من إبداعات الشعراء الشعبيين
سليمان علي السّاحلي
يكثر استخدام المثل الشّعبي في أدبنا الشّعبي بصورة عامة، ويحتاز الشّعر على نصيب وافر من استخدام هذه الأمثال حيث يوظفها الشّعراء في المواقف والمناسبات المختلفة. إنّنا نجد – في الواقع – تفاوتا في إجادة الشّعراء لتوظيفهم للأمثال ويرجع هذا التفاوت إلى موهبة الشاعر ومدى سيطرته على أدواته الفنية.
ويعدّ الشّاعر عبد السّلام بوجلاوي في مقدّمة الشّعراء الذين يستخدمون الأمثال الشّعبية المختلفة بكثرة، وقد أجاد في توظيفها بشكل لافت. ويرى بعض الدارسين والمتابعين لشعرنا الشعبي أن هذه الموهبة ورثها عن أبيه الشاعر الكبير (إبراهيم بوجلاوي) الذي اشتهر بتميزه في توظيف الأمثال في الشعر، إلا أننا نرى أن الابن قد تفرد في صياغة أساليب جديدة لتوظيف المثل وهو ما تحاول هذه القراءة تبيانه عبر مقاربتها لبعض نصوص الشاعر. يبرز المثل في شعر بوجلاوي بصور عديدة تعكس براعة الشاعر في الصياغة وقوة السبك، بالقدر الذي تدلّ على عمق تفكيره، وأصالته الفنّية والثقافيّة تجعل ما يصبّ فيها من روافد ينصبغ بطابعها ويكتسب ملامحها المتميّزة التي تأبى التّقليد والجمود. و يتمّ استعمال الأمثال – من خلال ما استقرأناه في شعر عبد السّلام بو جلاوي – عبر ثلاثة مستويات أو سبل: أوّلها ما جاء فيه المثل بطريقة مثبتة محافظة في الغالب على صيغة المثل، أو بتغيير بعض ألفاظه مع المحافظة على معناه. ويأتي المثل في المستوى الثاني عن طريق نفي ضدّه، وذلك مبالغة في إثبات المعنى وتأكيده. أمّا المستوى الثّالث فهو أن يأتي المثل منفيّاً في سياق يحسن فيه هذا النّفي، ليظهر المعنى المراد بطريق النّفي- ليس نفي الضّد كما في المستوى الثّاني- وإنّما أن يكون المثل نفسه منفيّاً ليفيد معنى أبلغ من المعنى المتحقق باستخدام المثل مثبتاً.
* أوّلاً : إيراد المثل في صيغة الإثبات
وهو أكثر الطرق وروداً واستعمالاً، وإن كان بوجلاوي لا يكتفي بضرب المثل بصيغته مباشرة وإقحامه إقحاماً على القصيدة، بل يمهّد له ويمزجه ببنية القصيدة. ومن هنا يغدو المثل جزءاً لا يتجزأ من بناء القصيدة الفنّي والنّفسي والجمالي،وليس مجرّد عبارة مقتبسة يؤكّد بها المعنى ويمكن للقصيدة أن تستغني عنه.
