بزغت (تاليد) كشمس طرابلسية فريدة، تمشي بين رفيقاتها يحملن سلال العنب والرمان لبيعها إلى البحارة الفينيقيين الذين ضجروا من أكل السمك طوال رحلة الإبحار.
تأهب جارها الفلاح الشاب (هملكون) للرحيل مع البحارة إلى قرطاجة ليبيع محاصيله من الزيت والحبوب، وقبل أن يغادر أهداها تمثالاً صغيراً للإله (بعل حمون) إله الخصب والرخاء والشمس والمطر. لوّح لها بكفه الأيسر باسطاً أصابعه بود وسخاء، وابتلعه البحر تاركا قلبها ينتظر شمسه الدفيئة، ومطره الذي يخصّب يباسها الطويل.
مضت السنوات وكلما غنّى البحارة أناشيد الوصول تتطلع إلى سفنهم بعينيها الواسعتين بانتظار أن تراه يلوّح لها بكفه اليسرى المنبسطة بود وسخاء، وفي كل مرّة يخيب ظنها، يحرق الدمع جفنيها وتنزوي في وحدة كئيبة فارغة إلا من تمثالها الأثير، بثت إليه أشواقها في تلك الليلة فأخبرها أنّ سلطة الآلهة لا تتحقق إلا بالإخلاص الكامل والحب المقرون بالتضحية، وأن التضحية لا تقاس إلا بالقرابين الثمينة، حيث يصبح العطاء هو الطاقة العليا التي تتحد مع قوى الآلهة، فيكتمل الرضا.
دبت كلماته كفسيلة أمل تنمو بين خافقيها من جديد، ودون أي تردد وعدت أن تمنح حمون أغلى قرابين الأرض إذا عاد هملكون.
طلع الصباح وغنى البحارة و وصلت السفينة.
فتحت عينيها الكبيرتين على اتساعهما حين رأت الكف اليسرى تلوح لها من بعيد، أخيراً عاد هملكون، فازدانت الحياة بالخصب والرخاء والشمس والمطر.
ارتدت فستانها الأحمر ذا الخصر المشدود، وزُفت إليه في ليلة ساحرة رقصت فيها الأرض مع السماء والبحر مع النسيم والشِّعر مع الضياء، رقصت كل مخلوقات البر و البحر، وتسللت إناث سمك القادوس من الماء فوشوشن إليها بأنها سترزق بصبي جميل.
جاء الطفل بعينين واسعتين كعيني أمه، فامتلأ قلب الوالدين بالفرح وغمرا وليدهما في عناق دام حتى الصباح، و ما أن بزغت الشمس حتى امتد شعاع حار من وهج حمون، طالباً من تاليد أن توفي بعهدها وتقدم إليه قربانها الأغلى – وليدها البكر – الذي تحتضنه كل ليلة. لم يشفع انتحابها ولا توسلات زوجها المفجوع، قال لهما حمون أن القرابين تمنع الفقد والحزن وتحمي من البلاء والشرور.
عندما أكمل الطفل سبع سنوات وهو العمر الذي يقدم فيه السكان قرابينهم من أطفالهم البكور، ألبسته أمه ثوب أمير وطوقته بقلائد الفل والياسمين وأنعلته حذاءه المخصص للأعياد، ثم اقتادته نحو معبد الإله حمون حيث يُنصب له تمثال كبير من البرونز وبين قدميه مرجل نار.
وضعت الطفل فوق المرجل فغمرتها رائحة الشواء الأدمي الطازج، ولما بكت سقطت دموعها في البحر فقالت لها سمكة القادوس:
– “يا مولاتي إن دموعك النبيلة بإمكانها أن توتّر ماء البحر، فيرتفع مده آلاف الأضعاف حتى يغرق معبد الإله حمون”.
خافت تاليد أن يغرق الإله في مد البحر العظيم، فتحل اللعنة بمدينتها البيضاء الوادعة، فانطلقت تركض بعيداً عن البحر، تنشج بشهقات اللوعة وتدفن دموعها في رمل الشاطئ حتى ارتوى، فتشكلت من عجين الدمع والرمل أيقونات ثلاث: الأولى في شكل سمكة ترمز إلى بحر مدينتها الزاخر بالعطايا العظيمة، والثانية في شكل يد تفرد أصابعها الخمسة وتلوح بالود والسلام، والثالثة في شكل عين واسعة تنظر إلى الأفق بأمل واعد وصبر لا يستكين.
أصبحت الأيقونات الثلاث (الحويتة والخميسة والعين) المعجونات من الدمع والرمل، رموز الإلهة (تانيت)، إلهة الحب والأمومة عند الفينيقيين والليبيين القدماء.
هدأ البحر، وعاد الفينيقيون إلى ديارهم، ونامت أسماك القادوس، وأسقطت الذاكرة حمون و تانيت، فيما احتفظت الأمهات بالأيقونات الثلاث كتمائم تحمى الأطفال من الشر و الحسد والآفات والبلاء.