طيوب البراح

في المنام

 

محمد عياد العرفي

 

 

رأيتُ في المنام .. أناساً كنت أعرفهم في الماضي .. التقيتُ بهم في زمنٍ ما .. لكني صرتُ أراهم كالغرباء .. قادمون على متن قوارب يحملون معهم بنادق و رشاشات .. لا يعطون فرصة لمن يراهم لغتهم هي قتل كل من في الشاطئ .. الجميع يركض .. والصراخ يعم المكان.. يلتقطهم الرصاص واحد تلو الأخر .. اقتربت القوارب من الشاطئ .. حيثُ كنتُ واقفا قرب مبنى لا تبعد مسافته عن الشاطئً إلا بضعة أمتار ..البحر أسود اللون كان مخيفاً ..الناس تركض خائفة .. مرعبةً من شدة ما يحدث .. تكرر نفس العبارة ..أتى الغرباء !! أتى الغرباء !! انجوا بحياتكم .. ركضتُ نحو مبنى أسابق الرصاص أتفادى الرصاص الذي كاد أن يسقطني قتيلاً في أي لحظة.. لا ينتظر الرصاص أحد إلا أنه عازم على أن يعزف أنشودة النهاية ..أنا لا أدري ما الذي يحدث ؟ بقيتُ مختبئاً لساعات ..ومازال صوت الرصاص يعلن حالة الطوارئ.. وفي لحظة رفعتُ رأسي قليلاً ..وشاهدتُ رجلاً ممدداً على الأرض والطلقات قد خيطت صدره بلون الوداع ..يحتضر, ويستنجد .. ويشير بإصبعه نحوي ..فتكلم :أنت اقترب ..اقتربتُ منه لكن المنظر كان محزناً .. عرفتُ من يكون .. ذاك الرجل .. وتأسفت لأجله ..حدق في وجهي ..وهو الأخر عرفني .

فتبسم وقال : سأموت يا هذا !! سأموت !! هزت بدني تلك الكلمات ..ووضعتُ يدي تحت رأسه وقلتُ له : اصبر حاول أن لا تتكلم .. فشد قميصي ..وقال اسمعني لا يوجد وقتً كافي ..سأخبرك بثلاثة وصايا ..وأريد منك أن تركز عليها جيداً وأن توصلها لأصحابها ..سألته أي وصايا ؟

الرجل : ألا تصبر ؟

 فقلت: ..حسنا ..نظرتُ إليه ..وهو في حالة يرثى له ..الدم يخرج من فمه وكأن كبده قد تمزقت من جراء الطلقات الطائشة ..فعرفتُ انه لن يصمد طويلا ..

فقال : أريد منك أن تذهب لأسرتي وتخبر أبني الأكبر بما حدث لي .. وأن تعلمه بأن الصلح مع الغرباء صار مستحيلاً ..

– فقلت أي غرباء ؟

– فردد منهكاً أرجوك لا تقاطعني لم يعد هناك وقت كافٍ .. فهز رأسه بين ذراعي وبدأ يسرد لي القصة :

 – لقد قدمنا اليوم من الصباح الباكر لكي نستقبل من كانوا في الخارج وان نوقع معهم اتفاقية صلح لكي نعيش في سلام وأمان .. لكن الذي لم نكن نتوقعه أنهم صاروا غرباء فعلاُ .. لم يعد يهمهم الوطن لقد صاروا كالقتلة مأجورين لقد تغيرت طباعهم ..وأنت شاهدت كيف تعاملوا معنا ..هؤلاء لم يأتوا للسلام أو المصالحة بل كانوا قاصدين للثأر ..

– فقلت أي ثأر ؟

– صرخ بألم وقال : ألا تصمت قليلا ..لا أستطيع أن أشرح لك كل شيء ألان .. أتفهم !!

فجاوبته : نعم .. كان يجول في رأسي سؤال وهو ما سبب وجودي في هذا المكان ؟ لكن تريثتُ قليلا وصمت وقلت سأعرف في الوقت المناسب .. فأكمل الرجل كلامه .. وقال اسمع باقي الوصايا ..

فجاوبته : ..حسنا ..حسنا ..