1- المثل : ” ان جاكم القاطر من بين الكرب وين تغدو ياهل البيت ؟! “
بعث الشاعر بشير جبريل الفاخري بيتا من الشعر لبوجلاوي يقول فيه:
مغير خواطر .. من ضيم جرح كدّاني وهو يسّاطر
مالي غرض في الشّعر
وهو بيت يذكرنا بعبارة الفيلسوف الألماني ” نوفاليس ” وكان مولعا بالشعر: ” إن الشعر يداوي الجراح التي يحدثها العقل. “
وقد ردّ عبد السلام بوجلاوي على البيت السابق بقوله :
مغير نهوّن .. علي قلب زاريبه كدر وتكوّن
وفيه جرح جاير مطرحه متجوّن .. علي دواه ماو قادر طبيب يخاطر
راقد مريض ومرقده متروّن .. من بين الكرب نازل عليه القاطر
هنا يصرّح الشاعر بأنه لاينظم الشعر إلا ليهوّن على قلبه المفعم بالأحزان والمصائب (تكوّن من كاينة أي مصيبة). إن الجرح ليس سطحيا بل هو غائر في الأعماق ” متجوّن ” وقد استعصى علاجه على الأطباء حتى مجرّد محاولة فعل ذلك تعدّ مخاطرة غير مضمونة العواقب. هذا المريض طريح الفراش (المتروّن)، وهي كلمة منتقاة تعطي دلالة عميقة المعنى تتمثل في التقاء هموم وأحزان متباينة واختلاطها، فهي تحمل أجواء قاتمة معتكرة. ولأن هذا التروّن يحتوي على البلل فهو يمهد لتوظيف المثل. أمّا (الكرب)، فهو عبارة عن لوحتين أعدّتا خصيصا لكي لايثقب عمود منتصف البيت (الجابر) سقف البيت، و يدلّ القاطر- هو تسرب المياه ونزولها في قطرات متتابعة – على عيب أو خلل بالبيت. و بحكم كونه هرميا، فإن حدوث هذا القاطر بين الكرب – أي في منتصف البيت – أمر بعيد الاحتمال، لذلك نجد دائما المقتنيات الثمنية لأهل البيت توضع في منتصفه، وفي حال حدوث هذا الخلل الذي يعد مؤشرا لعطب البيت وخرابه برمته لن يكون هناك أي ملجأ يلجأ إليه أهل البيت، ومن هنا جاءت جملة المثل الاستفهامية الإنكاريّة: وين تغدو ياهل البيت ؟ التي تحمل في طياتها الجواب اليائس بأنّه ليس ثمة مهرب لأهل البيت المعطوب . ولو حاولنا استكناه المعنى الخفي الذي رمز إليه الشاعر بتوظيفه لهذا المثل لربما وجدناه في خلافات أسرية أو عائلية تسببت في إساءات لحقت بالشاعر:
2- المثل ” اللي معلق بالرقيق يطيح “
ويستخدم هذا المثل في أكثر من موضوع، وهو يعني أن الأشياء غير المبنية على أرض صلبة، وقاعدة صحيحة سرعان ما تسقط وتنهار (تطيح) عند أول محكّ لها، ويستخدم كناية عن الصداقة المبنية على المصلحة والانتفاع، وليست المقامة على المشاعر الإنسانية النبيلة المنزّهة عن الشوائب، كما أن المثل يشير أحيانا إلي النّاقصين (عديمي الأصل) من البشر وفاقدي القيم. وقد أورده الشاعر في قصيدته الشهيرة (مواير ولد لجواد)، وهي قصيدة طويلة يوظف الشاعر فيها مجموعة من الأمثال المتنوعة بأسلوب فنيّ محكم، وصياغة لفظية أجادها الشاعر ليحتل بها الصدارة وسط الشعراء الكبار .
لجواد في الكروب تبان بمواقفها .. منين الملفّق في نهار الشيل
معلاقه رقيق يطيح وين تهفّه .. إن تمّت الريح مصادرة الرحيل
3– المثل: ” القل صابون الرجال يبيّن أخياهم ” كما يقال أيضا ” الكروب تبين الرجال “
وهو مثل واضح يعني أن الفقر يكشف عيوب الرجال ، كما أن الشدائد والكروب بصفة عامة تتضح فيها معادن الرجال .
