكاتب إذ يمنحها القول فهو يؤكِّد على ضرورة الإنصات إلى المغيَّب والمنسيِّ؛ المنفيِّ؛ المسكوت عنه في التاريخ؛ وهكذا يولد السؤال؛ مَن الذي دعَّمالاستعمار الإيطالي ومن الذي قاومه ومن المستفيد في الأخير؟ يُعطي صاحب دردانين الكلمة لرجل الشارع البسيط المنهوك المغيب المنفي ويذهب إلى أبعد حين يُصرِّح: (التاريخ في السجن)

ليلمح فيما بعد إنه مازال في السجن وإن الوهم مازال قائما والحلم انكفأ ولذلك فلا هروب من المواجهة عند البعض ولكن أيضا لاهروب من التاكيلا والحشيش والجنس عند البعض الآخر.هكذا تزداد حالات الاغتراب وتزداد حدَّد التهميش واللانتماء والخروج من التاريخ.
ليست الشخصيات فقط هي المغتربة في هذه الرواية فالكاتب أيضا مغترب ولعله الشخصية الوحيدة في هذا النصِّ التي تعيش الاغتراب بامتياز وإذا سلمنا بداءة أن الوضع السليم للكاتب في نصِّه هو أن يسيطر على جميع مراحل الكتابة ويُمسك جميع خيوط السرد فيتقن توليف الحبكة وإدارة الشخصيات ويصنع الأحداث بحيث تجيء متناغمة ضمن تسلسل منطقي سليم إذا سلمنا بهذه الأمور منذ البدء على اعتبار إنها المؤشر الدال على الحضور القوي للكاتب في نصه وعلى رسمية موقعه في الرواية كمؤلف له الكلمة الفصل فيما يكتبه فإن هذا كله غير موجود في دردانين وغياب سلطة الكاتب إنما هو دليل على اغترابه في النص وتهميش دوره فما أن يأخذ في بناء شخصية من شخصياته حترى تتمرَّد عليه وتثور فمن الذي سمَّى جمعة بورجل هذا الاسم ولماذا هذا الاسم بالذات وإذ يحاول الكاتب تبرير ذلك بامتلاك جمعة لرجل واحدة عكس بقية الناس ينهال عليه السؤال ولماذا هو برجل واحدة عكس الناس وتتوالى مثل هذه الاعتراضات في النص وإذا بعاشور الطويبي يصبح محرَّد طيف في روايته ولاحول ولاقوة له غير أن يترك أمر النص للكتابة ويتقلَّص حضور المتكلم الفرد ليطغي الغائب أو المخاطب وفي أحيان كثيرة هاهو الضمير اللقيط الذي يوزِّع الأدوار بين جميع هذه الشخصيات المغتربة ذلك لأن دردانين رواية عن الاغتراب والنفي ولعل أقوى لحظات هذا الاغتراب تظهر حين قبل بورجل العمل في البوليس السري؛ يقول: (شن تبي يا بورجل الورشة وحصلتها والخدمة في البوليس تعطيك الحماية شن ناقصك…..تتسمع وتكتب تقاريرك جعلت من حياة الناس كلما تزيد فيه وتنقص كما تشاء الناس أصبحوا كلمات على ورق تسلمه إلى الضابط كل صباح هل تحصَّلت على ما تريد….لقد ضاع منك الطريق استسلمت وأصبحت وضيعا) 

يبدأ اغتراب بورجل من لحظة المفارقَة هذه حين يستطرد به حواره الداخلي فيشتعل فتيل التوتر داخله ليأخذ في النماء والصعود إلى درجة اللاعودة حين يُطلب منه مراقبة رفيق دربه بل نموذجه في الحياة وفي عمله البوليسي صديقه الفرجاني؛ تختلط الأمور عند بورجل فيلتبس مفهوم الوطني عنده وتزداد حدَّة توتره لكن اغتراب بورجل هو اغتراب سلبي ووعيه بالواقع هو وعي مخدوع ووعي مزيف إذ أن مدرس التاريخ المُراقَب والمهمَّش يحول اغترابه إلى قوَّة للمواجهة فيخرج للشارع في مظاهرة هي قمَّة التعبير عن رفضه تنتهي به في أقبية السجون. من الضرورة إذا التفريق بين حالات الاغتراب التي تعانيها هذه الشخصيات فهناك هذا الاغبراب السلبي الذي لافائدة تُرجى منه وهذا الاغتراب الإيجابي الذي وإن انتهى بصاحبه في مرحلة ما إلى السجن فحتما سيؤدي في وقت آخر إلى الخلاص كما وجد عاشور الطويبي في الكتابة الخلاص والخروج من أزمة اغترابه كمثقف ومبدع عربي يعيش أقوى حالات الاغتراب في زمن تم فيه تهميش كل شيء بما في ذلك الوطن ناهيك عن الكتابة.

____________________________

عن موقع: منتدى الكتاب العربي

مقالات ذات علاقة

السرد والمقاومة: بناء الوعي الوطني في الخطاب الروائي الليبي

المشرف العام

بِنيةُ النَّص السَّردي عند الشاعرة الليبية سهام الدغاري

المشرف العام

قبضة من أثر شعر

صلاح عجينة

اترك تعليق