بقلم د. خليل حسونة
قراءةٌ غيرُ منهجيّةٍ لديوانها “أُدَمْوِزُكِ وَتَتَعَشْتَرين” للشّاعرة آمال عوّاد رضوان
حول العنونة: الشعرُ صورةٌ ناطقةٌ وحدودُ ذاكرةٍ تُشكّلُ أبجديّةَ الطفولةِ، والشاعرُ هو ذلكَ الفاعلُ المؤتمَنُ على التوْصيلِ للانفعالاتِ، وتحويلِها للتعبيرِ عن مشاعرَ وجدانيّةٍ لا حدودَ لها، وهو ما ميّزَ هذا العملَ الموسومَ بـ “أُدَمْوِزُكِ وَتَتَعَشْتَرين”، للشّاعرةِ المُجدِّدةِ آمال عوّاد رضوان، والذي تُؤكّدُ نصوصُهُ فِعلَ الشعرِ الأقوى والأكثر التحامًا بأشيائِهِ، والدّفعَ إلى التأمُّلِ عبْرَ الدهشةِ والإدهاشِ اللّذيْن يَلتقطِهُما الناقدُ الحصيفُ لمساعدةِ المُتلقّي عبرَ ذلك، للنّفاذِ لأسرارِ النصّ، حيثُ انغراسُهُ في وجدانِ مُتَلقّيهِ، والدخولُ معهُ في علاقةٍ تفاعُليّةٍ جَدَليّةٍ، كما يُؤكّدُ الناقد الغَرّافي حيثُ التأثيرُ والتأثّر.
في أعماقِ كلِّ تجربةٍ إنسانيّةٍ تنشأُ خصوصيّةُ الاختلافِ والرضا، ومِن ثمّ خصوصيّة التعبيرِ، وهي مسألةٌ ترتبطُ بأرضيّتِها الاجتماعيّةِ والنفسيّةِ، فالأديبُ الحقُّ/ هنا الشاعر/ هو الأكثرُ قدرةً على دفع الناسِ نحوَ الجديدِ، شريطةَ أنْ يُبدعَ الجديدَ، فهو مُطالَبٌ أنْ يُعَبّرَ عن مشكلاتِهِ/ كما يرى لوكاتش/ بأسلوبِهِ الخاصّ، وبرؤى جَماليّةٍ تقومُ على كسرٍ واضحٍ للتقليديِّ في الشّعرِ، والتّميُّزِ بالدخولِ في موضوعاتٍ جديدةٍ، كمَلْمَحٍ بارزٍ مِن مَلامحِ الشعرِ الحداثيّ، بما فيهِ مِنَ انفتاحٍ على القراءةِ التأويليّةِ دونَ تجاهُلِ الشفراتِ والإشاراتِ، كوْنَ التأويلِ يَتمثّلُ في إمكانيّةِ أن يَحوزَ النصُّ بعلاقاتِهِ الأبستمولوجيّةِ الفاعلة على معانٍ مختلفةٍ، عَبْرَها تتجذّرُ الكيانيّةُ الرؤيويّةُ له، حيثُ يَقتحمُها الشاعرُ، ومِن ثَمَّ تقتحمُ حُلمَهُ وتمتزجُ به حتّى الانسكابِ، فيَنطلقُ الالتفافُ والتوليدُ والتفجيرُ، حتّى لا تنزلقَ القراءةُ إلى العشوائيّةِ الفاسدةِ، وذلكَ كي تستطيعَ الحفاظَ على صورةِ المُدرِك في وجهِ المُدرَكِ، ما يَجعلُ القصيدةَ تُشكّلُ سُبكًا خاصّةً، تُؤكّدُ قدرةَ الشاعرِ على امتلاكِ صوْتِهِ بقوّةٍ، حيثُ الانسيابيّةُ المُفعَمَةُ بتقنيّةٍ جَماليّةٍ، تجعلُ حُلمَهُ غيرَ منقوصٍ البتّةَ، ومِن هنا كانَ لقاؤُنا معَ هذا الديوان.
في محاولتِنا لاستحلابِ البُعدِ الجَماليّ لهذا العملِ المُثيرِ، عبْرَ تحليلِ جُزيئيّاتِهِ ودلالاتِهِ واستنتاجِ تَجليّاتِهِ، فمنذُ البدايةِ، يَشُدُّنا العنوانُ بقوّةٍ، حيثُ يُدخِلُنا في بوْتقةِ الأسطرةِ، كأوّلِ مفتاحٍ إجرائيّ بهِ نفتتحُ مَغاليقَ النصّ، مِن أجل تفكيكِ مُكوّناتِهِ، كمَدخلٍ لعمارتِهِ وإضاءة لها، وذلكَ باستدعاءِ المُتلقّي إلى نارِها، مُتّكئةً على طاقتِها الهائلةِ في تجسيدِ سُلطةِ النصّ وواجِهتِهِ، فللعنوانِ دوْرُهُ المُهمّ، لِما لهُ مِن مُواصفاتٍ تجعلُهُ يأخذُ قيمتَهُ الدلاليّةَ منها،إذ يُشكّلُ علامةً تعبُرُ بكَ مدارات التجربةِ والأبعادِ الرمزيّةِ لها، بما لذلك من إبهامٍ واضحٍ حيثُ الغموضُ والرمزيّةُ الّتي تدفعُ لاكتشافه والبحث في دلالاتِها العميقة، كمَلمَحٍ يُبرزُ حضورَ شعريّةِ الحداثةِ، حيثُ التوهُّجُ ودهشةُ المفاجأة، وعَبْرَ لغةٍ طقوسيّةٍ صارخةٍ، لها دوْرُها كعنصرٍ فاعلٍ في بناءِ القصيدةِ الّتي يَتجلّى في أرجائِها عبقريّةُ الأداءِ الشّعريِّ، وتَبَنّي لَبِناتِها المِعماراتِ الفنّيّةَ الصاخبةَ جَماليًّا، المازجةَ بينَ الأستاتيكا والضجيج، حيثُ الإنسانُ في عواصفِهِ الفكريّةِ والروحيّة.
عندَ هذا الحَدِّ أقِفُ لأخرُجَ مِن سطوةِ العنوان، حيثُ تَداخُلُ “الأدمزة” و “العشترة”، لأدخلَ في أتونِ العملِ الذي يُظهرُ منذُ البدايةِ، كيفَ وضّحتْ لنا الشاعرةُ معَ الكلماتِ الأولى للإهداءِ، ثمّ المدخل وماهيّة الشعر بالنسبةِ إليها، وذلكَ على لسانِ مَحبوبِها الذي تتطهّرُ مُهرةُ بوْحِهِ، وهي تُحلّقُ فرِحَةً ببياضِه صوْبَ ذاكرةٍ عذراءَ بنارِ الحُبّ (ص3):
إِلَيْكَ/ مُهْرَةَ بَوْحِي فَتِيَّةً/ بِفَوَانِيسِ صَفَائِهَا .. بِنَوَامِيسِ نَقَائِهَا/ حَلِّقْ بِبَياضِهَا/ صَوْبَ ذَاكِرَةٍ عَذْرَاءَ/ وَتَطَهَّرْ/ بِنَارِ الُحُبِّ .. وَنورِ الْحَيَاة!
طاقةُ النصِّ والأسطرة: منذُ البدايةِ نستطيعُ التأكيدَ؛ على أنّ الدخولَ لعالمِ الشاعرةِ آمال عوّاد رضوان وُلوجٌ محفوفٌ بالمَشقّةِ والإجهادِ، ذلك أنّها ابتدعَتْ لنفسِها طريقًا خاصًّا بها يَتّكئُ على المُغاير، وهي تَضوعُ حكايتَها على لسان “أدموزها” الحبيبِ العاشق/ الجامحِ في عَماهُ حُبًّا، المُتلهّفُ للّقاءِ والتوَحُّدِ بها، وبشكلٍ ضديدٍ للمتعارفِ عليهِ من أبناءِ جيلِها مِن الشعراء، حيثُ تحتاجُ نصوصُها إلى التأمُّلِ الدافعِ لاستحلابِ الرؤيةِ واعتصارِ الرؤيا، وهو ما بَرَزَ على طولِ جسدِ الديوان.