تبيّن عيوب الناس وتنظّفها .. يقولوا العازة للرجال غسيل
فيهم جميع الخافية تكشفها .. إن صار كرب ما يصمد إلا الاصيل
وهنا يوضح أنه لا يصمد في وجه شدائد الدهر وغدر الزمان إلا من يتصف بالأصالة أو كما يقال باللهجة الدارجة ” ابن الأصل ” ويوظف الشاعر المثل نفسه مع توضيح له بشكل آخر في قصيدته :
اللي العين ما رضيت بزول بديله .. مقطوع الرجا منه بكل وسيلة
حيث يقول :
والناس في الكروب أسرارها تكربها .. نين كل حد يطلع علي تاصيله
يبان في المواقف زينها واعطبها .. كيف مالقماش يبان بعد غسيله
واحد سماحة لون يزداد بها .. ولا خر يبان خياه وتهلهيله
4– المثل : ” لجواد حشفهم تمر “، والحشف هو مايبس من التمر وهو يشير إلى أن أقل شخص في مرتبة الأجواد يحوز كافة الصفات الكريمة، وبالتالي يدلّ على أنه لايوجد شخص سيء بين الأجواد، وقد حور الشاعر هذا المثل ليقول إن أقل شخص مرتبة في الأجواد هو أفضل من الآخرين الذين لا ينتمون لهذه الفئة:
وخير من بعض م التمر ريق حشفها .. لجواد نخلتهم غالبة النخيل
5– المثل : ” السيل له جرة ” ، وهو يشير إلى أن السيل لابد أن يترك أثرا على الأرض، ويستخدم للتدليل على أن ابن الرجل الكريم لا بد أن يحمل صفات أبيه، ويقال أيضا: ” خلفة الخير ما تخيب “
السيل جرته في لرض ما اتخفى .. وخلفة أخيار الناس جرة سيل
6– المثل: ” الربيع يبان من فم البيت “
هو مثل شهير كثير التداول، وهو واضح الدلالة على الخير الذي تبدو بشائره من قبل الوصول إليه.
ومارة الربيع المتكي في الرفّة .. مع فم البيت يشاهد الزغليل
7– المثل: ” يضعف الجمل وما تشيله قفه ” .
وهو يستخدم للإشارة إلى أن الرجل القويّ يظل دائما صبورا لايلين مهما جار عليه الزمان .
8– المثل: “الشاه مهما تسمن ما تشيل حمل الجمل” .
أي أن الشاة وإن أصبحت قوية لن تستطيع أن تحمل ما يحمله الجمل، وفي هذا إشارة الى مراتب الرجال وتفاوت قدراتهم في الاضطلاع بالمسؤوليات.
حتي لو ضعف لشقر مدورم خفّه .. وطاح م الجفا فوق الوطاه هزيل
هشيمة عظامه ما اتجي في القفّة .. والشاه لو تقوّت ما الحمل تشيل
9– المثل: ” يردع به ويميل به “، وهو يعني يساويه ويتفوق عليه .
وقد أورده ” بوجلاوي ” من ضمن مشاركته للشاعر عبد الله بالروين في قصيدته :
مالك ومال غرامه .. خليه خاطري عايش عقاب أيامه
مرتاح م الغلا
وهو من ضمن التعبيرات التي تجري مجرى الأمثال إذ تمتلك بعض خصائص المثل، لكنها ليست مثلا، فهي لاتشكل خلاصة تجربة معينة، وهو ما تؤكده الباحثة نبيلة إبراهيم إذ تقول في هذا الخصوص: ” من الواضح أن هذه التعبيرات تمتلك بعض الخصائص الفنية للمثل، ومع ذلك فهي لاتعد أمثالا فنحن لاتتفوه بها في نهاية تجربة عشناها وإنما نتفوه بها على سبيل تأكيد الموقف وتوضيحه، فهي أقرب إلى باب الكنايات والتعبيرات الشعبية منها إلى باب الأمثال ومن ثم فلا يحق لنا أن نخلط بينها وبين الأمثال بأيّ حال من الأحوال.”(1)
ويكثر استخدام هذه التعبيرات في الحوارات اليومية حيث تستخدم لتأكيد مواقف معينة، أو لإثبات وجهة نظر خاصة، وأحيانا تستخدم في مناسبات خاصة كقولنا للذي يصل قبل ابتداء الطّعام (حصانك جراي).(2)
