تراث

المسك في ديوان (هي كل شي) بوهارون

 

الباحث: خطاب الطيب خطاب

وفرات بماه الــــزلال    لحافك في المرجـــان يخب

يبان يلمع بين امحــال    دلال الباحـــــث والكاتب

إن جاك الفنان الجـوال    عيون إبداعه تجاوب

الناحت والشاعــر لا قال   قــوافي لوصافك تطرب

حكايات الناس العقــال    تكوني جــوهرهن واللب

هذه الأبيات كانت السبب في رسم الخطوط العريضة  لهذا البحث الذي يدور حول كلمة  تكررت تكرارا عشوائيا  علي حسب ما أرى في قصائد شاعر من الشعراء يندر وجوده استمعت إليه استماع شاعر لشاعر ثم مستمع لشاعر ثم قرأت قراءة الباحث في ديوانه (هي كل شي ) الذي سهل مهمة البحث وذلل كثيراً من الصعوبات التي تعيق هذه المهمة التي لا يحسدني عليها البعض لأنهم يعرفون المعاناة قبل البحث وأثنائه محاولة لتقديم ما يرضي القارئ.

من هو الشاعر؟

إنه الشاعر(محمد بوهارون الزوي) الشاعر الذي حافظ على أصالة القصيدة وغير في مواضيعها وألفاظها وجعلها تلبس حلة جديدة دون المساس بالروح وجعل قصيدته تسبق عصرها فلم يكن شاعرا مقلدا دائما للمأثور من الشعر ولم يكن نسخة من شاعر سبقه وعاصره ولم يكن من أشباه الشعراء كان ومازال شاعرا بما تعنيه اللفظة صادق الموهبة والشاعرية (يؤسس المدرسة الهارونيَّة) لم يساير سنوات عمره فهو يعيش فترة واحدة بكل مقوماتها فإذا كانت الفصول الأربعة تمر طوال السنة فبو هارون يجعل الأربعة فصلاً واحداً هو فصل الربيع ولاينته بانتهاء السنة إنما يمر ربيعا مع سنة أخرى وقد وردت كلمة الربيع في قصائده (5) مرات وترد كلمة الصيف مرة واحدة في قصيدة (ريم بنغازي) (سحابة صيف) ولم ترد كلمتا الخريف والشتاء مع ورود كلمة البرق مرة واحدة مما يدل على مكانة فصل الربيع في نفس الشاعر ومحمد بوهارون شاعر واقعي بما تعنيه الواقعية من حيث المواضيع رومانسي التعبير (لأن من مزايا الرومانسية: الارتفاع بالخيال إلى المثل الإنسانية ، فالشاعر ينشد الجمال المعنوي كما ينشد الجمال الطبيعي)  فلا يعيش أحلام اليقظة ولا يسكن الأبراج العاجية فلم يلتزم بمناجاة أو محاكاة امرأة واحدة وإنما يتحدث إلى روح الأنثى في عدة أجساد ( يا جميلة التوصيف/  ونا في البنات الشقر صاحب كيف) إنسان يحب الجمال ولا يعبده كما يرى البعض يعشق الجمال كما يعشق الوطن وغيره (وقد تكررت كلمة الجمال في قصائد الديوان (10) مرات ويعترف بصدقه في أشعاره لأنه واقعي ( شاعر وما نقبل علل مشنون) فلا يزيف الحقائق ولا ينقل صورة خلاف ما يرى ففي هذه الكلمات ( غير التماني تموت بأمانيها ) من منا لم يعيش لحظة موت الأمنية ؟

إن لموت الأمنية وقع  فكيف يكون  الوقع إذا كان  الشاعر يعلمنا إن أماني الأماني تموت أيضا! لا نحكم عليها بأنها فلسفة ومن يستمع لقصائد هذا الشاعر أو يقرأها يستنتج أن لكل قصيدة موقف فلا ينسج بخياله ولا ينظم قصائد إشباعاً لقافية وملء فراغ في نفسه أو زيادة في عدد قصائده أو تقليداً لشاعر مستخدماً بداية أبياته أو يستعجل مستخدما التعابير الجاهزة إنما يتحدث عن موقف له قيمة في نفسه عابر عند غيره فلا تجد قصيدة إلا نقلت موقفاً عاشه الشاعر بدقائق الأمور وجسده حتى ظن البعض انه خيالا ويتعامل مع اللغة تعامله اليومي فلا يأتي بكلمة لا ينطقها خلال يومه واللغة عنده كما قال :

الدكتور عدنان حسين قاسم في كتابه لغة الشعر العربي : (هي كائن حي في أعماق الوجود الفني للشاعر تتعانق معه في كل أنة من أناته تذوب فيه حين يغلي ويخفق قلبه ويتوهج حنينه فتسري في عروقه فيخرجها شهداً كما تفعل النحلة في أخر عمليات صنعها لما تمتصه من زهر بعد كد طويل مضني)