في قصيدتِها المُفتتح الموسومةِ بـ “يابسةٌ سماواتي”، تَبرزُ لنا طاقةُ النصِّ المُشِعّةِ بجَلاءٍ غامضٍ وغامضٍ جَليٍّ، ما يَجعلُ استجابتَنا لحرَكتِها دافعًا لرشْفِ التجربةِ كاملةً، في حين أنّنا نستطيعُ اقتطافَ رشقاتِ العناصرِ الغنائيّةِ مِنَ الذاكرة، كعلاماتٍ لها بُروزُها في الشكلِ والبناءِ (ص4):
يَابِسَةٌ سَمَاوَاتِي/ أَمَامَ اشْتِعَالِ اشْتِيَاقِي/ أَأَظَلُّ.. أَتَضَوَّرُ شَهْوَةً؟/ أَحْلَامِي مُعَلَّقَةٌ.. بَــ~ يــْـ ~نَ.. وُعُودِكِ الْمُؤَجَّلَةِ/ وَأَقْدَامِي تَتَعَثَّرُ.. بَــ ~ يــْـ ~نَ.. جُدْرَانِكِ الْــ تَتَهَاوَى!/ عَلَى خَدِّ شُعَاعٍ.. مُضَمَّخٍ/ بِــــالْـ~دَّ~هْـــ~شَــ~ةِ/ ثَ رْ ثِ رِ ي نِ ي.. صَدًى/ لِأَرْسُمَ.. بَعْثَــكِ الْمُشْتَهَى!
النصُّ هنا يخُطُّ جُملةً مِن التأويلاتِ المفتوحةِ والطافحةِ بالألمِ والعِشقِ الذي أطلقتْهُ الشاعرةُ على لسانِ “دموزي/ تموز”، المُعلّقةُ أحلامُهُ بينَ الوعودِ المُؤجّلةِ وأقدامِهِ الّتي تتعثّرُ بينَ جدرانِها/ صدِّها/ ولرُبّما إهمالِها أو صمْتِها، دونَ أن تَفقدَ هيبةَ الحضورِ أو مُعانقةَ العراءِ، حيثُ رنينُ الصّدى الذي يَرسُمُ ويُشكّلُ بعْثَها المُشتَهى، وهو ما تُريدُهُ منهُ وترغَبُهُ، وقد أكّدَ فيهِ التنقيطُ ذلك، كما أبرَزَ أنّ للنّصِّ مُشاغباتِهِ، حيثُ التّأنّي الدافعُ للدّهشةِ، والتي هيَ بدَوْرِها تدفَعُ للبعثِ المُشتَهى، كرَدِّ اعتبارٍ لِمَا أقدَمَتْ عليهِ بلامبالاة، وذلك بالتضحيةِ بمَحبوبها الّذي يَوَدُّ أنْ يَخُطَّ بعْثَها ويُمعِنَ النّظرَ فيهِ، وكلُّ ذلك، بلغةٍ غيرِ نوّاحةٍ، بل أخذتِ انْسيابَها مِنْ طبيعةِ موْضوعِها الّذي ارتبَطتْ بهِ، فجاءتْ كلماتُها مُتدفّقةً بفسيفساءِ الشّعورِ الجميلِ، وبالطّموحِ الأجملِ المُنطَلِقِ بقوّةٍ، بارِحًا للشّجوِ حتّى الجنون الصامت (ص5):
قَلْبِي الْــ يَــــكْــــبُـــــرُ بِكِ/ حينَ .. يَـ~جْـ~ـمَـ~ـحُ.. شَجْوًا/ تَــتَــيَــقَّــظُ.. ثُــغُـورُ رَبـِيـعِي الْــ غَــفَــا
هنا ذاكرةٌ، وهذهِ الذاكرةُ تَعطّلتْ فجأةً في مُحاولاتِ الحُلمِ المُتعمّقةِ، حيث الأنا/ يُجَنُّ بِكِ/ تَفرضُ نفسَها كما هي عَبْرَ أناها/ ثغورُ ربيعي/ ودونَ أنْ تبتعدَ عن/ الأنا الأخرى/، كلُّ ذلكَ عبْرَ ذكاءٍ فنّيٍّ مُتيَقّظٍ، جاءَ الإيحاءُ والتّوهُّجُ فيهِ ليُعلنَ ويُعاينَ التعبيرَ النفسيَّ للشاعرةِ ويُعايشَهُ، كما جاءَ على لسانِ مَعشوقِها الحالِم/ ديموزها/، للوصولِ إلى البعثِ المُشتَهى، حيثُ التّلاحُمُ بها/ المعشوقةِ/ الّذي يُريد. هذه الشفافيّةُ الطفوليّةُ الّتي أطلقَها “ديموزي” في مُحاولتِهِ التّصالحَ مع الذّاتِ الأخرى/ عشتار، تَستحضِرُ شبكةً مُعقّدةً مِنَ التّوازياتِ، تختلطُ فيها التّداخُلاتُ الأسلوبيّةُ، إذ تُشكّلُ رغمَ خِطابيّتِها عالَمًا مُتعدّدَ الأبعادِ والمُستوياتِ والأعماقِ، حيثُ مَلامحُ الاشتعالِ/ الاشتياقِ/ الشّهوةِ/ الأحلامِ المُعلّقةِ/ الوُعودِ المُؤجّلةِ/ ثمّ وأخيرًا/ البعث المشتهى”. أليسَ في هذا صورة للقبول المَرْجو مِن أجل التّلاحُم؟
الشاعرةُ هنا تُجيبُ مُؤكِّدةً ذلك، بتعامُلِها معَ وهجِها الّذي يُؤكّدُ رؤيتَنا، وهو ما يُجيبُ على سؤالِها الصارخ، بل وعلى قُدرتِها الذّاتيّةِ الّتي أفرزَها عقلُها الباطنُ على لسانِهِ/ وهوَ يَنطقُ باسْمِها، وهيَ تُصِرُّ على الدّلالِ/ التّعشترِ/، كحالةٍ واضحةٍ غامضةٍ ومُتداخلةٍ مِن أحوالِ النّفس، وكموقفٍ وجدانيٍّ بارز، فالإنسانُ وهو الشاعرةُ كما رأينا وبكلّ رُؤاها وحالاتِها وبحسب “فرويد”، هو كائنٌ على خِلافٍ دائمٍ معَ العالمِ ومع نفسِهِ، وثمّةَ صراعٌ مُحتدِمٌ على الدوامِ بينَ الفصْلِ الواعي واللّاواعي، فإلى جانبِ الميْلِ المُتّصِلِ إلى كبْتِ الدّوافعِ في اللّاوعي، هناكَ ميْلٌ آخَرُ للحوافِزِ اللّاشعوريّةِ بالخروجِ إلى النّور، وهنا تَظهرُ الرّغباتُ المَرجُوّةُ اجتماعيّا، والتي يَطمحُ عاشقُها/ على لسانها/ لقطفِها، حيثُ خُلِقَ كما يقولُ للاحتراقِ بها، لذلكَ يَقفُ ومعَهُ مِن أجلِها على خانةِ حُبّهِ، حيثُ الانتظارُ المَرجُوُّ لتلكَ الّتي لمْ تَزَلْ تسجُنُهُ بمَفاتِنِها، ليَسوحَ حتّى الذّوبانِ في عبيرِ نَهدَيْها، كما جاءَ في قصيدتِها “غاباتي تَعُجُّ بالنّمور” (ص11-12):
فِي عَبِيرِ نَهْدَيْكِ .. أَسُووووووحُ/ فيُمْطِرَانِنِي شَوْقًا .. يَتَّقِدُنِي/ وَأَذْرِفُكِ .. عِطْرًا مُتَفَرِّدًا/ تَـسْـجِـنِـيـنَـنِـي .. بِمَفَاتِنِكِ/ تَـنْـسِـجِـيـنَـنِـي .. مِنْ لَدُنِ رُوحِك/ فأَطْفُوَ عَدْوَ ظَبْيٍ .. إلَى مَقَامِ الْهُيَامِ/ وأُجِيدُ طُقُوسَ هُطُولِي/ عَلَى أَجِيجِكِ الثّائِرِ!
و(ص15): أَنَا مَنْ خُلِقْتُ.. لِأَحْتَرِقَ بِكِ/ احْتَرَفْتُ الاتِّكَاءَ/ عَلَى غَيْمِكِ/ على لهْفَتِكِ .. على جُنُونِكِ/ وَقَدْ خَضَعْتُ .. لِحُلُمِي طَوِيلًا/ فِي انْتِظَارِكِ!