والجدير بالذكر أن هذه التعبيرات تكتسب أهمية خاصة في الحوارات اليومية ولاسيّما في ربوع البادية لدرجة أن “الشخص الذي يقصر في قولها – خاصة تعابير الجز والزرع والحصاد – يعتبر مقصرا في حق الجماعة الذين قدم عليهم”(3)، فقد تجد من يلوم قريبه لأنه لم يبارك له قائلاً: “مبروك ما تجز” أو ” لا اسلمت من صابه”. وهذه العبارات لاتعدّ أمثالا، مع أنها تدرج مع الأمثال، ولكنها تختلف عنها في أنها لم تكن نتيجة تجربة، ولاتقدّم حكمة، إنّما قد ترد لغرض التفاؤل، أو لطلب التّسلية والفكاهة، ومنها ما يساق على سبيل الاعتذار كقولهم لمن يأتي متأخرا بعد الأكل “فاتك السو”.(4)
حيث يقول بوجلاوي :-
وان عادل غلا مهرك غلاك وماح .. وخاطرت ع اللي موجته تطامى
أي اذا تساوى حبك مع غلاء مهرك – وهنا إشارة إلى ظاهرة غلاء المهور في تلك الفترة – ورجحت كفة الحب، وقرر الشاعر خوض المخاطرة بدخوله البحر (رمز المخاطرة)
حيث يقال : “خش ع البحر ” أو ” خش علي تيار ” لكنّه يخشي أن تأتي الرياح بما لاتشتهي السفن:
خايف ينوضن في البحر لرياح .. بما يكره البحار والعوامة
في إشارة واضحة إلى بيت المتنبي الشهير الذي صار مثلا معروفا:
ما كلّ ما يتمنّى المرء يدركه .. تأتي الرّياح بما لا تشتهي السّفنُ
10– المثل: ” كلام لولين لو كان زرب ما هلبه حد “
11– المثل: “حق السراب بدّد الشراب”
الزرب عبارة عن سياج من حطب، ومنه اشتقت لفظة الزريبة، وهذا المثل يتداول عند النصح بضرب أمثلة من أقوال الأسلاف حيث يقال: “لو كان كلامهم زرب ما هلبه حد قالوا كذا كذا.”
والمثل رقم (11) يقال لمن يفرط في شيء بين يديه طمعا في شيء آخر بعيد المنال، ويوظف الشاعر المثلين بطريقة فنية بليغة فيقول :-
يدير في طريق المارين سناح .. الجيل لوّلي لو كان زرب كلامه
قال من يبدد ماه ع الضحضاح .. يندم أرياه وما تفيد ندامة
نلاحظ هنا استخدامه للمثل رامزا بالماء إلى زوجته، فهو وإن كانت حياته الزوجية لاتخلو من منغصات – كما يؤكد ذلك في القصيدة نفسها بتوظيف مثل آخر – لا يودّ التضحية بها من أجل امرأة أخرى بعيدة المنال.
12– المثل: ” نص بطن في برقة ولابطن في الخشة.”
والخشة منطقة رملية لايوجد بها مرعى ولا كلأ، في حين تشتهر برقة بمراعيها الخصبة، والشاعر هنا يحوّر هذا المثل ليؤكد المعنى الذي شرحناه سابقا بخصوص إشارته لحياته الزوجية التي وإن لم تكن بالصّورة المثالية التي يريدها الشاعر فإنها ماتزال أفضل من علاقة أخرى تبنى على الزّيف والخداع حيث يقول :-
علي نص شبعه في مري ركاح .. ولاشبعته في وطن فيه وخامه
13– المثل: “ما يحس النار إلا واطيها”
وهو مثل مشهور كثير التداول يعني أنه لايشعر بالألم والوجع إلا صاحب الوجع نفسه، وليس الآخرون الذين ينصتون إليه، أو ينظرون إلى حالته، ويقال في السياق نفسه: “اللي مافيك باردة.” يقول الشاعر في قصيدته الغزلية ذات المطلع :
ديرن عليهم طار .. اعزاز اغتنوا بالغير يالنظار
حتمت ياسهم
مغير مايحس بحرق وتبهديل إلا من مشى حفيان فوق النار
ونلاحظ هنا أنّ الشاعر يؤكّد معنى المثل بإضافته لكلمة (حفيان) أي حافي القدمين، وذلك لتأكيد الشعور بلذع النار، لأنه من الممكن أن يطأ المرء نارا، ولايشعر بشدّة حرقها عندما يكون منتعلا حذاء .
