دراسات

أجدابية.. بلد الشعراء والأدباء والمثقفين

د. محمود عمار المعلول

موقع مدينة اجدابيا (الصورة: عن الشبكة)
موقع مدينة اجدابيا (الصورة: عن الشبكة)

التعريف بالمدينة:

مدينة أجدابية هي إحدى المدن الليبية العريقة، تقع في شرق ليبيا وفي ملتقى طرق القوافل التجارية القادمة من الجنوب، مما جعلها منذ القدم ذات موقع ومكانة مهمة للتواصل بين الشرق والغرب، وقد بلغ عدد سكانها سنة 2020 م حوالي (416.000) نسمة، وذكر أجدابية كثير من المؤرخين العرب المسلمين والأجانب، يقول عنها الشيخ الطاهر أحمد الزاوي (1890 ـ 1986 م) في كتابه معجم البلدان الليبية : أجدابية بلد من بلاد برقة، وهي مدينة قديمة كانت مشهورة في القرون الأولى من حكم العرب، وقد أنشئت في مكان مدينة رومية قديمة، ووجد فيها من آثار الروم ما يدل على ذلك، ويضيف وهي مقامة على أرض منبسطة صلبة، وآبارها منقورة في هذه الأرض…. وعرفت بأنها مركز تجاري لتوسطها بين برقة وفزان وطرابلس والكفرة.

الفتح الإسلامي لمدينة أجدابية:

اختلف المؤرخون المسلمون حول الفتح الإسلامي لليبيا بداية من برقة حيث اختلفوا هل عقبة بن نافع (631 ـ 683 م) هو من بدأ الفتح حيث بدأ بفتح برقة ثم لحق به عمرو بن العاص (577 ـ 664 م)؟ أم إن عقبة جاء مرافقاً في حملة عمرو، واستدلوا بأنه كيف يفتتح عقبة برقة ثم يصالح أهلها عمرو بن العاص؟ ويفرض عليهم مبلغ (13) ألف دينار كجزية، ولم يفرضها عليهم عقبة، كما اختلف المؤرخون حول سنة الفتح، بالإضافة إلى اختلافهم حول الفتح نفسه هل كان صلحاً أم عنوة وهل حدث قتال أم لا؟، كذلك هل كانت أجدابية تابعة لبرقة أم منفصلة عنها؟ بمعنى إن المقصود ببرقة هل هو الإقليم بأكمله وما يتبعه من مدن فبرقة تطلق على الإقليم الشرقي بأكمله، أم المقصود ببرقة مدينة برقة (المرج) نفسها؟

وتجدر الإشارة إلى إنه في زمن الرحالة العبدري (مرجح وفاته سنة 720 هـ / 1320 م) اسم برقة كان يطلق على الأرض وليس المدينة، وهي من غربي أجدابية إلى الإسكندرية في (40) مرحلة.

مدينة اجدابيا (الصورة: عن الشبكة)
مدينة اجدابيا (الصورة: عن الشبكة)

يذكر المؤرخ ابن عبد الحكم في كتابه فتوح مصر وإفريقية إن عمرو بن العاص سار بخيل حتى قدم برقة، ويوافقه على هذا الرأي المؤرخ ابن سعيد في كتابه المغرب في حلي المغرب، أما المؤرخ البلاذري فيذكر في كتابه فتوح البلدان : إن عمرو بن العاص عندما فتح الإسكندرية سار في جنده يريد المغرب حتى قدم برقة، ويحدد المؤرخ الطبري سنة 21 هـ سنة الفتح، أما ابن عذارى المراكشي في كتابه البيان المغرب فيذكر إن سنة الفتح هي سنة 20 هـ بعد فتح مصر، أما المؤرخ المقريزي في كتابه المواعظ والاعتبار فيذكر ثم سار عمرو بن العاص إلى الإسكندرية سنة 20 هـ…. في ربيع الأول منها فحاصرها ثلاثة أشهر ثم فتحها عنوة وهو الفتح الأول، ويقال بل فتحها مستهل سنة 21 هـ /…… ثم سار عنها إلى برقة فافتتحها عنوة، فهو بالنص السابق يجعل فتح مدينة برقة بالقوة أي عنوة وليس صلحاً، ومن ناحية تاريخ الفتح هناك من يرى سنة الفتح هي 23 هـ، ويميل المؤرخ الليبي محمد مصطفى بازامة (1923 ـ 2000 م) في كتابه تاريخ ليبيا في عهد الحلفاء الراشدين إلى أوائل سنة 22 هـ كتاريخ لفتح برقة، ويذكر الشيخ الطاهر الزاوي (1890 ـ 1986 م) إن المسافة بين برقة والإسكندرية تقدر بحوالي (20) يوماً، كما يذكر الشيخ الطاهر الزاوي إن عمرو بن العاص سار إلى طرابلس على طريق الساحل وهو آمن أن يؤتى من الجنوب لوجود عقبة في الجنوب، كما أمن عقبة أن يؤتى من الخلف أو الشمال لوجود عمرو في الشمال، وقد خلف كل منهما برقة، وعقدا معها الصلح، وأصبحا معها في أمان، وهي خطة حربية حكيمة دلت على مهارة عمرو وعلمه بقيادة الحروب.