هنا لغةٌ وجدانيّةٌ تَرفعُ راياتِها على نحوٍ غامضٍ ومُستتِرٍ، ما أنْ تَصلَ إلى دائرةِ الفهم، حتّى تُصبحَ قضايا عقليّةً لا أثرَ للألوانِ ولا حتّى للخفايا، فيها ما يَجعلُ القصيدةَ تحتفي بسِرٍّ أعمقَ، هو سِرُّ الخَلْقِ الشِّعريِّ، إذ تُظهرُ أشياؤُها حالةً مِن حالاتِ الذّاكرةِ الناصعةِ غيرِ المُفكّكةِ، والتي تتموضَعُ عبْرَ أساليبَ مُلتويةٍ، تُثيرُها آلافُ الذّكرياتِ (ارتجاج الوعي فيها بالأنا)، والتّحوُّلُ مِن سؤالِ الــ (ماهوَ) إلى الـ (كيف) يتضمّنُ الثّوابتَ الحُلميّةَ، ويَجعلُ الأنا رهنَ شروطِها وتناقضاتِ هذهِ الشروط، ولأنّ القصيدةَ الحيّةَ كالنّار لا يَصِلُ لهيبُها إلّا بالامتدادِ، ولأنّها لا تُسلّمُ قيادَها إلّا لمَن صدَقَ حُبُّهُ لها، ولأنّ الصورةَ في النّصِّ الحَداثيِّ تنقذِفُ داخلَ نفسِ الشاعرِ وحالَ توَتُّرِهِ واسترْخائِهِ، لهذا تتغيّا الكوامنُ الشعوريّةُ ومَداركُها. هكذا جاءتْ قصيدةُ “أُدَمْوِزُكِ وَتَتَعَشْتَرِينَ” لِتؤكّدَ ذلك:
أَيَا دُرَّةَ الطُّيُورِ/ مَا عَرَفْتُكِ .. إِلَّا عُصْفُورَةَ نَارٍ/ تُضِيءُ دُرُوبِي! (ص19)
دَعِيني.. أُعِـــدُّ قُــبُــلَاتِــي/ لِحَيَاةٍ جَمَّةٍ/ تَـتَـفَـاقَـسُـنَـا/ فِي أَعْشَاشِكِ الْحَيَّةِ .. غَيْرِ الْخَرِبَةِ!
وَدَعِينَا .. نُحْيِي رَمِيمَنَا (ص20)
أُدَمْــــــوِزُكِ.. وتَـــتَـــعَـــشْـــتَـــرِيـــن/ أُلْقِي عَلَيْكِ.. مَلَاءَاتِي الْخَضْرَاءَ/ فَتَسْتَعِيدُ أَعْشَاشِي/ تَـرْتِـيـبَ عَـصَـافِـيـرِهَا/ وَتَتَسَرْبَلينَ .. أَنْهَارَ خُصُوبَتِكِ! (ص21)
أَوْعِزِي .. لِغَيْمِ جِنِّي وَإِنْسِي/ لتَتَسَرَّبَ فُصُولُ الْبَنَفَسْجِ/ وَتَتَرَسَّبُ بِرُوحِكِ الْعَشْتَار/ فَلَا يَشْتَعِلُ الْعَوْسَجُ .. بِتَــلَـعْــثُــمِــكِ! (ص21)
هنا حالةٌ وجدانيّةٌ نافرةٌ تتداخلُ فيها الرّقّةُ بالخشونةِ، حيثُ الرّبطُ بينَ الفقدِ وجُملةِ المَعارفِ الإنسانيّةِ، ليُصبحَ المَعنى ليسَ مُجرّدَ شيءٍ تُعبّرُ عنهُ، وإنّما شيئًا تُنتجُهُ. هكذا كانَ للأسطورةِ حضورُها اللّافتُ، فقد ظلّتْ شاغلًا مِن شواغلِ عِلم النفس، يَسْهُلُ تفَهُّمُهُ للإنسانِ، وتحليلُهُ لبواعثِ أعمالِهِ وكوامنِ غرائزِهِ، والكشْفِ عن عقلِهِ، ما دامتِ المعاني تُستمَدُّ مِنَ المعاني اللّاشعوريّة في النفس، ما جعلَ القصيدةَ تسترجعُ التّراكماتِ التّاريخيّةِ الّتي تعتملُ في نفسِ الشّاعر، عندما يُوازنُ بينَ الموتِ والحياة/ السّلبيّ والإيجابيّ، وهيَ تُعالجُ قضايا الوجودِ الإنسانيِّ بنَوازعِهِ وأفكارِهِ، وتُشكّلُ حقيقةَ أزمتِهِ الوجوديّة، إذ استوعبَتْ قلقَ الإنسانِ الأزليِّ الّذي يَرنو للتخلُّصِ مِن وجعِهِ، عبْرَ الاندغام والسياحةِ بها والذوبانِ في عبيرِها، وهوَ ما بَرَزَ جلِيًّا لأكثرَ مِن مرّةٍ كما نرى في قوْلِها:
فِي عَبِيرِ نَهْدَيْكِ.. أَسُوووووحُ/ فيُمْطِرَانِنِي شَوْقًا .. يَتَّقِدُنِي/ وَأَذْرِفُكِ .. عِطْرًا مُتَفَرِّدًا (ص12)
لَكَمْ يَسْتَهْوِينِي/ تَــ فْـــ كِـــ يـــ كُـــ كِ/ قَبْلَ أَنْ أُعِيدَ إِلَيَّ .. لُـــحْـــمَـــتَـــكِ (ص28)
وَلَمَّا يَزَلْ طَعْمُ نَهْدَيْكِ/ عَلَى لِسَانِي .. مُذْ كُنْتُ رَضِيعَكِ/ وَلَمَّا أَزَلْ.. أَفْتَقِدُ بَيَاضَ حَلِيبٍ/ يَدُرُّ شَبَقًا عَلَى شِفَاهِي! (ص38)
التناقضُ بينَ التّواطؤِ والرّفضِ كما الاندغام بينَ الرغبةِ والنفور، تكثيفٌ للصّورةِ الشّعريّةِ لتُصبحَ تعبيرًا عن واقعِ العلاقاتِ القائمةِ، لا عنِ الواقعِ النفسيِّ للبطل/ العاشق، وهو ما أبرزَتْهُ هذهِ النّصوصُ بجَلاءٍ، كوجهٍ مِن وجوهِ العالمِ الشّعريِّ للشاعرة آمال عوّاد رضوان مُتعدّدةِ المَلامحِ، فهي تَجمعُ وتَشُدُّ تلكَ التّناقضاتِ المُتناثرةَ عبْرَ قصائدِها ضمنَ هذا الدّيوان، لتَصِلَ بها إلى عالمٍ كُلّيٍّ كاملٍ، لا يُصبحُ حاصلَ جمْعِها، وإنّما حاصل جدَلِها، ومِن ثمّ تَعميقها وتطويرها بالمعنى الأكمل، كرؤيةٍ شاملةٍ للوجودِ العامّ حيث “الحبّ/ الكراهية/ الرضوخ/ التمرّد/ الملل والتحفّز/ ثمّ التوهّج والانطفاء”، كذلك رؤية العالمِ الداخليّ والخارجيّ معًا، وما يربطُ بينهما مِن صفاءٍ وامتدادٍ للصورة الرؤيةِ والرؤيا الصورة.
الاعتمادُ على الأسطورةِ هنا وأسطرةِ الحدَثِ جعلتِ الفكرةَ أكثرَ مرونة للمتلقّي، حيثُ أنّ إحدى تجلّياتِها السعيَ لبلوغ الإحساسِ بالحيرة والقلق في مواجهةِ أمثال تلك الظواهر، كما برزَ في قصيدتِها “اختلاسُ آمالي”:
بِوَحْشَةِ ضَوْئِكِ الْفَائِرِ/ أَرْسمُنَا دَوَائِرَ تَتَحَالَقُ/ وَ.. أُحَلِّقُ حُرْقَةً/ أَ~ تَـــ~لَــــ~وَّ~ى/ وَ ../ أَ ~ تَـــ~ لَــ~ وَّ~ عُ/ فِي قَفَصِ النِّسْيَانِ! (ص48)
ولكي يَنهلَها نهلةً نهلةً كما جاءَ على لسانِها في “مُهرةِ بوْحي”، كانت الرغبةُ أكثرَ وضوحًا: فَمَا أَرْوَعَكِ .. أَيَا مَاهِرَةَ الْبَوْحِ/ أَنْهَلُكِ.. نَهْلَةً نَهْلَةً .. وَلَا أَرْتَوِي (ص51-52)
الأسطورةُ مَرجعيّةٌ مشتركةٌ هي لغةُ الوجدان كما في هذا النصّ الفائر، حيثُ حضورُ عشتار/ أنانا/ الزهرة التي اختارت التضحيةَ، وذلك بنزولها إلى العالم السفليّ، لتُعيدَ روحَ الخصوبةِ من جديد، ولكي لا يتوقّفَ النّسلُ، عادتْ من عالم الموتى، وضَحّتْ بعشيقها ديموزي/ تموز، وهي خصوبة لن تكونَ إلّا بالتضحية والاندغامِ لكليهما معًا (أناها وأناه)، لذا يَطلبُ منها أن تتيحَ له فرصةَ التحليق بأجنحتِها، وهنا أرفعُ مقاماتِ التقمُّص الوجديّ والاندغام، كحالةِ عبورٍ مِن مرحلةٍ إلى أخرى، أو اضطرابٍ يعقبهُ سكونٌ وعقاب، كما جاء في أسطورتَيْ (أرتيميس وأوزوريس)، حيثُ تشيرُ الأسطورةُ فيهما الى امتزاجِ الحُبّ بالاضطراب وبالصراع والموت، وأحيانًا بصخب التحوّلِ ولقاءِ المفاهيم المُتعارضة، حيث الموتُ والحياةُ مِن جديد، وإلى درجةِ الذوبانِ الكامل.