كذلك قد يحوّر الشاعر في المثل بتغيير كلمة أو بالإضافة ليس لتأكيد المعنى فقط، وإنما للاحتراز من الفهم الخاطيء له، ففي نفس القصيدة نجد الشاعر يغيّر كلمة من مثل شهير وهو:
14– “الراكب يقول سوقو” حيث استبدل لفظة ” سوقو ” بلفظة ” الغب “، وذلك احترازا من الفهم الخاطيء إذ قد ينصرف الذهن إلى قيادة السيارة، وبالتالي يفرغ المثل من محتواه ولا يبلغ مضمونه الذي يعني أن المرتاح لايشعر بما يشعر به المتعب. فالراكب هنا تعني من يمتطي جملا أو ناقة ويقول ” سوقو ” لسائقي القافلة وهم راحلون يشعرون بالتعب من طول السفرفي حين يكون هو مرتاحاً، لذلك تعمّد الشاعر استبدال كلمة (سوقو) بلفظة (الغب) التي لاتعني سوى سوق الحيوانات، ثم نجده في عجز البيت يؤكد المعني الذي أراده:
والراكب يقول الغب بلا تعطيل .. خطيه التعب من طولة المشوار
* ثانياً : إيرادالمثل عن طريق نفي الضّدّ
إن ورود المعنى قد يكون بإثباته مباشرة، وقد يكون بطريقة غير مباشرة عن طريق نفي ضدّه، فقد يصف المتكلّم شخصاً – مثلاً – (بأنه صادق)، وقد يصفه بالصدق بأن ينفي عنه الكذب؛ فيقول (إنّه غير كاذب). إن المتكلّم في الجملتين قد وصف الشخص بالصّدق، فالمعنى الظّاهر في الجملتين واحد، وإن اختلف الأسلوب فيهما. غير أنّ هناك دقائق أسلوبيّة يعرفها أهل اللغة والمنطق تميّز أسلوب الإثبات عن النّفي، ويعزّز السياق خصائص كل أسلوب بما يقتضيه من الاستعمال الفنّي الذي يدلّ على مهارة المتكلّم في تخيّر الأسلوب الذي يلائم ما يريد أن يقدّمه من معان بما يوافق سياقها وملابساته. ومن ثمّ فإن الشّاعر عبد السّلام بوجلاوي لا يكتفي بتعزيز معانيه باستعمال الأمثال، بل إنّه ليتصرّف في أسلوب المثل نفسه فيورده بصيغة جديدة تظهر مهارة الشاعر اللغويّة، واقتداره الفنّي بما يكسب المثل مدلولات جمالية تزيد المعنى قوة وجمالاً.