والوحيد فيما نعلم ياقوت الحموي في كتابه معجم البلدان الذي انفرد بذكر فتح أجدابية وارتباط الفتح بمبلغ (5) ألاف دينار، مع إضافة عبارة وأسلم كثير من بربرها، فهل يشير المبلغ المذكور إلى عدد الذين لم يدخلوا في الإسلام من أهل أجدابية وقاموا بدفع الجزية، أو إنهم في البداية لم يسلموا ودفعوا هذا المبلغ ثم أسلموا بعد ذلك.

تذكر المصادر والمراجع إن الصحابي عمرو بن العاص عندما تمكن من فتح الإسكندرية قرر التوجه نحو برقة (المرج)، وتتفق معظم المصادر إن برقة فتحت صلحاً بدون قتال، وإن أهلها عاهدوا عمرو بن العاص على دفع مبلغ (13) ألف دينار، وهناك من فسر هذا المبلغ بإنه يمثل عدد الحالمين ممن بلغوا سن الحلم، ومنهم المؤرخ ابن عذارى المراكشي إذ يذكر إن الجزية كانت ديناراً عن كل حالم ممن بقي على دينه وهو المسيحية.

ثم تابع عمرو بن العاص سيره بالطريق الساحلي متوجهاً نحو مدينة طرابلس وفتح في طريقه كل مدن الساحل توكرة وبرنيق وكانتا عبارة عن أطلال حتى وصل إلى أجدابية فصالح أهلها على (5) ألاف دينار كما يذكر ياقوت الحموي، وقد أسلم معظم أهلها، وبينما عمرو بن العاص متوجهاً نحو طرابلس كلف عقبة بن نافع الذي تذكر بعض المراجع إنه ابن خالته وبعضها يذكر إنه أخوه من الرضاعة، بالتوجه نحو زويلة بالجنوب فوصلها وقام بفتحها، وزويلة كما يذكر الشيخ الطاهر الزاوي بفتح الواو وكسر الزاي مدينة من مدن فزان القديمة تبعد عن مدينة طرابلس إلى الجنوب الشرقي بنحو (770 كم) وبقربها من الجهة الشرقية قبور للصحابة الذين استشهدوا في فتحها، وعندئذ كتب عمرو بن العاص إلى الخليفة عمر بن الخطاب بأخبار الفتح، وإن ما بين زويلة وبرقة سلم كلها حسنة طاعتهم، وقد أدى مسلمهم الصدقة وأقر معاهدهم بالجزية، وقد أمر الصحابة الفاتحون بأن تؤخذ الصدقة من الأغنياء فترد على الفقراء.