أَنَا/ مَا كُنْتُ .. مِنْ رُعَاةِ الْغَيْمِ وَالسَّمَاوَاتِ/ فَــفِي أَثِيرِكِ الْحَرِيرِيِّ/ أَتِيحِي لِيَ التَّحْلِيقَ/ بِأَجْنِحَتِكِ الْعَاجِيَّةِ! (ص7)
هكذا طفحَتِ التأويلاتُ بالوحشة والألم، دون أن تفقدَ هيبةَ الحضور في النصّ، ودونَ معانقةِ العراءِ الذي يَدفعُ للعزلةِ القاتلة، وهي تأويلاتٌ تعانقتْ بقوّةٍ مع سيرة الذات، وهنا التضحية بالمحبوب أوّلًا ثمّ بالحبيبة ثانيًا، ولامستِ المشتركَ التاريخيَّ والإنسانيّ، كما وتلاقحتْ مع جُملةِ الكائناتِ والمُكوّنات، حيث الغيمُ والسماواتُ وفصولُ البنفسج/ وبذلك عالجتْ قضايا الوجودِ الإنسانيّ بنوازعِهِ وأزماتِهِ الوجوديّة، حيث استوعبتْ قلقَهُ التاريخيَّ الأزليّ/ الموتَ والحياةَ والبعثَ، ما ساعدَنا على اكتشافِ الدهشة/ الذهول من منطلقِ الحُبِّ والخوفِ والاندغامِ بهِ وعَبرَهُ ومعَهُ، حيثُ برَزَ حُلمُ التجاوز هدفًا بعيدَ التحقيق، ما جعلَ العمليّةَ الإبداعيّة وأبقاها هاجسًا خرافيّا وعذبًا. لقد اتّضحَ لنا بجلاءٍ أنّ هذا النصَّ فِعلٌ شِعريٌّ شعوريٌّ، من الممكن قراءتُهُ في كلّ مرّةٍ بشكلٍ مختلف.
التوازنات والتوازيات بين الحُلميّة والتأويل: الإبداعُ الأصيلُ يبقى مُقيمًا في الذاكرة، حيثُ الحفاظُ على الكينونةِ من الانمحاق، ولتفعيلِ الفعلِ الإبداعيّ على مستوى الشكلِ والموضوع، فالنصوصُ هنا ومنذُ البدايةِ تُدافعُ عن نفسِها، وهكذا تتجدّدُ في كلِّ اتّجاهٍ، وتنحازُ للتّناغُم الكونيِّ داخلَ الذات، كما تُؤكّدُ لوحةُ القصيدةِ “أُقَشِّرُ لِحَاءَ عَتمَتِكِ”:
مُنْذُ ظَمَأٍ بَعِيدٍ/ وَأَغْبِرَةُ صَمْتِي/ مَا نَفَضَهَا شِتَاءُ دَلَالِكِ!/ أَعِينِينِي عَلَى ظَمَئِي/ وَلَا تُصَافِحِي بِالنَّارِ .. سَبَئِي! (ص22)
أَيَا قَصِيدَتِي الْخَالِدَةَ/ دَعِينِي .. أُقَشِّرُ لِحَاءَ عَتْمَتِكِ/ أُضِيءُ كُلَّ تَفَاصِيلِكِ/ لِتُكَلِّلِينِي بِالْفَرَحِ (ص23)
هكذا ترفعُ فلسفةُ آمال الحُلميّةِ رأسَها عاليًا، رافضةً العودةَ إلى الماضي. إنّهُ التوتُّرُ الشّاقُّ الّذي يُلامِسُ تَنبُّؤاتِ الإنسانِ، تَبِعًا لجدَليّةِ (النور- أُضيئُ تَفاصيلَكِ) و (الظلامُ- لحاءُ العتمةِ)، ومن هنا حضور/ الأنا/ وتَمركُزُها في جملة رؤى، و تموضعات على قاعدةِ حُلم آخَرَ لجنونٍ آخر. وإذا كانَ المعيارُ الأساسُ في التأويلِ هو إمكانيّة أن يحوزَ النصُّ على معانٍ مختلفة، وذلك بحسب استراتيجيّاتِ القراءة، حيثُ القلقُ النّابِهُ، والتعلّقُ بأفُقِ الفعلِ وأفقِ المعاني، ما يعني بروزَ التّشيُّؤ بشكلٍ لافتٍ، بحيث يُصبحُ التبعثرُ الرّؤيويُّ حالةَ تَشَظٍّ تُؤكّدُ رغبةً دفينةً في التبلور، ليدفعَ بحالةٍ نيرفانيّةٍ تتشكّلُ بالتّوحُّدِ المرغوب “الأدمزة والتعشتر”، والّذي عبّرتْ عنهُ الشاعرةُ لنفسِها/ وأحلامِها، مُعلّقةً بأستيتيكا جماليّةٍ سكونيّة، تُصبحُ تَشَظّياتُها ترميزًا للكثيرِ مِن القضايا/ امتزجتْ بها الشّاعرةُ إلى أن استطاعت الأنا/ أن تفرضَ نفسَها بقوّةٍ، كما في قصيدة “غمارُ أنوثَتِكِ الّتي أشتهي” والتي جاء فيها:
مُكْتَظَّةٌ بِـكَ ذَاكِرَتِي/ بـــ (حَبِيبِي) .. وبصَدَى صُدَاحِ يَمَامِكِ/ وَمَا فَتِئَتُ أسْتَيْقِظُ/ عَلَى تَنْهِيدَةِ (حَيَاتِي) (ص31)
حالةُ توليدِ المعاني هنا، تعتملُ فيها حالةُ كشفٍ لعالمٍ هو بحاجةٍ لذلك، وبوثوقيّةٍ تقفزُ خارجَ المفهوماتِ السائدةِ الّتي ترتبطُ بالصوتِ الخارجيّ، وفي نفس الوقتِ بالتعبيرِ عن حاجات الباطن، وهو ما أكّدتْهُ قصيدة “أَبْجِديني بجُنونِكِ”:
نَهِمُ فَوْضَاكِ أَنَا/ كَمْ أَتَعَشَّقُ/ أَتَــــمَـــرَّغُ .. بِبَحْرِ جُنُونِكِ/ حِينَ أَنْفَاسُكِ/ تُنْبِئُنِي .. بِجُلِّ خَلَجَاتِكِ/ وَحينَ تَندُّ عَنْكِ .. شَهْقَةُ اشْتِهَاءٍ/ فَلَا أَنْطَفِئُ! (ص34)
قصائدُ “عَيْنُ دَهْرِي الْأَعْوَر” وحتّى “أيا صعداءِ عِشْقي”، مُرورًا بـ “أنا بَحْرُكِ الْغَرِيقُ” حالاتُ بوْحٍ نازفٍ حتّى الثّمالة، تنتظرُ المُقدّسَ ليُطفئَ اليأسَ والنّحسَ اللّذيْنِ يكتوي بهما وتتلبّسانِهِ، تُبرزُها ببساطةٍ طفوليّةٍ لحالاتٍ مِنَ التّصالحِ مع العالمِ والتّمرُّدِ الكائنِ خلفَ الرّضا، حيثُ وهْمُ الحرّيّةِ، والفَرح، والبراءة، ثمّ العزلة والضّجَر، بحيثُ خضعَتِ القصائدُ لشبكةٍ مُعقّدةٍ مِنَ التوازياتِ والتوازناتِ والتناقضات، لتختلطَ فيها الغنائيّةُ بالمَلحميّةِ وبالخطابيّة، وأيضًا بالتّأمُّل الذي يُشكّلُ عالمًا مُتعدّدَ الأبعادِ والأعماقِ والمستويات، وهو ما بَرَزَ جَليًّا في قصيدة “مُشْتَهَاتِي”:
وَلَمَّا يَزَلْ طَعْمُ نَهْدَيْكِ/ عَلَى لِسَانِي.. مُذْ كُنْتُ رَضِيعَكِ/ وَلَمَّا أَزَلْ.. أَفْتَقِدُ بَيَاضَ حَلِيبٍ/ يَدُرُّ شَبَقًا عَلَى شِفَاهِي!/ مَا أَفُلَتِ اللَّذَّةُ.. فِي رَعْشَتِهَا/ وَمَا اكْتَنَزَ ارْتِوَاؤُهَا.. إِلَّا بِتَعَطُّشِكِ الصَّامِتِ (ص38)
آآآآآآآآآآه/ نَشْوَةُ آهَتِي الْمَكْتُومَةُ/ مُتْخَمَةٌ.. بِلَدْغَاتِ تَجَاهُلِكِ!/ وَتَظَلُّ خَيَّالَةُ جُنُونِكِ .. نَبْعَ مُشْتَهَاتِي!(ص39)