15– المثل: ” الطيور علي أشكالها تقع “
حيث يقوم الشاعر بإثبات هذا المثل عن طريق نفي ضده في قصيدة مطلعها :
إن درت خير في زين تاجد أمثاله .. وأصحاب النذالة
إن قادرتهم بادروا بالفسالة
وفيه تأثير بيت المتنبي الشهير :
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته .. وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
ويقول:
الطاير إنزاله يرفض علي أشكال ماهن أشكاله
فالشاعر هنا بدلاً من استعمال المثل بطريقة مباشرة فيقول مثلاً: “الطاير انزاله يوافق أشكال هن من أشكاله!” ويستقيم معنى البيت ووزنه أيضاً، لكن عند ذلك يكون الشاعر قد قدّم المثل بصورته العادية النّثريّة المباشرة الخالية من الشّعريّة المؤثّرة التي تميّز شعر بوجلاوي. لذلك جاء بالمثل بنفي ضدّه، وهو أن ينفي نزول الطير على شكل ليس شكله، فالمعنى – إذن – هو وقوع الطير على أشكاله وأشباهه، بما هو معروف في المنطق من أنّ نفي النّفي إثبات!
* ثالثاً : إيراد المثل بصيغة النّفي
وفيها يأتي بالمثل منفيا وذلك مبالغة في تأكيد الصفة التي يريد إثباتها. وهنا لا يأتي المثل كاملاً للاستشهاد بصيغته كلها وإنّما يستخدم المثل بطريقة يمكن أن يكون فيها مثبتاً غير أن نفي حدوث فعل المثل يزيد المعنى رسوخاً وجلاء، ويكسبه ثراء ورونقاً ما كان ليتحقق لو أثبت الشاعر المثل بصورته العاديّة.
16– المثل : “عضضان ملحوقة”
الملحوقة هي الناقة التي تنوء بثقل ما على ظهرها من حمل أثناء السفر والحمل عبارة عن (غرارتين)، والمفردة (غرارة) وهي جراب توضع به الأغراض، وتشد الغرارتان إلي بعضهما بعود خشبي متين يسمي ” الشظ .” وسميت الناقة ” ملحوقة ” لأن الشظ يلحق بظهرها فيسبب لها ألما شديدا لدرجة أنها أحيانا تعضّ نفسها من شدّة الألم .
يقول الشاعر محمود العبار:
لاشكن، لاجضّن
بحمول وصلايب ع الكتوف انشظّن
حتى وين طاحن
في هذا البيت يستعير الشاعر صفات الإبل التي تتميز بالقوة والصبر والتحمل ليطلقها علي مجموعة من البشر وهي صور مطروقة في الأدب الشعبي والأمثال الشعبية إذ كثيرا ما يرمز للرجل الحكيم الصابر بالجمل الذي يمتاز بالتحمل فيقال : (فلان يشيل ع الدبر) ومفردها ” دبرة “وهي أثر جرح قديم ناتج عن الأحمال التي حملها في السابق وفي هذا القول كناية عن الهموم والصعاب التي خاضها ذلك الرجل حتي عركته الحياة وكثيرا ما يوصف شيخ القبيلة بهذه الأوصاف مثلا: (الشيخ الفلاني كيف جمل العلايق) و(العلايق) هي نوع من الأحمال تعلق علي الجمل الصبور الهاديء. وفي هذا كناية عما يضطلع به الشيخ من مسؤوليات، ومن خوضه غمار المشاكل المختلفة، كذلك تحمله لأصناف مختلفة من البشر .
وقد كان الشاعر ” محمود العبار ” في هذه الفترة يتابع مشاهدة محاكمة الرئيس العراقي السابق ” صدام حسين ” ورفاقة فأعجب الشاعر بثبات هؤلاء الرجال وعدم تراجعهم عن مبادئهم رغم فداحة التهم الموجهة اليهم مما جعله يصفهم بالصفات أنفة الذكر .
رد الشاعر عبد السلام بوجلاوي :
حواهن خاوي .. وراس شظ عروتهن عليهن هاوي
تعابى وسايقهن شديد وفاوي .. وأيام السّفر بامرارهن ما فضّن
إلا مغير يمتلكن عزوم مقاوي .. بهن في صحاري حافيات يقظّن
بحمول عالدّبر شقّن فجوج خلاوي .. ملاحيق، لكن ما بعضهن عضّن!