فلأنجد قصيدة من قصائد هذا الشاعر إلا وكان الأنين يشدنا إليها  فالمعاناة عنده والصراع الداخلي وقد وضح وصرح بهذا الصراع أمام الملأ في غناوة من المطولات وهي حوار بينه وبين عقله : ( في أصراع نا والعقل ننسوا عزيز والله انداوموا .. نميعد علي روحي نلقى عزيز لاما ينتسى ) هذا الصراع هو الذي ينتج هذه القصائد ألفاظاً تربطها أخوة في قصيدة واحدة واللفظ الذي شد انتباهي لفظ المسك.

 ما هو المسك؟

المسك وأصل وجوده بالطبيعة.

المسك كلمة عربية وهي اسم لطيب زكي الرائحة والأصل أن هذه المادة تؤخذ من حيوان ـ الآيل ـ الذي يشبه الغزال في الشكل ، يسكن في غابات الهمالايا والتبت وسيبريا والشمال الغربي للصين ويوجد المسك في كيس يبلغ حجمه البرتقالة في بطن ذكر الآيل ، حيث يذبح ثم يفصل هذا الكيس ثم يجفف في الشمس بحيث يوضع على حجر أو يغمس في زيت ساخن .

 والمسك ملك أنواع الطيب وأشرفها وأطيبها وهو الذي يضرب به المثل بين الأطياب جميعها لأنه يسر النفس ويقويها وهو الذي تضرب به الأمثال ويشبه به غيره ولا يشبه بغيره, و يستخدم في تثبيت أغلى العطور ليبقى رائحتها فواحة سنين طويلة ولذلك يستخدم كمثبت للروائح .

وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخد ري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال: “أطيب الطيب المسك “

شعراء عطر قصائدهم المسك

وقد ورد لفظ المسك في قصيدة الشاعر خالد ارميلة

حنا قبل حرفتنا علي أيام الهنا

منازيلنا في لرض حافي سريرها

والبيت الذي ورد به

اللي مراحها في الصقع في وان الشتا

مهاوش رتم بالمسك فوح عطيرها

وأيضا عند الشاعر الشريِّف السعيطي في قصيدته

اسمر ومن عز البياض أفعالي

وحتى المسك من لوني وسومه غالي

فوروده عند الشاعر خالد ارميلة رائحة وعند الشاعر الشريف السعيطي لون وقد سبقهما الشاعر آمرو القيس الكندي في معلقته عندما قال :

إذا قامتا تضوع المسك منهما

نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل

وأيضا في نفس المعلقة:

وتضحى فتيت المسك فوق فراشها

نؤوم الضحى لم تنتطق عن تفضل

وكذلك الأعشى ميمون بن قيس (صنَّاجة العرب) في معلقته قال كذلك:

إذا تقوم يضوع المسك أصورةً

والزنبق الورد من أردأنها شَمِلُ

وكذلك جرير بن عطية

سقين البشام المسك ثم رشفنه

رشيف الغريريات ماء الوقائع

كأن المسك خالط طعم فيها

بماء المزن يطرد الحبابا

ذكرتنا مسك داري له أرج

وبالحنى  خزامى طلها الرهم

تعل ذكي المسك وحفا كأنه

عناقيد ميل لم ينلهن قاطف

وكذلك أبو الطيب الوشاء

رشاش ذكي المسك شيب بعنبر

والراح من صفو العقار المشعشع

المسك والقصائد التي لها عطرها عند بوهارون

وترد كلمة المسك في قصائد الشاعر ( 4 ) مرات الأولى في قصيدة  (هي كل شي)

الليالي بلا ليلي أطوال ثقيلة

فيهن إن ما غنَّى الليل لليلى

في البيت ( 29 )

علي جسم كيف المسك عنده فيحة

يفوح بعبير الورد وأكاليله

والأبيات التي يرد ضمنها البيت  السابق هي :

يا المليحـــــــة

وصفك وزولك شدني لمـــديحه

فوق م العواتق كادَّة تسريحة

شلال من ذهب من نهر سايل سيله

انساب ع الصباح اللي تقول ذريحة

وجمـــة علي عينين سود كحيلة

ممشوط ناعـم سلس سايح سيحة

تجيه بصوابع كــي الشموع تشيله

علي جسم كيف المسك عند فيحة

يفوح بعبير الـــــورد وأكاليله

وتأتي كلمة المسك تشبيها لجسمها بان له رائحة كرائحته وربما لونه كلون المسك وتفوح رائحة هذه الكلمة عند قراءة القصيدة  وبالتحديد عند قراءة هذه الكلمة وتنتهي القصيدة وأنت مازلت تتنفس رائحة المسك التي لا تنتهي لأنك تشم مسكا حقيقا وهذه الرائحة عند جميل بثينة عندما قال:

كأن خزامى عالج في ثيابها

بعيد الكرى أو فأر مسك تذبح

كأن الذي يبتزها من ثيابها

على  رملة  من عالج متبطح

وبالمسك تأتيك الجنوب إذا جرت

لك الخير أم ريا بثينة تنفخ

 الثانية في قصيدة:

( فينوس/ اللي فاز بغاليته فاز بنا مركاز جمال العالم كله حاز ) في البيت (38)

نسيج وروده في لشكال

نسيم عطوره مسك تهب

والأبيات التي يرد ضمنها البيت السابق:

ربيعه من قبل الميجال    نبت نين امكسِّي الحطب

تقول ايزايد ع المعدال    جمال طبيعة دار الرب

بفل وياسمين ولظلال    قرنفل في النسمة يحلب

طهق نوَّاره دار اجلال     طلق بازاهير امخضب

نسيج وروده في لشكال   نسيم عطوره مسك تهب

شبَّه الشاعر نسيم عطور ربيع الحسن بالمسك  فرائحة الفل والياسمين والقرنفل باجتماعها مع النوار والأزهار والورود واختلاط هذه الروائح تنتهي جميعاً برائحة المسك التي تعطر القصيدة.

الثالثة في قصيدة (النار والجنة / ربي وعدنا فيه نار وجنة ودار العيون السود فتنة لنا) في البيت (12)

بخصك أن تما ع الضمير امهبِّي

شعرها رواته روح مسك وبنَّة

والأبيات التي تتضمن البيت هي:

يعبدوا فـــي ربي

ونا كيفم نعبد امغير انخبِّي

لِّي جميلة ودربها متغبي

بعشق العيون السود جني جنَّه

بخصَّك إن تما ع الضمير امهبِّي

شعرها رواته روح مسك وبنَّة

والمسك هنا هو نوع من أنواع العطور للشعر يفوح كما يفوح من بيت للشاعر الأحوص الأنصاري

كأن ذكي المسك منها وريح

الخزامى عرفه ينفخ النداء

وأيضا من بيت لأبي تمام:

ومشجج بالمسك في وجناته

حسن الشمائل ساحر الألفاظ

الرابعة في قصيدة (رشَّة عطر)

/ يا اللي لي كي نبض الوريد

ونا من دم ساري في ادماك

هبِّي عطـــر رشي بالمزيد

ما في الهوى نشوة إلا بهواك

والأبيات التي ترد ضمنها كلمة المسك :

بعرق المحـبَّة تكسري الجليد

وعود خيزراني في دلال زهـــاك

فوقه ازهورك على الأغصان تميد

في المسك تحلب في نجوم سماك

حتى الليل يا ليلى هداك نشيد

للعشق غنوة علي سباك

يجعل الشاعر المسك كالحليب تحلبه الزهور من أثداء النجوم فهل عبر شاعر أو رسم رسما بألفاظه منافسا للشعراء ولجميل بثينة في قوله :

وبثغر قد سقين المسك منه

مساويك  البشام ومن غروب

ومن مجرى غوارب أقحوان

شتيت النبت  في عام خصيب

 وبهذا نصل إلى أن الشاعر محمد بوهارون يضيف إلى الكلمة معان جديدة فهو لم يستدع الكلمة كما استدعاها هذا القائل في هذا البيت:

والمسك عطر والجمال محبب

وجميع أشياء الورى أشياء

فالمسك عطر قبل البيت وبعده فماذا أضاف القائل إلى الكلمة غير الوزن والقافية للبيت وجعله تفقد عطرها وشاعريتها وتموت وتبحث عن شاعر يعيد إليها بريقها أما شاعرنا فيعطر بالألفاظ قصائده و يعطر بقصائده الشعر التي تحيا في حياة الشاعر وبعده وتستحق أن تكتب بماء الذهب متعة للنظر ومتعة للسان ومتعة للعقول لأنها جاءت نتيجة حرق الشاعر من أجل إسعاد الآخرين وهذا ما دعاني إلى وصف الشاعر عموما  ” بأنه كالبخورِ الطيِّب يعطِّرُ المكانَ الذي يحرق فيه “

مقالات ذات علاقة

تقديمة أوبريت “حلّومة”

المشرف العام

ياساهرات في بالكم موضوع

علي بورقيقة

«الطوير الأخضر».. «سندريلا» التراث الليبي

أسماء بن سعيد

اترك تعليق