أما الوصية الثانية : يجب أن تحافظ على أرضك .. ولا تفرط فيها مهما حدث ..وأعلم أن الغرباء ..سيغرونك بمبالغ كبيرة .. قد كان البعض منهم ذو شأنٍ في الماضي ..لقد كانوا من خيرة الناس ..وألان جاءوا لأهدافٍ لا تسر أحد .. واجههم ولا تعطيهم أي فرصة ..كن صاحب مبدأ ..وأرفض فكرة البيع ..مهما كان الثمن الذي ستناقضه منهم .. وإذا أصروا على مضايقتك ..حاول أن تجاريهم ..وأن تكون مسايسا معهم .. وأعلم أنك إذ يوما ما فكرت في أن تبيع ..فأنت قد تنازلت .. وإذا تنازلت فاعلم انك ستتنازل عن أشياء أخرى .. قاطعته وقلت له : لكنني محتاج للمال ..هذا ما كان شعوري في المنام .. صاح في وجهي ..لا تبيع , لا تبيع , جاريته لأنه كان يحتضر ..

 وقلت: حسناً .. حسناً ..

 فقال : أتعدني بذلك .. – قل أتعدني ؟ ..

قلت : أجل سأعدك بأن أعيش من أجل الأرض .. ولن أفرط في شبرٍ واحد مهما كلف الثمن .

أما الوصية الثالثة والأخيرة : نحن السبب فيما يحدث ألان .. لم نكن أهلا للثقة ..لقد كنا مسئولين .. كنا أمناء .. كنا مدراء .. كنا من يمتلك زمام الأمور.. لم نفعل شيء سوى تعمدنا هدم الشباب ..تقصدناهم بسلاح الخذلان ..تجاهلناهم ..طردناهم.. أغلقنا عليهم الأبواب .. جعلناهم كالغرباء ..لقد زرعنا فيهم الكراهية ..لقد ولدنا الحقد فيما بينهم ..لقد جعلناهم يدفعون مقابل لاشيء .. جعلناهم يسلكون طرق كانوا في غنى عنها ..جعلناهم يتركون البلاد مقابل لقمة العيش .. وألان رجعوا ..بعد سنوات ..رجعوا حاملين معهم نفس الكره ..نفس الحقد ..مبدأهم هو أن ترجع لهم حقوقهم بأي وسيلة كانت ..و أن يعوضوا ما فاتهم وحتى لو تطلب الأمر هدر دمٍ كل من يقول لا ..لا ..لا ..لا .. مات الرجل على أخر كلمة لا ..

وقفتُ محتاراً ..خف صوت إطلاق النار ..بل اختفى الصوت نهائياً .. وأنا حتى هذه اللحظة لا أعلم ما الذي يجري بالضبط ؟ أقول في نفسي ..هل ما شاهدته كان حقيقي ؟ لان كل ما نقله لي الرجل ..لا يوجد في بلدي !! ..خرجتُ من المبنى .. وتفاجأت بمجموعة من الأطفال يلعبون بألعاب نارية ..ويضحكون ..كلمتُ أحد الأطفال – أنت تعال .. جاءني الطفل ..مبتسم ماسكاً بيده بضعة بالونات ..

فقلت له : أين الغرباء ؟

 فضحك الطفل ..أشار بإصبعه..

 وقال : أتقصد هؤلاء ؟؟

 فقلت : أجل .

 فصعقتُ من هولِ ما رأيت ..الغرباء يلاعبون الصبيان أما بالنسبة لمن سقطوا ميتين فقد وقفوا وهم يمسحون الدماء من أجسادهم .. ويعانقون بعضهم البعض.. القوارب واقفة بجانب الشاطئ. تقدم نحوي رجل يرتدي قبعة ويضحك .. يحمل معه آلة تصوير صغيرة ..

وقال لي : قد كنا نصور شريط سينمائي في هذا المكان وهاأنت بالصدفة دخلت على مكان التصوير فطلبتُ من المصورين أن يدعوك تتعامل مع الموقف وكأنه حقيقي ..وبالفعل قد نجحت ..هنيئاً لك ثم رحل ..التفتُ نحو الرجل ولم أجده ..كنت سعيداً لكني مازالت لم أصدق بعد .. وعلى صوت جرس البيت استيقظتُ .. وصديقي أسعد من خارج البيت

 ينادي : أخرج ..سنذهب للبحر ..أخرج ألان هيا .. هيا ..

 أغلقت باب الغرفة .. ووضعتُ رأسي على الوسادة ..ورجعتُ أغط في النوم .

 ______________________________

*نشر سابقا في صحيفة قورينا

مقالات ذات علاقة

الطفل العجلاتي..

المشرف العام

ﺃﻭﺟﺎﻉ ﻳﺘﻴﻤﺔ ٠٠!!

المشرف العام

مَن منّا لا يحلم بزيارة المَسجد الأقصى؟

المشرف العام

اترك تعليق