انتحار بائع خضار يتحول جسده الملتهب إلى معبد للكرامة الإنسانية، ويغدو أيقونة تناقلها مواقع الاتصال، حشود تندلق في الشوارع بهتاف نثري نشاز ” الشعب يريد إسقاط النظام” لم تعهده الأذن العربية، وبمضمون لم يعرفه تراث المنطقة السياسي، ولم يمر على خيال الطغاة. طائرة تقلع بالدكتاتور إلى جهة مجهولة، محامٍ سكران يترنح في الشارع الخالي، نصف المضاء، بمونولوج مرتجل عن الحرية، تنفجر الميادين في عاصمة أخرى بحشود تعيد صدى الهتاف النثري الجديد، يختلط الدم بالمرح، وبالدعابة التي تفتح أفقا جديدا في سماء كانت قريبا مغلقة، تنهمر الأغاني في ميدان التحرير ويبيت الشبان والفتيات في برد الميدان الذي يغلي، يلوذ الحاكم بعاطفة الأب العائد من غيبوبته الذي لم يوقظ يوما أبناءه لجرس الحصة الأولى، وفي لحظة صمت كونية ينسحب الدكتاتور، ومعه تنسحب الكوابيس من نوم الراقدين على الأرصفة وفي المقابر، وفي الجغرافيا المجاورة يتفتح زهر في الميادين التي صُممت لعبادة الحاكم، وتكتظ الجدران الشاحبة بشجن الحرية المصحوبة برقصة الكشك وأغاني الراب، وبالرسوم الساخرة التي تحيل ما كان مقدسا إلى فكاهة، وتندلق من الذاكرة ألوان الراية الجديدة القديمة مكتسحة سلطة اللون الواحد، وتتخضب أصابع النساء بموسيقى الحناء الغاضبة، وخلف الصحراء طاغية مذعور، يزبد قرب أشلاء أسطورته.
شكل هذا المشهد الاحتفالي الضخم بالحرية ما يمكن أن نسميه يوتوبيا الشارع، فكل ما يحدث تنفيذ لمشاهد كانت يوما من شطح الخيال ، حلم طوباوي كان سرعان ما ينتهي مع يقظة الحواس التي تتلمس الجدران الصلبة حولها فتكتفي بالدعاء.
يوتوبيا يكتبها خيال الرعية، هذه المرة، وليس خيال الراعي، ودراما رُكحية تُؤلف فوق خشبة المسرح لتصبح عرضاً، دون جوقة ودون كومبارس، يشارك فيه الجميع.
كان الشعر والموسيقى والتشكيل، وكل ما يمت للخيال بصلة، أبطالَ هذه الملحمة، وكانت الثورة الفعلية منذ بدايتها ثورة على سلطة اللون الرمادي، وعلى ثقافة التجهم التي وصمت عقودا من حياة شعوب تربت على الشعارات الجافة، وعلى موسيقى المارش العسكري الذي كان يمشي على إيقاعها الجميع إلى حتفهم.
كان الحافز اليوتوبي حاسما في تغذية هذه المشاعر، وكان الخيال سلطة من لا سلطة لهم حتى ذلك الوقت . “كل السلطة للخيال” هذا ما خطه الطلاب على جدران باريس كشعار لثورتهم عام 1968. الشعار الذي قال عنه مؤرخ اليوتوبيات، راسل جاكوبي: “كان هذا تعبيرا عن الدافع اليوتوبي وقد صُفي من خلال مصافي السرياليين وأصحاب المواقف. وطوال الستينيات كان الاحتفاء بالمخدرات والأحلام والخيال محاولة لتفجير واقع خانق وتحويله إلى فتات”.
“تفجير واقع خانق” كم تبدو هذه الجملة حصيفة لتفسير ما حدث على ضفة المتوسط الجنوبية، وكان الهدفَ غير المكتوب وغير المفكر فيه بحصافة السياسي للربيع العربي الجدير بتسميته ربيعا رغما عن كل المهووسين بالخريف. وهدف بحجم “تفجير الواقع الخانق” لا يمكن أن يبتكره سوى الخيال، أو بمعنى أدق؛ اليوتوبيا حين تكون نشاطا شعبيا يرتجل أحلامه التي يكتبها الناس بخط رديء على الجدران التي ظلت لعقود خرساء.
