قراءة نص (لا تراودني على صبري) للشاعرة “سهام الدغاري“
أحيانا يفرض عليك النص أن تمتشق قلمك وتكتب عنه بلا سابق استعداد ولا تحضير , يحدث هذا مع بعض النصوص المباغتة كما حدث هنا , فما ان اكتملت القراءة ونضجت ثمرتها في الوجدان حتى وجدتني مدفوعا من قبل قوة لا مرئية إلى الشروع في الكتابة.
ليس موضوعها ولا طولها النسبي , شدَّني أكثر ما شدني إلى قصيدة ” لا تراودني عن صبري ” لسهام الدغاري المنشورة مؤخراً على صفحتها بالفيس بوك كمية المجاز الذي نثرته الشاعرة هنا وهناك فيها , وتلك الصور الباعثة على الدهشة والنشوة , النشوة المتولدة عن جماليات اللغة عندما يتم تشكيلها وسبكها وفقا لمتطلبات القصيدة وبمهارة فائقة , فلا نكاد نقرأ مقاطع قصيرة حتى تباغتنا الشاعرة بصورة غير نمطية , صور من مثال تلك التي لا يستطيع اجترحها إلا من تمرس بالشعر وخاض غماره من عُتاة الشعراء وأدرك اشتراطاته وتمثل متطلباته حتى يكون شعراً حقيقياً قابل للإستهلاك الوجداني وذو تأثير على المتلقي.
تلاوين وترصيعات باذخة تلك التي نكتشفها في القصيدة بلا كثير عناء وجهد , ذلك أنها صور بسيطة غير معقدة ولا تحتاج إلى كثير خبرة مع الشعر لتمثل معانيها واستيعابها وبالتالي استشفاف جمالياتها , فبدلا من أن تقول الشاعرة مقصودها بطريقة مباشرة أو أقرب إلى المباشرة وتضع مبتغاها , قبل أن تتراجع إلى الوراء لتراقب المشهد من بعيد وتقرأ انعكاساته في وجوه المتلقين الذين يتوقفون أمام القصيدة بمسافات متفاوتة ومُدد متباينة كلٌ حسب ذوقه وفهمه وشغفه بالشعر وبكل ما يمت لهُ بِصِلة , بدلا من أن تفعل ذلك وتتخذ موقفا محايدا باعتبار أن القصيدة إذا ما تم نشرها صارت ملكا للقارئ وموضوعا للنقد , عِوضاً عن ذلك ترسم لنا الشاعرة صِوراً وتخلق أطيافاً شفافة ليصل المعنى على طبق من مجاز , وفي الوقت الذي يقف فيه المتلقي على المعنى المندس في ثنايا الكلام كاملاً يكون قد حصل على جرعة عالية من المتعة بسبب أن الصياغة اللغوية لم تكن مباشرة والخطاب لم يكن تقريريا وإنما احترم ذائقته وقدم له ما من شانه ان يرتقي به ويُحفزه على تعاطي الشعر قراءةً وكتابة , هذا الرسم والتلوين واجتراح الصور المجازية يتعذر بأي حال من الأحوال تحقيقه إلا بالشعر , وهي الخصيصة التي يتميز بها دون بقية الفنون , فليس هنالك ما هو أقدر من الشعر على التحرك بحرية وسلاسة والتنقل من مستوى إلى آخر بلا معيقات والتعبير عن الموجودات بطريقة تجريدية وإيمائية , ذلك أن اللغة وهي كل زاد الشاعر وذخيرته لا تكون مجرد لغة عندما تتحول إلى شعر وتصل إلى أبعد ما يمكن ان تصل إليه كلغة.
لنقرأ القصيدة بتروي وهدوء ونصغي بانتباه إلى إيقاع الصور , لنقرأ عن هذا الذي لم يجرب سهر الليل ليبحث عن ديدان جائعة ليطعمها لحزنه , أو عن هذا الذي سينتف ريش الخيبات التي تحوم فوق رأسه صباحا – متى كان للخيبات ريش ليتم نتفه !! – أو عن هذا الذي يشد طرفي حلمه لأمر في نفسه , أو عن ذاك الذي سيحفر تحت شجرة أمنياته ليقبر ظنونه الجميلة , هذا القابع في صمته كبركة راكدة , هكذا تتتابع الصور بسرعة لتُعطي انطباعا بالحركة والديناميكية , دعونا لا نستبق القصيدة وننبش تفاصيلها قبل أن نصل إليها , دعونا نقرأ معاً بتمعن وهدوء , دعونا نُقشِّر الصورة لنجد الفكرة نخترق الظاهر لنصل إلى الباطن ….
”لا تُراودني عن صبري” للشاعرة: سهام الدغاري.
أنت لم تُجرب أن تمضي الليل بحثا
عن ديدان جائعة
تُطعمها حزنك
ثم تجلس وحيدا
تنتف ريش الخيبات التي تحوم فوق
رأسك صباحا
أن تشد طرفي حلمك الأبتر لتصنع منهُ
وترا تدندن منه لحنا يتماهى ودقات
قلبك الكئيب
أن تحفر تحت شجرة امنياتك لتقبر
ظنونك الجميلة
التي كانت تعشعش داخل ذهنك
البائس
أن تلوذ بجدار كبرياءك المنهار فلا هو
يقيك حر اللقاء ولا برد الفراق
لا تراودني عن صبري
فأنت لم تجرب أن تلقي برأسك
المتعب على كتف قصيدة عرجاء فلا
قدميك تستقيم فرحا ولا رأسك ينفجر
حزنا فتغادر خطاك لتقتفي أثر حرف
فار من مقصلة الخرس
أن تخفق في البحث عن شيء تسد به
ثقوب الأسئلة النازفة فالزمن الذي كنا
لا نتعاطى فيه القُبل لم يكن كافيا ليعلمني
كيف ألعق شفتيك ولا اتقيأ عليهما
بمائة سؤال
كيف ستحبني وأنت تقبع في
صمتك كبركة راكدة في بلدة نائية
ما معنى أن تشتاقني وأنت تقف
هناك كشجرة وحيدة اسلمت ساقها
لفرضية أنه سيأتي من يحطبها يوما
هل تتألم شفاهك وأنت تهمس سأحبك
متى تكف عن لملمة خيوط غزلك
من على حبائل الليل وأن لا تترك
للشمس متعة معانقتها
أوليس النظر في اتجاه واحد
سيجعلك تقف على حافة هوة سحيقة
من الأنحراف
لا أرغب في إجابة
فقط لا تراودني عن شيء قبل أن تمنحني أشيائك .