يبدو أنّ الفرارَ هنا نوعٌ مِن الخلاص، وإن اتّخذَ شكلَ التأرجُحِ وحيدًا على خطّ الماء، وهو خلاصٌ في نفسِ الوقتِ يَحُثُّ عمّا يَنفي هذا الخلاص، بما هو خلاصٌ قائمٌ على الفرارِ إلى الغربة، بَعيدًا عن الوطن والمُراوحةِ بين الوحشة وأشياءِ العالم، ولكنّها في نفس الوقتِ شرط العثورِ على النّفي الّذي يَمنحُ السكينةَ والسلام، وهو ما أبدَتْهُ وأبرَزَتْهُ بشكلٍ جَليٍّ قصيدةُ “سَمَائِي تَتَمَرَّغُ في رَعْشَةِ أمْسِي”:
أَيَا مَلِيكَتِي/ هَا قَدْ بَدَأَ .. فَسَادُ الدَّهْرِ/ وَلَمَّا تَزَلِي .. أَزَلِيَّةً/ أَبَدِيَّةً .. فِي مَمْلَكَتِي الْجَبَلِيَّةِ/ شِعْرُكِ .. خَرَائِطِي .. رُوحُكِ .. بُوصَلَتِي/ فَلَا تَقْلِبِي .. ظَهْرَ النَّهْرِ/ وَ بَـ~يْـ~نَ ظِلَّيْنَا/ دَعِيهِ يَــــجْــــرِي/ لِأُتَــوِّجَــكِ.. مَلِيكَةَ كُلِّ الْكَوْنِ (ص62)
هذه اللغةُ المُكثّفةُ تَكتنفُها روحٌ صوفيّةٌ مُتألّقةٌ ومتأنّقةٌ (لمنظور) جماليٍّ دائريّ ولا نهائيّ (للعلاقاتيّة)، تؤكّدُ انحيازَها الروحيَّ للتناغم الكونيِّ داخلَ الذّاتِ، وذاتُها تَلهثُ بعشقٍ لا يَنقطعُ عبْرَ اتّساعِ عوالمِ الوعيِ الفسيحةِ، والتّوحُّدِ بلحظاتِها كما في “سَادِيَّتِي” وَ “مُجَوَّفٌ لَيْلِي” و “أَكْدَاسُ وَقْتِي”:
*أَيَا سَادِيَّتِي*/ أَفْسِحِي لِي .. وَلَوْ مَوْطِئًا أَوْ وِسَادَةً/ تَتَعَكَّزُ عَلَيْهَا بَقَايَا رُوحِي/ فَمَا أَنَا.. strong>سِوَى كَوْمَة طِينٍ/ تَنْتَظِرُ عَلَى قَارِعَةِ مَدَارَاتِكِ! (ص69)
مُذْ غَادَرَتْنِي .. غُدْرَانُ مُحَيَّاكِ/ انْطَفَأَتْ .. ذُبَالَاتُ عَيْنَيَّ! (ص75)
لَا.. لَنْ أَتُوبَ عَنْ ظَمَئِكِ../ وَالشَّهْوَةُ.. عَيْنُهَا أَنَا/ هَا جَسَدِي الْمَلْدُوغُ/ بِاللَّهَبِ يَكْتَنِزُنِي.. وَبِالْقَصَبِ يَلْكُزُنِي! (88)
ولأنّ الشّعرَ سَلسبيلٌ عذبٌ يَجري في الشاعر مَجرى الدّمِ في العروق، ويَمتزجُ معَ عصارةِ قلبِهِ، يَخرجُ مُضرجًا بعناءِ التّوتُّرِ، جاعلًا رمزيّتَهُ وتأوُّهاتِهِ أنفاسًا قاتلة، وبصماتُ مَشاعِرهِ تتوحّدُ فيهِ قدرةُ البَصرِ معَ قدرةِ البصيرة، ويَرفعُ الملموسَ إلى غير الملموس، فتمتزجُ الحالاتُ في إضاءاتٍ خلّابةٍ تُعانقُ الرّوحَ والوجدان، كما في قصيدةِ “مُهْرَةُ بَوْحِي” الّتي أوضحتْ أنّ الشاعرة هي قارورةُ الشّعرِ والحُبِّ المُرافِقِ في الحياة، والتي جاء فيها:
أَيَا مَلَاذِيَ.. وَمَلَاذِّي/ فِي مَصَبَّاتِكِ.. أَتَجَاسَرُ/ وَتَتَرَاقَصُ تَدَاعِيَاتِي/ كَأَنَّكِ فِي تَزَاوُجٍ بِي (ص39)
يُدَاخِلُنِي ضوْؤُكِ.. يُخَارِجُنِي ضَوْعُكِ/ وَتَجْعَلِينَنِي.. أُفُقًا نَاعِسًا/ يَتَأَبْلَسُ.. وأَتَنَرْجَسُ
إِلَى شِغَافِ أَقْصَاهُ/ وَأَتَعَمْلَقُ.. مُحِيطًا نَاضِحًا/ فِي بَوْحِ مَدَاهُ! (ص51)
لقد اعتمدَ هذا النصُّ الغرَقَ في تفاصيلِ البوْحِ الّذي يجبُ أن يكونَ وأن يُقال، وهنا علاقةٌ جدليّةٌ بينَ الفِعلِ والمفعول، حيثُ يُمازِجُ الأنا/ معَ/ أناها/، وفي نفس الوقت مع الأنا الأخرى المُغامِرة، حيثُ يَبرزُ التّضادُّ المَعرفيُّ والحكمةُ الهادفةُ القائمةُ على علاقةٍ تَبادُليّةٍ، بينَ مُقوّماتِ العملِ وما يَعتملُ داخلَهُ، حيثُ يَبيتُ التّباعُدُ والتّقارُبُ على حدٍّ سواء، كما يتّضحُ في قصيدتِها “وَامْتَطَانِي قَلْبُكَ”:
أَنَا.. مَنْ أيْنَعْتُ مَدَادًا مَنْحُوتًا/ فِي مُتَّكَأِ حُضُورِكِ/ امْتَطَانِي الْقلْبُ.. إلَى ضِفَافِكِ الْعَذْرَاء!/ وَثْبَةً.. وَ.. وَثْبَةً.. وَ.. وَثْبَةً/ وَ.. أَدْنُو مِنْ مَوَاسِمِ قِطَافِكِ!؟ (ص90)
إذا كانت اللغةُ هنا مُوظّفةً جَماليًّا، فإنّ المعنى ليسَ مُجرّدَ شيءٍ تُعبّرُ عنه، وإنّما هو فعلًا شيءٌ تُنتجُهُ، هكذا أغرقَتِ القصيدةُ المُتلقّيَ في بحرٍ مِنَ الاتّجاهاتِ الّتي تفيضُ بتشّظياتِ المعاني، وتؤكّدُ أنّ شاعرتَنا أبدعتْ في مُناجاةِ العاشقِ والبوْحِ عن حُبِّهِ حُبَّها، كحالاتٍ لها امتداداتُها الحاليّةُ، رغمَ خروجِها مِن حالاتٍ سابقةٍ تَمثّلتْ في الترَهُّلِ والتّزلُّجِ على التّلاعب بالألفاظِ وتطويع الكلمات، لكنَّ المُفاجأةَ تَمثّلتْ فيما حمَلتْهُ قصيدةُ “مَلِيكَةٌ كِنْعَانِيَّةٌ”، والّتي أكّدتْ مِن جديدٍ أنّها (إنانا/ عشتار) ابنةُ النّسماتِ الّتي يَخلقُ طريقَها بنسماتِ حيفا، وجُبِلَ جسَدُها مِن طينِ البشارة، وهي ترفُلُ في الجنّةِ مُحدّقةً في عيونِ الجليلِ حيثُ جاءَ منها:
مَا أُحَيْلَاهُ مُرَّكِ .. يَا ابْنَةَ النَّسَمَاتِ/ كَأَنَّ رَحِيقَكِ .. تَخَلَّقَ مِنْ نَسِيمِ حَيْفَا/ يَسُوقُ النَّسَائِمَ أَيْنَمَا شَاءَ/ لِطِينِ الْبِشَارَةِ نَاصِرَتِي/ لِتَجْبِلَكِ عُيُونِ الْجَلِيلِ فِي الْجَنَّةِ! (ص100)
مانفيستو اللغة رؤى.. و رؤى: هكذا تمتدُّ النّصوصُ العاشقةُ لاهثةً، وكلّما أومضتْ برقتْ إضاءاتُها الفجْريّةُ، فوصلتْ إلى حديقةِ قلبِها وهي تُهاتفُ أبجديّتَها الخاصّةَ بها، لهذا ظلّتْ تُردّدُ شمسَها وتستقطبُ اختياراتِها الداخليّةَ والخارجيّة، عبْرَ لغةٍ اختزلتْ عواطفَها الفائرةَ وازدحامَ اللّاشعورِ بالأحداثِ المُكتنزةِ المُعقّدة والمرجُوّة، كتعاويذَ تُحرّكُ الألفاظَ كما تشاءُ، حيثُ اعتمادُها على قوى نداء/ الأنا/، ممّا أدّى إلى الخلقِ المُستحكم بما يَستفزُّ الوجدانَ ويَشدُّ الذّهنَ بتقاليدَ مرسومةٍ، عبْرَ أداءٍ هائجٍ يَمتدُّ نحوَ الانزلاق، لأنّها وحدَها مَن يَمتلكُ الارتقاءَ بهِ مِن ذلك الانزلاق، والذي اتّضحَ في “مَلَاحِمُ شَفَقِكِ النَّاعِسِ”:
وَشِّي كُهُوفِيَ .. بِنَوَامِيسِ الضَّوْء/ فَلَا أُنْثَى تَمْلِكُ تَرْقِيَتِي سِوَاكِ! (ص114)
هذا النّصُّ المُنفتحُ بَرزَتْ لهُ أكثرُ مِن رؤيا، ما يعني أنّ لهُ حضورَهُ اللّافتَ المُنطلِقَ بقوّةِ الدفعِ الذاتيّ، كرغبةٍ دفينةٍ في التّبلوُرِ والحُلول، مُحَمَّلًا بشراسةِ المعاني الشخصيّةِ، وسلاسَتِها المُنضويةِ على طاقةٍ وعاطفةٍ عميقةٍ تَدفعُ إلى التّأمُّل، كما بَرزَ بشكلٍ جَليٍّ في قصائد “أُقَـشِّـرُ لِـحَـاءَ عَـتْـمَـتِــكِ” (ص22-24) و”غِــمَــارُ أُنُــوثَــتِــكِ الــ أَشْــتَــهِــي” (ص31-33)، مُرورًا بقصائد “أُنْثَى فَرَحِي” (ص25-27) و “أَبْــجِــدِيــنِــي بِــجُــنُــونِــكِ” (ص34-36)، والتي اندلعتْ إضاءاتُها الفجريّةُ الغجريّة، فوصلتْ إلى حديقةِ قلبِها وهي تُهاتفُ أبجديّتَها الخاصّةَ بها، لهذا ظلّتْ تُردّدُ شمسَها، وتستقطبُ اختياراتِها الدّاخليّةَ والخارجيّة، كما في قصيدة “سَمَائِي تَتَمَرَّغُ.. فِي رَعْشَةِ أَمْسِي” (ص62-64) والّتي ظهرتْ جليًّا في قصيدة “حَـرَائِـقُ حَوَاسِّي!” (ص127-129)، وقد جاءَ فيها ما يُؤكّدُ ذلكَ حيثُ تقولُ:
بَحْرٌ أَنَا/ أَبِمَائِكِ أَتَحَمَّمُ وَأَحْتَمِي!/ عَتْمَةُ الْوَحْدَةِ تُيَمِّمُنِي/ بِفِتْنَتِكِ.. تُبَلِّلُنِي/ وبحَرَائِقِ حَوَاسِّكِ.. أتَوَضَّأُ (ص127)
في هذا المَقولِ الشّعريِّ رأينا، كيفَ أخذتنا الشاعرة إلى عوالمَ ذاتيّةٍ صرفةٍ، حيثُ الذّاتُ تتربّعُ على عرشِ العمليّةِ الإبداعيّةِ المُمتدّةِ على طولِ مساحةِ العملِ بكاملِهِ، مُعبّرةً عن هواجسِها في الالتقاءِ بالآخَرِ المُحِبِّ والالتحامِ به.
على مِنوالِ هذهِ الشّعريّةِ الّتي تُشعرن الذاتُ شعريًّا، بأساليبَ تعبيريّةٍ في الجِدّةِ والخلقِ والحرارة، ترومُ الشاعرةُ ما تريدُ وهي تستلهمُ عن طريقِ الأسطرةِ كينونتَها مِن أجواءٍ صوتيّةٍ التحاميّةٍ مُفترَضةٍ، وكأنّها منذورةٌ لذلك، كما في “صَــدَى صَــوْتِــكِ الْــمُــقَــدَّسِ” (ص137):
بِهَسْهَسَةِ كُؤُوسِكِ.. تُغَمْغِمِينَ/ وَ~أَ~نْـ~ زَ~ لِـ~ قُ (ص137)
هذا النصُّ يُبرزُ حالةَ انزلاقٍ عِشقيٍّ لهُ سطوةُ الشّموخِ، دونَ أن تفقدَ هيبةَ الحضورِ في النّصِّ، حيثُ سقوطُ العراءِ وبروزُ وضوحِ الشامخ، وهي تُحاولُ اقتناصَ لحظتِها التاريخيّةِ ببراعةٍ، عبْرَ سردٍ إضافيٍّ / أضفى/ على المتنِ الشّعريِّ هيبةً جماليّةً مُدهشةً وفطريّةً، وهي تُحاولُ القبضَ على الشّبقِ والمُثيرِ، في محاولةٍ منها لاستعادةِ ذلكَ الإرث الوجوديّ المُمتدَّ في الذاكرة هدهدةً تتغنّى بذارَ طَلٍّ مُملّحٍ بَرزَ جليًّا في قصيدة “مَــوَاسِــمُ حَــنِــيــنِــي كَــفِــيــفــةٌ” (ص140):
هَا ابْتِسَامَتُكِ مَمْشُوقَة الْوَجَعِ/ هَدَلَتْ تُهَدْهِدُنِي/ وَتَـــنْـــعَـــفُـــنِــي/ بِذَارَ طَــلٍّ مُمَلَّحٍ! (ص140)
أَيَا نَرْجِسَ وَقْتِي الْمُحَنَّطِ/ أَعِيدِينِي إلَى صَوَامِعِكِ/ دُونَكِ/ سَمَائِي .. مَلْغُومَةُ الْغَمَامِ/ دُونَكِ/ رِيحِي مَشْلُولَةٌ/ ليْسَتْ تُزَوْبِعُهَا .. إِلَّا شَهْوَةُ حَرَائِقِكِ! (ص142)
الدّلالاتُ والآفاقُ وانزياحُ المَعنى: ونحنُ إذا ما تَطرّقنا إلى الدّلالاتِ ودوْرِها في تَبَدُّلِ المعنى، يتّضحُ لنا كيفَ أنّ المعنى عاملٌ مُشتركٌ بينَ البلاغةِ والدّلالةِ، إذ تطرأ على المعاني تبدُّلاتٌ عدّةٌ تَحْرِفُها عن التقليديّ، بوسائلَ وألوانٍ بلاغيّةٍ مختلفة، يتمّ فيها وعبْرَها انزلاقُ المعنى أو تَبدُّلُهُ، بطريقةٍ تُدخِلُ البلاغةَ في علمِ اللغةِ الدّلاليّ، حيثُ التّداخُلُ والتّنافُرُ بينَ المعنى المُعجميّ وذلك السّياقِيّ، وهنا يكونُ للشّعور/ غير المفارق للظواهر النفسيّة/، دوْرهُ كحدثٍ يَكشفُ بهِ الإنسانُ بطريقةٍ مباشرة لِما يَجري في نفسِهِ مِن عمليّاتٍ عقليّةٍ، كالأفكار والذكريات والعواطف، والذي اختصرَهُ الإهداءُ منذُ البداية، ما ساعدَ الشاعرةَ على تدوينِ مسيرتِها عبْرَ مُتوالياتٍ شعريّةٍ، تكشفُ عن المعاناةِ والرغبةِ الطافحةِ والمُتخيّلةِ لديموزي تجاهَ عشتار، ما جَعلها تلجأ إلى حُلمٍ جارفٍ وحنينٍ يافعٍ خفّاقٍ، أساسُهُ بَلورَةُ الكينونة عبْرَ تأويلاتٍ، أبرزُها الإرثُ المعرفيُّ الّذي برَزتْ تَشظّياتُه في:
*الأفق الذاتيّ والطقوسيّ: برزَ ذلكَ جليًّا في التقاطعِ الواضحِ بينَ طرَفَي الثنائيّة الـ “دموزي وعشتار”، عصبِ العمل برُمّتِهِ وما بينهما مِن حميميّةٍ وتَلاقُحٍ، كتَعبيرٍ فارقٍ يَقفزُ خارجَ المَفهوماتِ السائدةِ، كصوتٍ شعريٍّ مُتفرّدٍ، له مَلامحُ مغايرةٌ لِما هو مُتعارفٌ عليه كتعبيرٍ غيرِ تقليديّ، ما يُؤكّدُ أنّ العمليّةَ الإبداعيّة هنا تَدورُ في فَلكِ الذّاتِ المحليّةِ، بذاكرةٍ موْشومةٍ بالتّشظّي الداخليّ والحُلم الراغبِ في الالتحامِ، بفِعلِ عوامل رغبويّةٍ تاريخيّةٍ أسطوريّة، كانَ لها إسهاماتُها في إشعاعِ الحُبِّ والأملِ، مُطعّمة برؤيةٍ للعالم والإبداع، بكلّ قدرتها على تغذيةِ التأثيراتِ العميقةِ، وما يُحيطُ بها مِن وجودٍ، جوهرُهُ الذّاتُ الّتي بدونِها لن تستقيمَ العمليّةُ الإبداعيّةُ. لقد ظلّ الجسدُ يَفرضُ ذاتَهُ عبْرَ جُملةٍ مِنَ النّصوص، حيثُ نيرانُ الرغبةِ الّتي تدخلُ عالمَ الأسرارِ طواعية:
أَمَامَ اشْتِعَالِ اشْتِيَاقِي/ أَأَظَلُّ .. أَتَضَوَّرُ شَهْوَةً؟ (ص4)
فِي عَبِيرِ نَهْدَيْكِ .. أَسُووووووحُ/ فيُمْطِرَانِنِي شَوْقًا .. يَتَّقِدُنِي (ص12)
أَنْهَلُكِ.. نَهْلَةً نَهْلَةً .. وَلَا أَرْتَوِي (ص51-52)
وَلَمَّا يَزَلْ طَعْمُ نَهْدَيْكِ/ عَلَى لِسَانِي .. مُذْ كُنْتُ رَضِيعَكِ (ص38)
هنا يتّضحُ لنا اللّقاءُ بينَ مَعنيَيْن؛ المَعنى المادّيّ الصّارمِ، والمعنى المَعنويِّ المُثيرِ لماهيّةِ الشيءِ وجدَليّتِهِ، وبينَ المُفردة والمفردةِ أمورٌ حياتيّةٌ (غامضةٌ واضحةٌ) و (واضحةٌ غامضةٌ)، تستبقُ حالَ الشاعرةِ النفسيِّ، وهيَ تتحدّثُ على لسانِ ديموزي فتتعشترُ له، ما يجعلُ الأفقَ الطقوسيَّ حاضرًا بقوّةٍ، حيثُ الأسطرةُ ذاتُ الحضورِ البارزِ، فهذهِ الطفلةُ الخضراءُ الفينيقيّةُ المُتوقّدةُ /الشاعرة/ بالأحلام المستحيلة، تعزفُ تلكَ الأحلامَ/ وجْدَها/ حُزنَها/ رغبتَها/ بتوَحُّدٍ صوفيٍّ لافتٍ، كما جاءَ في سيرتِها الذاتيّة، يتقمّصُ هذا التّوحُّدُ تراثَ أرضِها الجيوتاريخيِّ، الممزوجِ بصلصالِ هواها المُلفّعِ بالعشقِ الجنونيِّ للعطاءِ اللّامتناهي الّذي تريدُهُ كناسكةٍ، تأخذُها فتنةُ الكتابةِ/ التأمُّلِ وهي تقطفُ عنبَ اللّهفةِ وتَمْرَ المعرفة، فكانَ المزجُ بينَ أسطرةِ الذّاتِ لذاتِها والأسطرةِ الّتي مثّلتْها بشكلٍ جليٍّ قصيدةُ “أُدَمْـــوِزُكِ.. وتَــتَــعَــشْــتَــرِيــن” (ص9)، وكأنّها استرجاعٌ لعشقِ قيس دموزي/ لليلى عشتار، أو روميو لجولييت/ الّتي يَطمحُ كلٌّ منهما أن تُرتّبَهُ:
أُدَمْــــــوِزُكِ .. وتَـــتَـــعَـــشْـــتَـــرِيـــن/ أُلْقِي عَلَيْكِ .. مَلَاءَاتِي الْخَضْرَاءَ/ فَتَسْتَعِيدُ أَعْشَاشِي/ تَـرْتِـيـبَ عَـصَـافِـيـرِهَا/ وَتَتَسَرْبَلينَ .. أَنْهَارَ خُصُوبَتِكِ! (ص21)
لتَتَسَرَّبَ فُصُولُ الْبَنَفَسْجِ/ وَتَتَرَسَّبُ بِرُوحِكِ الْعَشْتَار/ فَلَا يَشْتَعِلُ الْعَوْسَجُ.. بِتَــلَـعْــثُــمِــكِ! (ص21)
الشاعرة هنا/ عشتار/ ليست مفعولة بل فاعلة/، دموزي كوْنُهُ الذي يَتدَمْوَزُ وهي التي تتعشترُ، وبذلكَ تَبيتُ فاعلًا يَملكُ زمامَ المبادرةِ، خارجَ القصيدةِ والعلاقةِ القائمةِ فيما يَجري بينَ إشاراتِ النّصوصِ الّتي تُؤكّدُ حقيقتَها، عبْرَ طرْحِها لجُملةٍ مِنَ الأسئلةِ المبطّنةِ ذاتِ الفاعليّةِ الإجرائيّةِ، الّتي راكمَتْها المعرفةُ الإنسانيّة، وهي تبحثُ في أفقٍ إبداعيٍّ مفتوحٍ على شِعريّاتٍ مُجدّدةٍ ومُتجدّدةٍ، تَساوُقًا معَ تطوُّرِ القصيدةِ الحديثة.
الأفقُ التّطويريّ: لكلِّ حرفٍ عندَ الشاعرة دوْرُهُ الّذي لا غِنًى عنه في الديوان، فلو نظرنا إلى النّصوصِ برَويّةٍ، سنجدُ أنّ تَطويعَ الحرفِ وتَمطيطَهُ أعطى الشّطرةَ الشعريّةَ بُعدًا زمانيًّا إلى الماضي والمضارع معًا، فالحرفُ عندَ الشاعرةِ ليسَ حرفًا عاديًّا، بل ارتكازًا لخدمةِ القصيدةِ، مِن حيثُ تغييرِ الدّلالةِ الشعوريّة للعبارةِ، وأثرها في نفس المتلقّي، مُحمّلة بموسيقى داخليّةٍ ناتجةٍ عن تناسُقِهِ مع غيره مِن الحروف، وقد برزَ ذلكَ في عمليّةِ التّلاعُبِ بالألفاظِ، ما يعني، أنّها انتمتْ في هذا إلى المدرسةِ الحداثيّةِ المُتطوّرةِ بشكلٍ واضح، حيثُ التقطتْ خيوطَها، وطوّعتْ إشعاعاتِها بجدارةٍ كما نرى في:
أَحْلَامِي مُعَلَّقَةٌ .. بَــ ~~ يــْـ ~~نَ .. وُعُودِكِ الْمُؤَجَّلَةِ (ص4)
أَرِفُّ .. أَتَلَأْلَأُ .. وَيَفُوحُ عُشْبِي .. بَلَلًا! (ص8)
أَمْطِرِينِي .. وَلْيَحْمِلِ النَّاسُ الْمِظَلَّاتِ (ص9)
وَبِلَا آلَامٍ .. يَأْتِيهَا الْمَخَاضُ يَسِيرًا (ص11)
فِي عَبِيرِ نَهْدَيْكِ .. أَسُووووووحُ (12)
دَفِيئَتِي .. الْـــ .. عَامِرَةُ بِالْآهَاتِ (14)
مِنْ حَيْثُ تَكُونُ لَذَائِذُهُ .. فِي انْتِظَارِنَا (ص23)
فِي مَدَااااااااكِ الْبَعِيــــــــــــــــــــــــدِ (ص70)
اشْـــتِـــعَـــالَاتُ أَحْـــلَامِـــي (ص72)
لِلْمَقَامَاتِ.. سُبُلٌ مُقَدَّسَةٌ (ص84)
فَغَدَا مَلَاكًا (ص100)
وَيَا أَشْهَى.. مِنْ إِطْلَالَةِ صُبْحٍ (ص100)
بَلِ اُنْقُشِينِي .. قَصَائِدَ صَلَاةٍ (ص125)
أَنَا دُونَكِ “لَا هَارِبَ لِي وَلَا قَارِبَ” (ص134) على كلّ حالٍ، لم تُبدع الشاعرةُ في اختيارِ الألفاظِ والحروف فقط، بل كان الإبداعُ الأكبرُ في اختيارِ العباراتِ وحرْفِ المعاني والكلمات، حيثُ التّنوُّعُ والمُحسّناتُ البديعيّة، والألوانُ البيانيّةُ، والمعنى، وطريقةُ بناءِ العبارةِ بما يَتناسبُ وسياق النصوصِ، ولِما تُريدُهُ الشاعرة كما سنرى.
التحوير الأصل
*لِأَبْقَى .. عَلَى قَيْدِ الْبَرْقِ! (ص8) ——– *لِأَبْقَى .. عَلَى قَيْدِ الحياة!
