“اغفروا لي حزني وخمري وغضبي وكلماتي القاسية
بعضكم سيقول بذيئة لا بأس،
اروني موقفا اكثر بذائة مما نحن فيه.”
مظفر النواب
صدام حسين، وبكل ثبات تقدم الى حبل المشنقة، مد عنقه غير آبه بسجانيه، ووضع الحبل بكل شجاعة حول عنقه، شَهَدَ وترك لحفنة من التافهين ان يراقبوا روحه وهي تصعد تاركة عالمهم بكل محاسنه ومساويه. لكن: هل لحظة موت صدام المفعمة بالبطولة تشبه تاريخه في قيادة دولة العراق على مدى ثلاث عقود طويلة؟.
الحقيقة الخوض في تاريخ العراق في زمن صدام، و في من تولى قبله في زمن الانقلابات التي سيطرت على حياة العراق منذ الاطاحة بنظام الحكم الملكي في العام 1958 على يد عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف لا تقول بذلك. تولى حكم العراق فعليا عقب انقلاب تموز عميد ركن عبد الكريم قاسم، وتميز اسلوبه في تفرده بالحكم بعد اشهر معدودة من قيام الجمهورية، فقام بابعاد زملائه من أعضاء تنظيم الضباط الاحرار، فابعد اهم رفاق التنظيم عقيد ركن عبد السلام عارف، ومؤسس تنظيم الضباط الاحرار العقيد رفعت الحاج سري، والفريق اول نجيب الربيعي الذي تولى رئاسة التنظيم بعد ابعاد مؤسسها رفعت سرى قبل أن تنتقل رئاسة التنظيم اليه. وقد اتهم رفعت سرى بالمشاركة في اعداد ثورة الشواف، وانتهى امره باعدامه بعد مدة تجاوزت العام بقليل من قيام ثورة تموز، كما حاول اعدام رفيقه عبد السلام عارف. وحيث ان تنظيم الضباط كان يضم في صفوفه مختلف التيارات السياسية في العراق، الا ان انتماء عبد الكريم قاسم الى التيار الشيوعي دفع به الى تمكين الشيوعيين من مرافق الدولة، ومكن الميليشيات الشيوعية من القيام بحملات اجرامية في توازي مع قرارات المحاكم الخاصة التي اسسها وعرفت بإسم محكمة الشعب، وكان يديرها العقيد فاضل عباس المهدوي ابن خالة قاسم واهم المقربين اليه، وقد نكلت احكام هذه المحكمة، وباستخدام ايادي الميليشيات الشيوعية، من رموز العهد الملكي ورجالات العراق المختلفين ايدلوجيا مع الحزب الشيوعي، وكانت الميليشيات الشيوعية لا تتورع عن التمثيل بخصومها فمارست السحل والتعليق على الاعمدة الكهربائية ودفن الاحياء، ووصلت ضحاياها عشرة الاف مواطن.
لم توجه انتقادات كثيرة لفترة حكم عبد السلام عارف الذي عاد الى الحياة السياسية بعد حركة فبراير 1963، وقد توفى في حادثة طائرة مع مجموعة من 10 من وزرئه في ابريل 1966. واختير عبد الرحمن عارف الاخ الاكبر لعبد السلام عارف من ضمن ثلاثة مرشحين للرئاسة، وانتهى حكمه في العام 1968 بعد ان انقلب عليه حزب البعث برأسة احمد حسن البكر، والذي اجبر بدوره على الاستقالة في العام 1979 وتولى بعده الحكم صدام حسين.
ظهر صدام حسين الى واجهة الاحداث بعد انقلاب البعث في العام 1968، وقد كان اهم شخصية في النظام البعثي الحاكم، فقد استطاع الى جانب توليه نائبا للرئيس احمد حسن البكر، استطاع ان يهيمن على المؤسستين العسكرية والمدنية في الدولة، مما اتاح له التفرد بالقرار في الدولة دون منازع.
