هُوَ الشَّاعِرُ الوَاثِقُ مِنْ سِهَامِ شِعْرِهِ، وَحِدَّةِ قَوَافِيهِ، وَمِنْ مُضَاءِ سُيُوفِ هِجَائِهِ، لِذاَ ظَلَّ يُجَاهِرُ بِالتَّحَدِّي:
(من مصر لا عند فَزَّانْ .. جَمِيلَةْ اللِّي يقولْ سَوْدَة).
هَذِهِ الثِّقَةُ الكَبِيرَةُ دَعَتْهُ إِلَى الِاعْتِقَادِ بِأَنَّ هِجَاءَهُ النَّارِيَّ السَّاحِقَ يَتَحوَّلَ إِلَى غَضَبٍ إِلَهِيٍّ؛ حَسْبَ زَعْمِهِ، فَمَنْ يَنَالُهُ غَضَبُ اللهِ يَرْمِيهِ فِي طَرِيقِ الشَّاعِرِ المُعَاقِبِ بِلِسَانِهِ، بِشِعْرِهِ السَّيْفِ، فَيَهْجُوهُ لقطعُ عِقابًا لَهُ، مُبَرِّرًا أَنَّ هِجَاءَهُ مُوَافِقًا لِغَضِبِ اللهِ عَلَى مَهْجُوِّهِ، مُبْتَكِرًا مَعْنًى جَدِيدًا فِي الهِجَاءِ، يَقُولُ:
(وين ما نريد انتوب هذا لوني .. عليهم اللِّي غاضب الله يشنوني ).
وَالْمَعْنَى أَنَّ مَنْ غَضِبِ اللهِ عَلَى المَرْءِ، تَعَرُّضُهُ لِلشَّاعِرِ حَسن لَقْطَع بِالهِجَاءِ لِيَهْجُوَهُ لَقْطَع هِجَاءً مُقْذِعًا مُهِينًا يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ العِقَابِ الإِلَهِيِّ لَهُ؛ بِأَنْ أَغْرَاهُ بِالتَّحَرُّشِ بِهَذَا الشَّاعِرِ العَظِيمِ، السَّلِيطِ اللِّسَانِ وَالشِّعْرِ، الْمُقْذِع الهِجَاءِ الْوَاثِقِ جِدًّا مِنْ إِيلَامِ هِجَائِهِ لِمَهْجُوِّيهِ، حَدَّ الغُرُورِ ..
وَفِي مَعْنَى بَيْتِهِ السَّابِقِ، رَبَطَ الشَّاعِرُ بَيْنَ تَوْبَتِهِ المَزْعُومَةِ، الَّتِي يَنْوِيهَا كُلَّ مَرَّةٍ، وَبَيْنَ اضْطِرَارِهِ لِلْعَودَةِ لِلْهِجَاءِ، العُقُوبَةِ الإِلَهِيَّةِ بِنَظَرِهِ لِلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ، وَكَأَنَّهُ – ضِمْنًا – يُقِرُّ بِذَنْبِ (الهِجَاءِ) الَّذِي يَتَطَلَّعُ إِلَى تَرْكِهِ وَالإِقْلَاعِ عَنْهُ، لَوْلَا اِضْطِرَارُهُ لِمُعَاقَبَةِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَتَعَرَّضُونَ لَهُ، وَيَتَطَاوَلُونَ عِلَيْهِ بِالهِجَاءِ، لِيَنَالُوا بِذَلِكَ هِجَاءَهُ اللَّاذِعَ الرَّادِعَ، الَّذِي يَنْسِبُهُ لِغَضَبِ اللهِ عَلَى مَنْ تُلْقِي بِهِ المَقَادِيرُ فِي طَرِيقِهِ فَيَهْجُوهُ.
وَلَعَلَّ قَوْلَ الشَّاعِرِ فِي بَيْتِهِ السَّابِقِ (يَشْنُونِي) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الشُّعَرَاءِ كَانُوا يَنْبَرُونَ لِهِجَائِهِ أَفْرَادًا وَجَمَاعَاتٍ.