*دَعِينِي .. أُقَشِّرُ لِحَاءَ عَتْمَتِكِ (ص24)—— *دَعِينِي .. أُقَشِّرُ لِحَاءَ شجركِ
*هَيَّأَ لَهَا طُقُوسَ الطَّرْحِ (ص40) ———- *هَيَّأَ لَهَا طُقُوسَ الفرَحِ
*إِلَى أَقْفَاصِ سَعْدِي (ص41) ———— *إِلَى أَقْفَاصِ صدري (ص41)
*هَالَتُهَا قَارُورَةُ شِعْرٍ (ص49) ———— *هَالَتُهَا قَارُورَةُ خمر
*مَوَاسِمُ حَنِينِي.. كَفِيفَةٌ (ص141) ———- *مواسم عيوني كفيفة
*مُــجَــوَّفٌ لَــيْــلِــي (ص75) ————— *مجنون ليلي
*هَا ابْتِسَامَتُكِ مَمْشُوقَة الْوَجَعِ (ص140) ——- *هَا قامتُكِ مَمْشُوقَة الْقوام
*اُقْطُرِي بُؤْبُؤِ جَرحِي نَدَى زَلَالًا وَاشْفِينِي! (ص123) *اُقْطُرِي بُؤْبُؤِ عيني نَدَى زَلَالًا
الأفقُ التّكامليّ: التّكاملُ الأسلوبيُّ المَعرفيُّ والرّؤيويُّ في هذا العمل واضحٌ للعيان، حيثُ يُشيرُ مفهومُ المُفارقةِ: إلى الأسلوبِ البلاغيّ الذي يكونُ فيهِ المعنى الخفيُّ، في تَضادٍّ معَ المعنى الظاهريّ وبشكلٍ حادّ، وكثيرًا ما يَحتاجُ ذلكَ إلى كدّ الذهنِ وشحْذِهِ في تأمُّلٍ عميقٍ، للوصولِ إلى التّعارضِ بينَ المعنى الظاهرِ، وذاكَ الخفيِّ الغائصِ في أعماقِ النصّ، وكشْفِ دلالاتِهِ وفضاءاتِهِ البعيدةِ، بما يَشُدُّ الانتباهَ إلى خلْقِ التوتُّرِ الدلاليّ في القصيدة، عبْرَ التّضادّ في الأشياء، والّذي لا يأتي فقط من خلالِ الكلماتِ المثيرةِ والمُراوغةِ في السّياق، بل عبْرَ خلْقِ الإمكاناتِ البارعةِ في توظيفِ مفرداتِ اللّغةِ العاديّةِ واليوميّة، وهنا يَبرزُ دوْرُ اللّغةِ الّتي هي عندَ الشاعرة ليستْ وعاءً للمعنى فقط، بل تَجاوزتْ ذلكَ، لِتُصبحَ رسْمًا شعوريًّا وربْطًا بينَ أكثر مِن ذات، رغمَ ما يبدو ظاهريًّا، حيثُ/ الأنا والأنا الأخرى/ فقط، وهي عمليّةٌ صعبةٌ، والأصعبُ فيها أن تحدثَ بامتيازٍ وعلى طولِ جسدِ الدّيوان، دونَ خللٍ بينَ ذاتيّتيْها، هكذا تظهرُ إشعاعاتُ الأفقِ التّكامليِّ المَعرفيّ.
ذاكَ الأفق الرُؤيويّ أبرزَتْهُ قصائدُ هذه المجموعةِ الّتي مثّلتْ وجهًا آخرَ مِن وجوهِ العالم الشعريّ المُعقّد، فهي تكتبُ تلكَ المَلامحَ المُتناثرةَ في جُملةِ قصائدِها، لتَصِلَ بها إلى عالمٍ كلّيٍّ لا يُصبحُ حاصلَ جَمعِها، بل حاصلَ جدَلِها وتَعميقِها وتَطويرِها بالمعنى الشّامل، هي بمعنًى آخَر؛َ رؤيةٌ شاملةٌ لكينونةِ الوجود/ الحُبِّ والتّلاحُمِ، حيثُ الاستمراريّةُ/ والعدم- الابتعاد عن التلاحم، ما يعني الالتحامَ التّكامُليَّ بينَ (السالب/ العاشق/ دموزي)، والمعشوق الموجب/ عشتار)، والامتدادَ نحوَ همومِ الإنسان بشكلٍ عامّ، فهيَ حكايةُ كلّ زمانٍ ومكان، حيثُ الاندغامُ المرغوبُ بينَ الأنا مع أناها الأخرى، بالانطلاق والتقدُّم نحو (الماء/ النهر/ الغيم/ النجوم/ الأقمار)، حيثُ رؤيةُ العالم الداخليّ والخارجيّ معًا صفاءً وامتدادًا للصوتِ الّذي يَتردّدُ مُتقطّعًا ومُختلطًا في النصوص، وكأنّهُ يَجترُّ نفسَهُ في كلّ مرّةٍ كما في قصيدة “رَعْشَةُ أمْسِي”:
شِعْرُكِ.. خَرَائِطِي.. رُوحُكِ.. بُوصَلَتِي/ فَلَا تَقْلِبِي.. ظَهْرَ النَّهْر/ وَ بَـ~يْـ~نَ ظِلَّيْنَا/ دَعِيهِ يَــــجْــــرِي/ لِأُتَــوِّجَــكِ.. مَلِيكَةَ كُلِّ الْكَوْنِ (ص62)
بناءً على ما تقدّمَ، نستطيعُ التأكيدَ كيفَ حملتْ هذه النّصوصُ بكفاءةٍ مُثلى دهشةَ المفاجأةِ بدرجاتِها المُختلفة، والتي تستطيعُ الادّعاءَ أنّها أينعتْ مِن شجرةِ الحداثةِ الإبداعيّةِ، والّتي تجاوزتْ نصوصُها كلَّ ما هو كلاسيكيٌّ مُبتذَلٌ، في نصوصٍ تحملُ بكليّتِها ما هو أقربُ إلى الحرائقِ الّتي تَنشُدُ ضيقَ السّعةِ وسِعةَ الضّيقِ لصوْتيْنِ مُتنافريْنِ مُتداخليْن، (الشاعرة العاشقة) في صوتٍ واحدٍ (النصّ).
ولأنّ الشاعرَة كما ترى د. أسماء غريب هو الصّوتُ النّاطقُ للصّامتِ فينا، تَجنحُ نصوصُهُ للدّفاعِ نحوَ الاستيقاظِ الفَجريِّ للعشقِ المُلتهب، لذلكَ جاءَ النصُّ ليَبنيَ لغتَهُ مِن خلالِ التّدفُّقِ المُستحيل لكلِّ لذائذِ اللغةِ، كما يرى بارت، ومِن ثمّ يَبدو فردوسيًّا في بحْثِهِ عن فردوس الكلمات، وطوباويًّا دون مكان، الاختلاف فيه توافق، وتوافقه اختلاف، في تفاعلٍ شفّافٍ ومُطلق معَ الأنام، ودلالات المَسار للهُويّة الجماليّة، كما أكّدت القصائد التي تطرّقنا إليها، والمُرتبطةُ موضوعاتُها بعقدٍ واحدٍ/ تبتُّل دموزي لعشتار وعشقه اللّاهب لها، ما جعلَ الرؤيةَ الأنويّةَ هي الحالة المهيمنة على معظم قصائد الديوان، حولَ بوْح القصائد الّتي تسربلتْ برداءِ الذكورةِ الحالمةِ الطامحةِ للالتقاءِ بالأنوثةِ الناعمةِ الفاتنة، حتّى التوحُّش والشهرزاديّةِ في أغلب التّجسيدات، والذي يُشعُّ عبرَهُ نورُ القصائدِ الطاغي الوهّاج، فوقَ نقاطِ بياضِ الورق.
وأخيرًا، لا يَسعُنا القولَ سوى أنّ الشاعرة آمال عوّاد رضوان لديها تجربةٌ تقتحمُ عوالمَ إنسانيّةً رحبةً، تتوشّحُ بأسئلةِ الذات، وحُرقتُها مُتواشجةُ الانشغالِ الإبداعيِّ، الّذي يَرومُ الخَلْقَ والابتداع، ولا يَركنُ للسائدِ النمطيِّ في الشعريّةِ العربيّة، وبلغةٍ استطاعتْ عن طريق التكثيف والتبئير، أن تُؤطّرَ موْضوعَها العشقيّ/ الأدمزةَ والالتحامَ والتعشتُرَ، وتُحوُّلَهُ إلى قضيّةٍ فكريّةٍ تُوسّعُ معناهُ، باستحضارِ كلِّ حكايا العشقِ النظيفِ والشهرزاديّ، وتَحرُّرِ القارئِ مِن عسفِ التأويل، حيثُ تمتمةُ إحساسٍ واضحٍ بالإبداعِ الجميلِ المُكتملِ، كما رأينا في هذا العمل (أُدَمْوِزُكِ وَتَتَعشْترين).