إبراهيم دنقو
تدغدغ أدنيك خشخشة المذياع الخافت. دقات بج بن في إذاعة لندن تعلن عن الساعة الثالثة ظهرا. صوت المذيع يرتفع تارةً ويكاد يختفي تارة مع طنين الموجات المتداخلة.
المروحة الكهربائية تلتفت ناحيتك، تم تشيح بوجهها الي الجهة الأخرى من (المربوعة)، وكلما التفتت إليك أنعشك هواؤها وأزال بعض العرق الذي سال علي جبهتك من الحر، لكن النوم في تلك الظهيرة كان لذيذا علي الرغم من تلك الذبابة الثقيلة، المصرة علي الوقوف علي أنفك رغم أنك تضع الوسادة علي وجهك.
جاء وقت الذهاب إلي المزرعة ككل مساء، تلتصق بالحائط متجاهلا صوت الوالد وهو يوقظ الكل للذهاب إلي (السانية)، صوت الحمام البري في الفناء وقد امتزج مع أذان العصر البعيد، يعلو ويخفت مع ريح القبلي الحارقة، وانحسار الضوء من النافذة يشير إلي أن وقت القيلولة قد انتهي.
– توا نلحقكم.. تقولها وأنت تهرش رقبتك الغارقة في العرق، لتحظي بغفوة إضافية مع ابتعاد صوت أرجلهم، وصوت السيارة البيجو 404 العالي.
يسرقك النوم اللعين. قرص الشمس يكاد ينغمس في غمد الأفق مخلفاً هالة حمراء تزينها بعض النخلات، ترتدي حذائك القاسي علي عجل، وتطلق رجليك للريح، تسلك طريقا مختصرا بين نباتات العاقول بأشواكه الشرسة، التي تتحين الفرصة لتنغرس في رجلك المشققة، من بعيد بعض النسوة يحملن حزم الحطب علي رؤوسهن ببراعة الراقصين، تتحاشي لدغات ألسنتهن المتطفلة وتتسلل وراء (الوشكات)، تتذكر ماذا ينتظرك هناك في المزرعة، ففي كل مساء عليك أن تحصد البرسيم لتغذية الأغنام، لكن إغراء القيلولة أدخلك في ورطة لا تدري ما عواقبها.
كانت المقبرة تتربع في الجهة المقابلة للمزرعة، لتشكل مسلسلاً من الرعب بعد غروب الشمس، وتستذكر قصص الغولة والاشباح فتسري رعشة الخوف في جسدك النحيل، تحاول عدم الالتفات ناحية المقابر المتناثرة بدون نسق، بعضها يحمل عكازات أصحابها وأخري محاطة بمسابح وبعض الأشياء القديمة للموتى.
يزداد قلبك خفقانا حتي يكاد يخرج من بين ضلوعك، التي بانت من فتحة قميصك المهترئ خوفا من الوالد، الذي وقف بين الجداول يخفي شيئا خلف ضهره، لا مجال للهرب، لا مجال حتي للكلام، تشعر بشي يلسع ضهرك مخلفا ألما يسري في عروقك، تتخبط تحاول تفادي عصاته القاسية وهو يتمتم بكل أوصاف الحيوانات.
تنتهي تلك (الطريحة)، يسود الصمت، الالم في كل مكان في جسدك.
في اليوم التالي، المروحة تمسح المربوعة جيئاً وذهاباً. صوت المذياع الخافت والذبابة المزعجة والفراش المريح رغم نحافته يقطعها صوت الوالد وهو ينادي الجميع تتذكر عصاته المؤلمة. لازالت بعض الأماكن تؤلمك وتهب فزعا أمامهم. لتختفي أصوات الأقدام من بينها أقدامك. ويبتعد صوت البيجو 404، ويعود المكان لا صوات الحمام البري وحفيف الريح.