وَلِرُوعَةِ هِجَائِهِ، وَجَمَالِ تَعَابِيرِهِ، وَعُلُوِّ مَعَانِيهِ، وَقُدْرَتِهِ المُذْهِلَةِ عَلَى الْإِبْدَاعِ وَالْابِتِكَارِ، فَضْلًا عَنْ ثِقَتِهِ بِمُضَاءِ شِعْرِهِ، وَقُدْرَتِهِ عَلَى هَزِيمَةِ أَعْدَائِهِ المُتَرَبِّصِينَ بِهِ، مَعَ طَرَافَةٍ لَا تُفَارِقُ تَوْصِيفَاتِهِ لِمَهْجُوِّيهِ الَّذِينَ يَرْسِمُ لَهُم – عَادَةً – صُوَرًا سَاخِرَةً، فَيُحِيلُ بَعْضَهُمْ إِلَى شَخْصِيَّاتٍ هَزَلِيَّةً هَزِيلَةً، تَجْعَلَهُمْ مَثَارًا لِلسُّخْرِيَّةِ وَالتَّنَدُّرِ، وَتَظْهِرُهُمْ لِلْمُتَلَقِّي مِنَ البَائِسِينَ الْمَقْبُوحِينَ، وَتُبْرِزُ عُيُوبًا فِيهِمْ قَدْ لَا تَرَاهَا غَيْرُ عَيْنَي الشَّاعِرِ، وَهُمَا فِي هَذَا المَقَامِ – عَيْنَا سَخْطٍ – لَا رِضًا، وَهَذِهِ إِحْدَى غَايَاتِ شِعْرِ الهِجَاءِ فِي الأَصْلِ.
لِكُلِّ هَذَا وَذَاكَ، ظَلَّتْ هِجَائِيَّاتُهُ النَّادِرَةُ تَسِيرُ بِهَا الرُّكْبَانُ، وَتَلْهَجُ بِهَا الأَلْسُنُ، وَتُدَارُ فِي المَجَالِسِ وَالأَنْدِيَةِ إِعْجَابًا وَإِطْرَابًا، وَذِكْرًا وَتِكْرَارًا لَا يُمَلُّ.
يَقُولُ فِي مَوْقِفٍ آخَرَ، رَافِعًا سَقْفَ التَّحَدِّي:
هذا الشَّامخ ونا هو فلان * عين في صفا محرودة ..
إن تعاقبنا تقول عقبان * كِلَّتْنَا بمزراق عُودَه ..
نوَّار فُولْ وامعَاهْ شَيْهَانْ * اصقور جِلِّيَنْ في خَمُودَهْ
انجوا فوق من دور لمزان * جِسَّار ما تكيدنا صُعُودَهْ
بوزيد ومعاه زيدان * (كِلَّتْنَا بْمِزرَاق عُودَهْ )
فزع عيت غانم وزحلان * ادَّاير وجاء من احدودَهْ
ونحن اللِّي انهينوه ينهان * ونلبَّسُوه جلد امغدوده
واخذين في القول جرنان* تصريح بأمر سيدي اعبوده
من مصر لا عند فَزَّان * جميلةْ اللِّي يقول سودة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* سيدي اعبودة المَدَنِيِّ.
كَانَ سيدي اعبودَةُ المَدَنِيُّ قَدْ نَهَى الشَّاعِرَ حسن لَقْطَع عَنْ هِجَاءِ النَّاسِ وَالوُقُوعِ فِي أَعْرَاضِهِم، فَأَخْبَرَهُ الشَّاعِرُ أَنَّهُ لَمْ يَهْجُ أَحَدًا إِلاَّ بِمَا فِيهِ مِنْ عُيُوبٍ وَمَثَالِبَ. فَأَعَطْاهُ سيدي اعبودة المَدَنِيُّ أَوْرَادًا وَأَذْكَارًا، وَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَحْفَظَهَا وَيُرَدِّدَهَا دَائِمًا لِيَتَجَنَّبَ هِجَاءَ النَّاسِ، فَحَفِظَهَا الشَّاعِرُ، رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى، وَظَلَّ يُرَدِّدُهَا قَبْلَ أَنْ يَنَامَ إِلَى أَنْ لَقِيَ وَجْهَ رَبِّهِ.
* هُوَ الشَّاعِرُ الشَّامِخ الفيتوري الفاخري، رحمَهُ اللهُ.