لا شك أن الشعر لا يستقيم غالباً مع أسس ومفاهيم المنطق الفكري أو التحليل العقلاني والتفسير النمطي القياسي الذي يحاول أن يسقطه النقاد أو المتذوقون للنص الشعري أو الإبداعي كافة، على نصوص الأجناس الأدبية المختلفة. لذلك جاء الديوان الأول للشاعرة نادية محمد من مدينة بنغازي الحبيبة المعنون (بعيداً عن المنطق) ليفسح لنا براحاً شاسعاً، ويمنحنا مجالاً واسعاً، للتحرر من قيودات المعقول، والالتجاء إلى فضاء اللامعقول التخيلي أو الافتراضي واغتنام بعض اللحظات الممتعة مع نصوصها الشعرية الرقيقة التي بلغت ثلاثة وثمانين نصاً في أول إصدار مجمع لها، وهو ما يعتبر -في تصوري- اكتظاظاً كمياً وعددياً غزيراً، ربما جاء اقتناصاً للفرصة التي سنحت لها لطباعة وإصدار هذه المجموعة الشعرية الأولى.
الرحلة الشعرية انطلقت من تأمل عناوين النصوص التي أبرزت ملمحاً واضحاً تجلى في البوح بالذاتية الخاصة وأحاسيس الشأن الشخصي، كمعظم الشاعرات الليبيات والعربيات، ولكن دون الإغراق فيه وحده، حيث تجلى كذلك انشغالها بمعاناة الوطن والإنسان وإفساح حيز للتعبير عن موقفها تجاه الأحداث التي يعيشها الوطن الحبيب مثلما ورد في نصوصها (ليبيا) و(بلادي) و(وطن قابل للترميم) و(نزيف وطن) و(دموع الأوطان) ومخاطبة السيد الحاكم (يا سيادة الرئيس) ومتابعة سياسات دول العالم تجاه وطنها (بريطانيا تعتذر) وغيرها من الاهتمامات التي أبانت درجة كبيرة من الوعي والإيمان برسالة الشعر كفضاء تعبيري له أهدافه الوطنية والإنسانية النبيلة.
واستطاعت شاعرتنا الواعدة أن تتقمص في أكثر من نص صوت الرجل في علاقته بالأنثى مستحضرة (كيوبيد) ابن الآلهة “فينوس”، تلك الأسطورة الرومانية التي عنونت بها نصها، وأفصحت بكل الجرأة عن رغباتها العاطفية الجامحة تجاه الحبيب بصفته (قطعة سكر)، معترفة بنار الغيرة التي تعصف بأحشائها (وللغيرة ابتلاء) ودرجات الهيام والشوق في (امرأة عاشقة) وقد ارتقت بذاك البوح التعبيري الوجداني بشكل لا يخدش الحياء ولا يثير الغرائز الجنسية.
إن شاعرتنا نادية محمد الضراط في نصها الذي اختارته عتبة وهوّية لقصائد ديوانها كلها (بعيداً عن المنطق) تأخذنا في رحلة لولبية ملتوية للملمة بعضنا الحسي والإنساني المنثور على قارعة العمر، وقد أفلحت كثيراً في هزيمة الصمت الذي حاول هزيمتها، فجاءت نبضاتها الشعرية المرهفة دفقات صادقة مطرزة بلغة ثرية رصينة وسلسة، وخيالات خلاّبة حالمة، وصور شعرية بليغة مكتظة بالبهجة والشفافية حد الإنتشاء، بإيقاع يعزف الكثير من الموسيقى الظاهرة والخفية، ولذلك فهي لم تقتصر على رصَّ الكلمات وصفّ المفردات فحسب، بل جعلت من التاريخ والأمكنة والشخصيات مثل “كازانوفا” و”نيس” و”كان” و”البامبو” و”ديفينشي” و”زوربا” و”كسرى” و”نابليون” و”كيلوباترا” إضافة إلى الخرّافة الشعبية “شبيك لبيك” محركاً وفضاءً زاخراً بالدهشة والامتاع في نصوصها التي تنثرها في بوح أنثوي جريء يتقفى آثاراً نزارية كما في (عنيدة) و(مصارحة) وينم عن ولادة شاعرة لها بصمتها الخاصة ضمن شاعرات بنغازي الحبيبة.