المقالة

الأفعى المجنحة .. تجربة ليست للاقتداء

من أعمال التشكيلي المغربي خليل بوبكري (الصورة: عبدالمجيد رشيدي-المغرب)

التعدد، والتفكيك او حتى فرق تسد، ذلك كان معول النهضة الاوروبية ضد احادية وجبروت الكنيسة، فلقد رأى فنانوها ومفكروها ان احياء ثقافة التعدد التي قادت الثقافة اليونانية الى الخلود كما كانوا يرون لابد ان تكون خطوتهم الاولى للخروج من انفراد الكنيسة بكل شيء، كان التعدد كلمة السر الاهم لتلك النهضة والرقي، فتعدد الالهة واختلافها وأحيانا صراعها وتنافسها كان لصالح انسان تلك الحضارة رغم كل شيء.

من ذلك الوعي انطلق فنانو ومفكرو عصر النهضة يعيدون احياء ذلك التعدد ويضعونه ايقونات ضد ايقونات الكنيسة الاحادية والمنفردة بكل التقديس، وفعلا نجح اولئك الرواد في تفكيك الكنيسة والاهم في ضرب الاقطاع في مقاتله وتفكيك امبراطوريته الى دول تستمد شرعيتها من الشعب ولا تتبع قوة متعالية.

في بدايات القرن العشرين يكتب الانجليزي ” ت. ه. لورانس” روايته “الافعى المجنحة” وهي رواية فاشلة بكل المقاييس فلم تثر ضجة كما فعلت روايته “عشيق الليدي تشاترلي” ولم يهتم بها النقاد كما فعلوا مع روايته الاولى “ابناء وعشاق” فهي لم تكن فضائحية كعشيق الليدي تشاترلي” لتمنعها المحاكم الانجليزية من النشر ولم تكن تصور حياة عمال المناجم الانجليز الشديدة البؤس لينتبه لها النقاد الانجليز كما فعلوا مع ابناء وعشاق والاهم انها كانت رواية انجليزية عن المكسيك.

انا وقعت في غرام هذه الرواية الفاشلة حين قابلتها اول مرة في سجن الكويفية عام 1978م بعد ان كنت قد قرأت غالبية اعمال هذا المهووس بالجسد والدم الساري في شرايين وعروق النساء والرجال، وتلك “الفرمونات” التي لا تتوقف عن اصدار نداءات وفحيح التزاوج والتخصيب كرسائل من دم الانثى الى دم الرجل والاهم  نداءات مسيحية اوروبا لكنيستها الباردة والعاجزة عن الفعل وحنين “مسيح ” تلك الكنيسة الى وهج “كاترين” صحراء سيناء لتكوي بأصابعها الحارة جراح صليبة النازفة، لذا فان مسيح انجلترا وحين ينهض من قبره يرحل هربا من البرد والموت الإنجليزيين الى “سانتا كاترين” لتعيد بشموس جسدها وروحها الحياة والخصب لجسده الميت بردا.

كل ذلك يفعله بطل “الافعى المجنحة” المكسيكي، ذلك المثقف الاشتراكي الفوضوي الذي يحلم بنهضة المكسيك ويرى الكنيسة وثقافتها الاوحادية والدوغمائية العقبة الكارثة ضد اي محاولة للنهضة وتحقيق العدالة، لذا يسعى وبما يملك ذلك الاشتراكي الفوضوي من ثروات كبيرة الى مواجهة الكنيسة وثقافتها بإحياء اساطير وفنون ومهرجانات الوثنية المكسيكية المتعددة الايقونات والمقدسات، ليسري الدم المكسيكي حارا في عروق الامة والذي جمدته برودة مسيحية الأوروبيين الباردة التي دفنت الجسد في تابوت طابوهات العذرية.

كان “نداء الدم” وغناء الفرمونات ورقص “انزيمات الشهوة” ابطال مهرجانات الخصوبة التي كان يقيمها ” د. ه.لورانس” عبر نثره وشعره وقد اكتظت بها رواية ” الافعى المجنحة”، كانت محاولات يائسة لضخ الدم في عروق جسد ميت بنفخ اجساد عفية نابضة في روح محنطة في تابوت، ان على الجسد ان ينهض وينفخ بدف دمه في الروح المحنطة لتنطلق في الرقص في مهرجان الحياة وان على الروح  ان تنهض و ان تستجيب لطرقات ذاك الدم على باب تابوتها وان تتوزع في اجساد كثيرة بدل جسد محنط واحد، تلك رسالة “د. ه. لورانس ” المتكررة في غالبية شعره ونثره، اعتقد ان اليوناني “كزنتزاكي” ظل يكرر نفس رسائل لورانس بشكل او باخر ، واعتقد ان المثقفين العرب كانوا يرددون على استحياء كل ذلك حين كنت  اقع في غرام تلك الرواية عام 1978 بسجن الكويفية رغم نحالة وهشاشة جسدي وامتعاض روحي من كل تلك الهشاشة.

كان الجميع يحاولون ضخ الدم واطلاق نداءات الفرمونات ورقص الانزيمات في جسد امة يتفتت جسدها وتتحنط روحها، كان الاشتراكيون يحالون اطلاق “أبوذر الغفاري” من سيبيريا الاقطاع، وكان الليبيراليون يطلقون سياط المعتزلة على ظهر “ابن حنبل ” وكان الوجوديون يهذون بأشعار الحلاج وابن عربي، وكنت اقع في غرام رواية فاشلة لإنجليزي مهووس بالجسد ونداء الدم، وكانت بنادق الاشتراكية بأيدي البدو تحرس سجني، كان “زيفاجو” يصارع نوبة اختناق في عربة قطار اشتراكية ستالين، وكانت افعى لورانس المجنحة بين يدي متوهجة حارة تطير بي نحو التعدد والتحول بعيدا عن سيبيريا “أبوذر ” وسياط المعتزلة فكلها كانت تحج من ” الواحد” الى ” الاوحد” وتبتعد في كل صفحة عن التعدد والتنوع. اما هذه الفاشلة الممتلئة بالأشعار والاغاني والزوائد والعيوب الفنية، هذه السمينة المفاضة بالحشو والاستطراد فإنها ملاكي الادبي، ظلت تطعن بهذرها الدبق كل مذاقاتي التي تعلمت وتلون غبش بورخيس بألوان جوتو وانجلو وتزين شراع “دالي” بصورة جالا الخائنة، كانت تلك الفاشلة مهرجانا هنديا للألوان واللذائذ،

 اقول الان وقد تجاوزت الستين من عمري الصدئ كما يقول “خليفه الفاخري “

اي هلوسة اغرقني فيها ذاك الانجليزي المهووس وهذا المكسيكي النهم للحم والرقص والتعدد والفوضى حتى بدا لي “زارا النيتشوي” ممثلا فاشلا لدور شرقي لا يعرفه.؟

كانت تلك الغنائية وذلك الهذر الملون الراقص بحر نجاتي لسنوات طويلة من الجمود ومن صخب الصمت، لكنها كانت ايضا مرشدي نحو هذا الهشيم، هشيم اللذائذ التي لم اذق، مقبرة زاردشت الألماني وحذاء هتلر المهووس ايضا بالدم والجسد…

مقالات ذات علاقة

هك ولا يناموا

عوض الشاعري

ما ضاع حق وراءه مطالب

المشرف العام

ذكريات طرابلسية (5)

مهند سليمان

اترك تعليق