بدايات صدام كانت دموية وتأمرية منذ البداية، فقد كان احد افراد الفريق البعثي الذين حاولوا اغتيال الرئيس عبد الكريم قاسم، وحين فشلت المحاولة فر الى سوريا ومنها الى مصر حيث انظم الى المجموعة البعثية التي ارسلتها الحكومة السورية للدراسة، وقد اهتم به ميشيل عفلق ورفع رتبته في الحزب نظير محاولة اغتياله لعبد الكريم قاسم، وكان عفلق ايضا وراء انتخاب صدام في القيادات العليا للحزب في العراق. كما ان خبرته السابقة في تشكيل الجهاز الامني السري للحزب مكنته من ان يتولى قيادة الامن القومي بعد انقلاب البعث.
المواليين لصدام وللمد القومي الذي حاول ان يتبناه حزب البعث لا يتذكرون حجم الاخطاء المميته التي ادت الى ما ال اليه العراق اليوم، فاصحاب الايدلوجيات يعميهم التطرف عن التصريح بالحقيقة. على المستوى الداخلي، من اشهر القضايا التي ارتكبها صدام حسين في العراق تدميره لما يصل الى حوالي 1000 كلم مربع من الاراضي الزراعية والبساتين المثمرة الواقعة على الطريق بين قضاء بلد والدجيل، على خلفية تعرض موكبه الى محاولة اغتيال في زيارته لبلدة الدجيل من قبل أعضاء من حزب الدعوة الاسلامية في العام 1982.
من الجرائم اللانسانية الاخرى التي قام بها النظام العراقي بامر من صدام حسين هي حملة الانفال وقصف حلبجة، ورغم ان مبرارتها موضوعية ومقبولة، لانها وقعت في فترة الحرب العراقية الايرانية، وكانت ردا على عمليات البشمركة التي تعاونت مع ميليشيات الحرس الثوري الايراني ومساندته في احتلال بعض المدن والقرى، الا انها وبكل المقاييس كانت انتهاك صارخ، فقد ادت الحملة الى دبح وقتل ما يزيد عن 50 الف روح، وتدمير ما يقرب من 90% من القرى الكردية، والعديد من المنازل، وشمل التدمير مدارس ومستشفيات، ولم تسلم المساجد والكنائيس من نصيبها في التدمير. وقصف حلبجة وتعرضها للموت بالاسلحة الكيميائية معروف للجميع، الا ان الاقوال متضاربة حولها، ولا زال الكثير يعتقد ان ايران كانت وراء العملية. ومن جرائمه المحلية تصفية خصومه من اعضاء حزب البعث في العام 1979، وقد سن حينها سنة ما عرف عند العراقين بــ” القتل برصاص العشيرة”، فكان يكلف بقرار منه اعضاء من عشيرة المحكوم عليه بقتله.
بعيد عن الجرائم التي ارتكبها صدام ضد شعبه، فإن اكبر جرائمه هي تلك التي منحت المجتمع الدولي الاسباب التي جعلته يدمر العراق، بداية من احتلال الكويت 1990، وحرب الخليج الثانية 1991، وحصار العراق الذي استمر 13 سنة، واخيرا احتلال العراق في العام 2003. فهل كان يمكن ان يحدث للعراق هذا الحجم من التدمير، وان ينتقل من استبداد الفرد الى استبداد الطائفية إذا تنازل صدام عن الحكم حينداك؟
قد لا تكون الانتهاكات في ليبيا زمن معمر القذافي بنفس الحجم الذي كانت عليه في العراق، لكن رأس الاستبداد واحد ونتائجه على حياة الوطن واحدة. لا يخلو حكم معمر القذافي من “طرائف” الانتهاكات، على المستويين الداخلي والخارجي. ففي الداخل، وبعد زمن قصير بدأت اول “ارهاصات النظام” الثوري في الظهور، تمثل ذلك في ما عرف حينها بندوة الفكر الثوري الذي اسس لاولى خطوات الاستبداد، والتي تبدأ بلا شك بقمع الرأي المخالف. تنفس المثقفون الليبيون الصعداء عندما علموا أن حركة الضباط تنوي اقامة