وكمأثور مقتبس عن الأسطورة تتسكع جملة “الشعب يريد إسقاط النظام” على جدران تونس والقاهرة وبنغازي، ورغم خلو هذا الهتاف النثري من أي مجاز أو استعارة إلا أن شحنة التفجير في داخله كانت كافية لزلزلة عروش المستبدين، ومن جديد يعيد تأويل السلطة حين تكون للخيال، وهذه المرة تدخل على الخط سلطة الفكاهة. الفكاهة التي تفجر بها ميدان التحرير، والفكاهة التي كانت خلف استفزاز يوتوبيا الناس في ليبيا، والفكاهة التي ظهر بها وجه الدكتاتور المحروق على الشاشات المرتبكة أمام هذه الملحمة.
كان الناس سكارى وما هم بسكارى، وفي غمرة هذه الثمالة الثورية كانت الأدوات المضادة لسلطة الخيال تتأهب، فتسرق الجبهات العرض من الميادين، ويكتظ الحدث بكتاب السيناريو الذين يجيدون اقتراح النهايات المناسبة، ويسرق التلفزيون العرض من فوق الخشبة ويغدو بطل الملحمة دون منازع، وكأن خبراء الثورات يريدون أن يثبتوا للمتفرج، كل لحظة، أن ما يحدث مجرد تمثيل، وأن المخرج وطاقمه قابع خلف الكواليس، ورويدا كان يخفت ضوء اليوتوبيا التي بدأت تتخلى عن عاطفتها الحارة، وعن ذلك الرجع الذي يداعب بصداه مسامع الأرض، لصالح عقلنة المشهد ووسواس كتابة النهاية التي تفك عقدة الحدث.
الميديا المضادة بطبيعتها لليوتوبيا تجتاح هذا الكرنفال بتقاريرها الإخبارية وبنزيف المعلومات والأخبار العاجلة والمفبركة التي لا تمت للحظة الوجد بصلة، وكانت نظرية المؤامرة بطلة التحاليل التي تستخسر في بشر؛ سقطوا يوما من التاريخ، أن يؤلفوا يوتوبياهم من الألم وحده. ثورة المعلومات مضادة لسلطة الخيال، لأنها تُسطح الزمن وتدمر الفهم من أساسه، وحين “يسود الدافع الإلكتروني، وحين تصبح الذات مشروطة بالعمل عن طريق المعلومات، تستحيل الخبرة بالزمن العميق، وإذا استحال الزمن العميق استحال الرجع، وإذا استحال الرجع استحالت الحكمة” كما يقول بول .ر. جورمان.
“نهاية التاريخ” أطروحة تم اقتراحها من أجل تقويض الخيال، وتفريغ العالم من الأيديولوجيات واليوتوبيات، لصالح سلطة الرياضيات والإحصاء والجداول والمؤشرات الرقمية، لصالح نشوة المنتصر الذي أسكره كون التاريخ أصبح في حوزته.
وكل ما حدث في النهاية هو المصادرة التدريجية للخيال من هذا الحراك، وتأميمه لصالح النخبة والوظيفة، وبدأت اللحظة الراهنة هي المسيطرة عبر سلطة المعلومات التي تتدفق دون حتى حاجة للفهم، ونزيف المعلومات الذي لم تتعرض له ثورات غابرة كان وراء تلويث هذا الربيع بوسواس المؤامرة، ومن ثم تسطيح الزمن، وعزل الخيال عن الإرادة، وموت الحكمة التي من المفترض أن تولد في اللحظة المناسبة، لحظة احتكاك اليوتوبيا بالأرض.
ورغم كل هذا التلويث إلا أن الشيء المهم قد حدث وهو “تفجير الواقع الخانق” ولن تكون الأمور بعد هذا التفجير مثل ما قبله مهما ارتبك المشهد، وصورة اليوتوبيا التقطت بمهارة وانضمت إلى أرشيف التوق البشري.
سنترنح وقتا تتطلبه نشوة المخدر والحلم والخيال، مستمتعين بفتات الواقع المحطم الذي تحدى بصلابته، لزمن طويل، هشاشة خيالنا. سيذهب لصوص اليوتوبيا الذين تسللوا إلى أحلامنا لحظة الخدر، ومن جديد سينفجر الواقع الخانق الجديد الذي يحاولون بناءه، سينفجر بسهولة،هذه المرة، لأنه مقلد وليس أصيلا.
ستذوب في ضوء الحياة كل هذه العتمة التي ينسجها الظلاميون بكل أنواعهم، ويعود المرح للدنيا التي يعتبرها لصوص الحلم دار باطل ليجعلوا من التغزل في الموت أغنيتهم الأثيرة.
“فلنبذل جهدنا كي نجعل هذه الحياة محتملة، أو، إذا كان هذا كثيراً، فلنحلم على الأقل أنها كذلك..” كما كتب، سباستيان ميرسييه، العام 1770، في يوتوبياه (مذكرات عن سنة 2440 ).