النزاع وراء الحدود مظهرُ تحدٍّ بين الأمم. النزاع داخل الحدود مظهر انهيارٍ سياسيٍّ.
الأول يصطفّ فيه الشعب بأكمله ليقاتل المحتلين. الثاني ينقسم فيه الشعب إلى طوائف وجماعات وعصابات ومليشيات وأحزاب (كلّ حزبٍ بما لديهم فَرِحُون).
الأول عرفه آباؤنا وأجدادنا وهم يرون الإيطاليين يخترعون لدولتهم شاطئاً رابعاً، ثم يرون الفرنسيين وهم يخترعون لدولتهم صحراء أكبر من دولتهم بعشرة أضعاف. وكانت المحصّلة ملحمةً جهاديةً كبرى.
الثاني عرفه أبناؤنا وهم يُقَاتِلون فينتصرون فيَتَقاتَلون. وبعد أن مات “العدو” أصبحت الحرب دَيْدَناً، وكانت المحصلة “حرب الجميع ضد الجميع”.
هذه العبارة أطلقها الفيلسوف هوبز وهو يصف المجتمعات البدائية التي لم تكتشف بعد نظاماً تعاقدياً يحظى بالاتفاق، وفي هذه الحالة فإن الحروب الصغيرة، بل الضئيلة، لا تتلاشى تدريجياً كلّما ضؤلت أكثر، بل تصبح بوابةً للمفاجآت التي يهيّئ الناس أنفسهم لقبولها مسبقاً، وربما تصبح أيضاً مبرّراً للاستبداد أمام صمت الجميع وقد أنهكتهم الحروب وشتّتت أفكارهم.
كأن “هوبز” عندما أطلق هذه العبارة إنما كان يعني الليبيين، ولكن الليبيين الذين قتلوا اللوياثان لم يقرؤوا هوبز، ولا يهمّهم ذلك، وهم أيضاً ليسوا في حاجة إلى أن يقرؤوا شيئاً.
إنهم الآن يصنعون “الكاوس” الخاص بهم، أو حالة الفوضى المطلقة، فكلما تسارع الانهيار السياسي ازدادت الفوضى الاجتماعية وأصبح الناس غير قادرين على البدء من جديد، والبناء من الصفر، كما كانوا يحلمون.
هناك أوقاتٌ تكون فيها الأطراف المتنازعة غير قادرة على أن تفهم أسباب النزاع، لأن كلّ طرف، أو فريق، أو جماعة، أو.. أو..، يظن أنه الوحيد الأجدر بالبقاء، بل يعتقد أنه الليبي الوحيد، وأن الآخر “دخيل” أو “مهجّن” لا يحق له الحديث كمواطن.
كل مَن يتحدّث يعتقد أنه “المواطن الوحيد”، وأن الآخرين لا هويّة لهم. أما موارد الدولة فهي جائزة من يُثبِت ليبيّته دون الآخرين.
أتذكر كلمة سمعناها جيداً من البروفسور الكيني علي المزروعي قال: عندما كان الغربيون هنا كان الصراع حول: مَنْ يملك ماذا؟. وعندما غادر الغربيّون أصبح الصراع حول: مَن يكون مَن؟.
هذه الكلمة تصيب الهدف، وإذا أخذتَها على منحى التساؤل فأنت لا تستطيع سوى أن تفكّر في إجابة واحدة: عندما يكون الصراع قومياً فإنه يدور حول الموارد، وعندما يكون داخلياً فإنه يدور حول الهويّة.
لم يبدأ الليبيون حربهم لأنهم كانوا فقراء، بل لأنهم رفضوا الاستلاب باسم تأكيد الهويّة، ورفضوا الاستعباد باسم الحرية. أما الآن فلليبيين معادلتهم الخاصة: إثبات الهوية يعني الاستئثار بالموارد.
يرثي المرء لحال الأخوة الذين يتنازعون حول الموارد، ويرثون هم لحال ذلك الذي لا يعرف أنهم ليسوا أخوة.
____________
نشر بموقع الأيام