حوار وطني يجمع أطياف التيارات السياسية والدينية. وأقيمت ندوة عرفت حينها بــ«ندوة الفكر الثوري» في مايو 1970، وبثت على الهواء مباشرة شاهدها كل من يملك جهاز تلفاز تقريبا. استغرقت تلك الندوة عشرة ايام واتسم النقاش بالحرية التامة، وقد تناولت خمس بنود مهمة وذكية جدا في تحديد المسار السياسي لبلد بعد الثورة، ولعل في تقديري ان النقطة الاولى (تحديد قوى الشعب العاملة صاحبة المصلحة الحقيقية فى الثورة) والرابعة (مشكلة الديمقراطية فى مرحلة التحول الثورى) كان يمكن أن تضيف الكثير الى تجربة الحكم لو تم انزال مخرجات النقاش فيها الى الواقع، الا ان الصدام بين الرائد عمر المحيشي والمفكر صادق النيهوم أوضح بما لا يدع مجال للشك ان ما يريده مجلس قيادة الثورة هو ليس تماما ما يمكن ان يبني وطن. بعد هذه الندوة بشهور قليلة سيق كثير من روادها إلى السجون، وقمعت حرية التعبير وكممت الأفواه. وسارع القذافي بعد ذلك إلى إعلان النقاط الخمس في مدينة زوارة العام 1973 والتي تضمنت تعطيل كل القوانين المعمول بها لتعطي لزبانيته التصرف المطلق في ما يرونه مخالف لتوجهات زعيمهم، والقضاء على الحزبيين، واعلان الثورات الثقافية والادارية والطلابية والشعبية، وتلى كل ذلك اصدار نظريته التي عرفت باسم “النظرية العالمية الثالثة”، وكانت الفاصلة في انهى الدولة بمعناها الحديث.
حرب تشاد، مدبحة ابو سليم، حقن اطفال بنغازي، ومدابح السابع من ابريل، كانت كلها محطات في مسيرة السلوك غير المسؤل لنظام معمر. وعلى المستوى الخارجي، عرض ليبيا ومواطنيها الى الخطر الخارجي في العديد من المرات، نذكر منها تفجير ملهى برلين ردا على اغراق زوارق ليبية في خليج سرت، وقد ادى هذا العمل الى الضربة الجوية الانتقامية التي نفدتها امريكا في عمق الاراضي الليبية، ورغم وجود مبررات عديدة تجيز الرد الليبي، الا ان تفجير ملهى ليلي يتنافى مع ردود الفعل المقبولة. وقضية لوكربي، التي كلفت ليبيا عشر سنوات من الحصار، وانتهت بالاعتراف بالعملية وتعويض المتضررين بمبلغ فاق الملياريين من الدولارات تكبدتها الخزانة الليبية. ولعل من الترهات التي تبعث على الضحك من شر البلية الاعلان عن حرب مقدسة ضد سويسرا دفاعا عن نزق احد ابنائه.
كل هذه السياسات جعلت نيران الثورة التي اشعلها البوعزيزي تلهب مشاعر الليبين للانتفاضة عليه، وكان كما هو متوقع من تقدير المستبدين، ان القوة كفيلة بسحق المطالب مهما على سقفها، الا ان حساب العوامل الخارجية وتلهف الطامعين من دول العالم لم يكن في حساب النظام، مما سهل في القضاءعليه وازالته. وإن كانت ميتت صدام ميته كريمة اعادت الى الرجل بعض الاعتبار، فإن ميتت معمر كانت اكبر اهانه له ولاهله وللموالين له. ونعيد السؤال الذي سبق طرحه: هل كان يمكن ان يحدث لليبيا هذا الحجم من التدمير، وان ينتقل من استبداد الفرد الى استبداد الجهاويين وامراء الحروب والميليشيات المؤدلجة إذا تنازل معمر عن الحكم حينداك؟
إن تمجيد المستبدين، وغفران جرائمهم التي ارتكبوها في حياتهم، وتناسي اثار سياساتهم على بلدانهم وشعوبهم بعد موتهم، هو بمثابة وضع نيشان على صدر مجرم، او اكليل ورد على قبر قاتل.
والله من مراء القصد
احمد معيوف (اميس انتمور)
لندن 23/05/2017