النقد دراسات

البناء النصّي في شعر عبدالمنعم المحجوب (13) .. عداء الأمكنة وقوس التحولات

بقلم: فضة الشارف

 

3- المكان المعادي:

ظل المكان في النتاجات الإبداعية محور جدل بين الباحثين، و ((لعل هذا الحيز سمى نفسه أو سماه الفكر مكاناً، وبين الذات والآخر يكون فعل الألق فاعلاً، فيستحيل المسمى إلى كائن آخر، حاملاً دلالة أخرى قد تصير دوالاً، لكنه قد ينبتّ في الآن ذاته عن أصل التسمية، هذا ما يمكن أن يتحقق في فعل المكان ومداه، فيغير خصائصه، مكتسباً خصائص أخرى أكثر بعداً وأقدر فعلاً على استدعاء التسميات))([1])؛ فيغدو المكان الأليف معادياً، وقد يكون العكس، إذ ((إن السؤال المعرفي المطوح بالصمت، والباحث عن إجابات قد تتجاوز حد الأفق، ولكنها لا تعيش غبطة المتاه، يتجلى في هذا الانبناء الذي يشيده المكان وبه يتشيد))([2]).

أثبتت التجارب أن الإنسان هو بؤرة هذا الانبناء، ((الإنسان الذي انشغل بالبحث عن الذات وموضوعها، فكان ذاتاً وموضوعاً في آن؛ لذلك رأى المناطقة أن الإنسان حيوان ناطق، ووجده علماء الاجتماع مدني الطبع، وخبره البايولوجيون بأنه كائن حي، لكن الأديب الملتف بنار الإبداع والمكتوي بلظى سناها قال إن الإنسان مخلوق في حيز هو المكان المغطى بتباريح الزمان))([3]).

من هنا نسعي لملامسة الكيفية التي يتخلى فيها المكان عن بعض خصائصه؛ ليكتسب خصائص أخرى، من بينها كيف يكون المكان الأليف معادياً، وهو يسهم بفاعلية في بناء النص الشعري وإنتاج دلالته، ذاك ما نرمي إليه في شعر عبد المنعم المحجوب موضوع القراءة.

1.3- بئر الأوهام:

تتماثل الأعماق في الطبيعة وفي الإنسان، فإذا كانت البئر مصدر حياة في كثير من الأحيان، فإنها تشكل في الآن ذاته مصدر أوهام تشي بالظلمات، مثلها مثل النفس الإنسانية التي تبوح بقدر ما تخفي فتجسد معاني الأعماق. هكذا نقرأ في هذا النص:

قمرٌ دائماً في القاع

البئر برجٌ افتراضيّ

أوديةُ أيْدٍ

تنتظمُ في الغناء

أحياناً تضمرها شجرةٌ

في ابتهالِ مزيدٍ من الهواء

أو في الجذور

من أجل العزلة لذاتها.

تنطوي الأشياء على مائها.([4])

من الإضاءات في فضاء نص عبدالمنعم المحجوب الإشارة إلى المكان المعادي (المغلق) الذي يوحي بتوالي الأحداث في مكان مغلق وضيق ((فالإشارة إلى المكان تدل على أنه جرى أو سيجري به شيء ما، فمجرد الإشارة إلى المكان كافية لكي تجعلنا ننتظر قيام حدث ما، وذلك أنه ليس هناك مكان غير متورط في الأحداث))([5]).

إن مثل هذا التورط في الأحداث بفاعلية بناء نص شعري متكامل عبر علائق مكانية مميزة (القاع / البئر / البرج) تنتج دلالات تنبئ عن توليد معاني جديدة لقراءة جديدة لهذا النص. فالبئر عادة تمثل ذلك المكان المهجور المغلق الذي لا يتسنى فيه للحرية أن تكون، ولا الانفتاح ينحقق، وكذلك البرج الافتراضي، لكن الشاعر يبين هيئة وصورة القمر البعيد المنال الذي يحتل مرتبة عالية في المكان الأليف (السماء) وهي منعكسة في المكانين الأليف والمعادي بارتباط الأحداث فيهما، وهذا يذكر بقصة سيدنا يوسف عليه السلام الذي انتقل من المكان الأليف (البادية / القصر في مصر) إلى المكان المعادي (البئر – السجن) فوجد حريته في (البئر والسجن) أكثر من حريته في بيته، أو في قصر الملك، وبذلك تكون الأماكن قد غيرت قيمها من السلب إلى الإيجاب والعكس بالعكس، لكن هذا لم يتجل في شعر عبدالمنعم المحجوب الذي ظل فيه المكان معادياً منغلقاً على كيانه.

كل هذه الأمور تؤول إلى أن المكان ليس مجرد إطار للأحداث، إنما هو عنصر فعال من العناصر البانية للنص، والمسهمة في إنتاج دلالته.