(الحوا) عبارة عن قطعة رداء، أو رواق قديم يتم وضعه علي ظهر الناقة وذلك في حالة عدم وجود (الحويّة)، وهي جراب ينسج من الصوف ويملأ بالقش ثم يتم وضعه علي ظهر الناقة حماية لها من الشظ. ويستخدم الحوا لنفس الغرض، وهنا يشير الشاعر إلى هذا الحوا الذي هو في الأصل أقل حماية لظهر الناقة من الحوية، فما بالك إذا يكون خاويا أي ليس به أيّ شيء يقي ظهر الناقة ويحميه من ألم الشظ؟! وهذه الإبل اعتراها التعب من طول المسافة، زد على ذلك أنّ سائقها لا يمتلك أية صفة من صفات الرحمة والشفقة ليريحها من العناء، بل هو شخص شديد (فاوي) وهي مفردة تطلق علي الشخص سليط اللسان، وربما يرمز الشاعر بها الي شخصية القاضي في محاكمة الرئيس العراقي. وما يهمنا هنا هو الصور التي يمهد بها الشاعر للمثل حيث إن هذه الإبل قد تعبت لأنها تنوء بأحمال ثقال، ولايوجد علي ظهورها ما يقيها من آلام الشظ، والرحلة طويلة وشاقة في قيظ الصحراء، وسائقها رجل فظّ، قاس، غليظ القلب! لذلك كلّه نتوقع عندما يذكر الشاعر لفظة ملاحيق أن الشاعر سيذكر أنهن قد عضضن بعضهن بعضاً، وهو أمر مفهوم ومقبول بل ومبرّر انطلاقا من المثل ذاته (عضضان ملحوقة) إذ قد نلتمس العذر لمجموعة الإبل في فعل العض .
غير أن الشاعر هنا يوظّف أداة الاستدراك (لكن)؛ لينبئنا أن شيئا غير طبيعي قد حدث، وهو أنّ هذه الإبل – بالرّغم من كلّ معاناتها وعذابها – لم يعضّ بعضها بعضاً، ولم يؤذ بعضها بعضاً أي أنها احتملت كل أصناف الأذى والتعب والهوان بقوّة صبر وعزيمة مذهلة. إن ايراد المثل منفيا أضاف دلالة قوية علي المعنى وخالف توقّعات السامع ليباغته ويدهشه بهذا الصمود العجيب، ويدفع السامع إلى تأمّل المعنى والانتقال من دلالة الصورة المباشرة إلى الدلالة الأعمق وهي الصورة المرموز بها عن الرئيس العراقي وأتباعه بعد سقوط العراق. لاشك أن القارئ يدرك معي مدى توفيق الشاعر في استعمال المثل وصياغته بهذه الطريقة التي تدلّ على أصالته وإبداعه.
وفي الختام، لعلّنا – في هذه القراءة السريعة – قد ابتسرنا القول في هذا الجانب الثّريّ والمشوّق لدى الشاعر عبد السلام بوجلاوي، فذكر الأمثال والموروث الشّعبي والعربي أيضاً يمتدّ وينسرب في ثنايا معظم أشعار هذا الشّاعر المبدع. لكننا قصدنا تسليط الضوء على هذا الجانب الذي لا نحسب أ نّه قد طرق سابقاً، مع أنّ جوانب كثيرة في تجربة هذا الشاعر الغنيّة، وإنتاجه الوفير تتطلّب العديد من القراءات والدّراسات النّقديّة لما تمتاز به من جودة فنّيّة محكمة، وإبداع أصيل.
____________________________
(1) نبيلة إبراهيم، أشكال التعبير في الأدب الشعبي، دار غريب للطباعة، القاهرة، ط3، ؟ ص 188.
(2) محمد المزروقي، الأدب الشعبي، الدار التونسية للنشر، ص 41.
(3) محمّد سعيد القشاط، الأدب الشعبي في ليبيا، دار لبنان للطباعة والنشر، ط1 1968 م، ص 49.
(4) السابق، الصفحة نفسها.