2.3- القبر اللامع:

يرتبط القبر بذاكرة الإنسان ارتباطاً مخيفاً، لأنه يذكّر الإنسان بذلك الكائن المرعب الذي اسمه الموت، فهو يرتبط بوعي الإنسان الذي يستشعر تفتت أعضائه حين يداهمه هذا القادم من دون موعد، لذلك لا يكون لمعان القبر ذا فاعلية إيجابية، لأن النهاية واحدة وهي معانقة ظلمة القبر، ومن ثَمَّ التلاشي، هذا ما نتابعه في النص التالي:

إذْ

تغادرُ

الشمسُ

جبالَ

الشرقِ

إذ تسْدُرُ غرباً

تغدو بعرضِ قدم

إذْ أَتحوَّلُ

تصبح الشمسُ قبريَ اللامعَ

كلَّما غادرتُ الشرقَ أُبعثُ فيه.([6])

قد تستدعي الذات الكاتبة عناصر مشوقة تثير ذهن القارئ فتشد انتباهه فاستدعاء المكان المعادي في نص عبدالمنعم المحجوب يروج لتحليل نفسية الذات الكاتبة، إذ إن مغادرة الشمس قبرها اللامع الذي تبعث فيه كلما تغادر ذاتها. كل هذه الأمور تستحضر المكان المعادي في صورة مأساوية متشابهة تنبئ عن الموت.

فمغادرة الشمس توحي بحزنها، وحزن الشمس هو حزن الطبيعة، وحزن الطبيعة هذا يعكس حزن الذات الكاتبة، وهذا ((يجعل للمكان دلالة تفوق دورة المألوف كديكور أو كوسيط يؤخر الأحداث))([7]). إذ إن القبر مكان مغلق إلا أننا نجده متصفاً باللمعان ومنسوباً للذات الكاتبة (قبري)، وفي هذا النسب استحضار لانشطار الذات التي تنبئ عن قوة إيجابية تحملها ألفاظ النص ترتبط بفاعلية هذا المكان المعادي، المجسد للصراع بين الذات الكاتبة وموضوعها، وما ينتج عن هذا الصراع من دلالات شعرية.

3.3- قوس التحولات:

لا يستقر المكان على حال أبعاده الدلالية حينما يغدو موضوعاً شعرياً، لأن الشعر يلعب بخصوصية الأشياء؛ ليصيرها جزءاً من بنائه هو، لا بنائها هي، من هنا نجد بعض الأماكن تكتسب قيماً أخرى غير تلك التي تتمتع بها في وجودها الطبيعي، ذاك ما يمكن تلمسه في النص الآتي:

أرفعُ الغَضَارَ بين أصابعي

انحناءُ الكهفِ قوسُ أزمنةٍ.

أساطيرُ هامدةً هناك

تطلّ من الشقوق.

كلّما أُثبّتها

تترك قطعانٌ من الوعولِ

والضباء جدرانها

وتسيل.([8])

تتفق أبواب جديدة للدخول إلى زوايا النص الشعري، كلما استعرضت الذات الكاتبة كما من العناصر الدلالية التي تكسب النص صفته الإنتاجية، ومن هذه العناصر عنصر المكان المقوس (الكهف) الذي وظف مكانياً زمانياً بوصفه لأزمنة وأحداث تجري في ثنايا النص لتزيده عمقاً ودلالة.

تعبر الذات الكاتبة بعدة ألفاظ تنم عن عداء المكان: (أساطيرها مدة تطل الشقوق / تترك قطعان من الوعول والظباء جدرانها وتسيب) فتبرز مدى فاعلية ضيق هذا المكان المغلق لأن الصورة الكامنة في النص عبر تجليات المكان هي التي تطفو في داخل المتلقي وتعبر خفيفة فأقل القليل منها يكفيه([9]) حيث تنفتح أمامه منطقة للتجول في مركز النص الشعري وضواحيه.

تنبئ قراءة النص عن أن (الكهف) لفظة محورية تعمل على نشر دلالات ألفاظ النصّ الأخرى نجوماً منثورة في سمائه؛ لأن الكهف يعبر عن قراءة انتربولوجية بها يصير زماناً غابراً ومكاناً حاضراً في فعل الوجود الإنساني، وفي انتقاله من مرحلة البدائية إلى مرحلة التطور الآني، ذاك ما سعى إليه الشاعر وهو يشيد نصه لافتاً إلى أن اليوم ربما على مستوى التقدم العلمي لم يكن إنسانياً أفضل من الأمس الذي كان يلوذ الإنسان فيه إلى الكهف، فكأن الشمس لا تبرح موقعها إذ تعاود دورتها يومياً لهذا الكهف الإنساني، بيد أنها لم تتمكن من إضاءة عتمته على الرغم من عظم وهجها، فتكون الحركة سكوناً، ويظل المكان معادياً، وإن كان علاقة للملاذ.

___________________________________

[1]– محمد عبدالرضا شياع- المكان السايكولوجي في قصة هل تسمعون حكايتي؟ لعلي مصطفى المصراتي، ص: 34.

[2]– المرجع نفسه، الصفحة نفسها.

[3]– المرجع نفسه، صص: 34- 35.

[4]– عبدالمنعم المحجوب. عزيف، ص: 57.

[5]– خالد الكركي. الحداثة والتجسيد المكاني، ص: 125.

[6]– عبدالمنعم المحجوب. كتاب الوهم، ص: 52.

[7]– بيار غيرو. علم الدلالة، ص: 15.

[8]– عبدالمنعم المحجوب. عزيف، ص: 49.

[9]– انظر: غاستون باشلار. جمالية المكان، ص: 60.

مقالات ذات علاقة

جماليات السرد في القصة القصيرة.. قصة الذاكرة لإسماعيل القائدي أنموذجا

عبدالحكيم المالكي

الشاعرة الليبية آية الوشيش: معانقة الحلم والسخرية من بشاعة الواقع..

المشرف العام

الْـقَـوْقَـعَـةُ .. تَـحْـمِـلُ رَمْـزِيّـة وَطَـنٍ

المشرف العام

اترك تعليق