صورة قديمة لمدينة اجدابيا (الصورة: عن الشبكة)
صورة قديمة لمدينة اجدابيا ؤ

السيطرة الفاطمية:

سيطر الفاطميون على شمال إفريقيا (296 ـ 322 هـ / 909 ـ 934 م) ويشير المؤرخ ابن عذارى المراكشي إلى سيطرتهم على ثلاث مدن ليبية قبل احتلالهم لمصر وهي (سرت ـ أجدابية ـ برقة)، بالإضافة إلى طرابلس التي كانت منطلقاً لحملاتهم، ومن المحتمل إن هذه المدن الثلاث اجتيحت ودمرت بما في ذلك مسجد سابق ذكرة اليعقوبي بأجدابية، أو أن الفاطميين أقاموا مسجدهم على أنقاض المسجد السابق، وقام الفاطمي أبو القاسم العبيدي (280 ـ 334 هـ / 893 ـ 946 م) بثلاث محاولات لغزو مصر، وقد كانت الحملة الفاطمية الأولى التي وصلت إلى برقة حيث انطلق الجيش الفاطمي من طرابلس ووصل مدينة أجدابية في يوم 12 صفر 302 م الموافق 6 / 9 / 914 م في طريقه للإسكندرية وأقام بالمدينة عدة أسابيع بعدها وصل إلى برقة في يوم 6 ربيع الأول 302 هـ.

 ويذكر المؤرخ ابن عذارى المراكشي إن جيشاً فاطمياً بقيادة حباسة بن يوسف الكتامي وهو قائد أمازيغي من أكبر قواد الدولة الفاطمية دخل مدينتي سرت وأجدابية بالأمان سنة 301 هـ، وهرب من كان فيهما من جند الدولة العباسية، ويشير هذا التاريخ إلى أول دخول للفاطميين لمدينة أجدابية، وكانوا كلما دخلوا مدينة قتلوا أهلها وأخذوا أموالهم وعاثوا فيها فساداً، فعندما دخلوا مدينة برقة قتلوا فيها عدداً كبيراً من أهلها، ثم ارتحلوا عنها واستولوا على الإسكندرية إلا أن العباسيين أرسلوا لهم جيشاً استطاع الانتصار عليهم، وهروب قائدهم حباسة بعدها انتفضت برقة على الفاطميين فأرسلوا لها جيشاً قتل الكثير من أهلها ونكل بهم، وهكذا كانت الحملات الفاطمية على مصر مارة بأجدابية حيث كانت هناك عدة حملات وهي :

1. الحملة الأولى سنة 302 هـ / 914 م.

2. الحملة الثانية سنة 307 هـ / 919 م.

3. الحملة الثالثة سنة 323 ـ 324 هـ / 935 ـ 936 م.

4. الحملة الرابعة وهي حملة المعز الفاطمي معد بن منصور(932 ـ 975 م) التي نجحت في الاستيلاء على مصر، وبدأ الاستعداد لها منذ سنة 355 ـ 356 هـ / 966 ـ 967 م حيث أمر بحفر الآبار في الطرق المؤدية إلى مصر ومنها مدينة أجدابية، وأمر المعز الفاطمي كذلك بأن يبنى له في كل مرحلة قصراً ينزل فيه، وقد تم له ذلك، ولا يزال قصر المعز الذي بناه له ولده تميم موجوداً بمدينة أجدابية إلى اليوم، وبقى المعز يتجهز في قصوره وأرسل قائده جوهر الصقلي (316 ـ 381 هـ / 928 ـ 992 م) لفتح مصر الذي وصل برقة ثم انتقل منها إلى مصر فوصل الإسكندرية واستولى عليها بدون مقاومة، وعندما علم المعز بأخبار قائده خرج من قابس إلى طرابلس فوصلها يوم الأربعاء 24 ربيع الأول 362 هـ ثم خرج منها يوم 17 ربيع الثاني، وأهدى أهلها ناقة محملة بالذهب بنوا به جامع سمى بجامع الناقة ثم خرج المعز من طرابلس إلى سرت فوصلها يوم 4 جمادى الأولى ثم رحل عنها ونزل بقصره الذي بني له بمدينة أجدابية، ومن أجدابية خرج إلى برقة، ومنها إلى مصر حيث تجهز الناس للقائه يوم 1 رجب سنة 362 هـ .

آثار أجدابية:

توجد بمدينة أجدابية عدة آثار تم اكتشافها عن طريق البعثات الأثرية والرحالة والمكتشفون منها:

1. القصر الفاطمي وهو درة التاج في إرث أجدابية.

2. المسجد الفاطمي.

3. قصر الصحابي يوجد بين أوجلة وأجدابية وينسب للصحابي عبد الله بن أبي السرح (599 ـ 656 م) على بعد (97 كم) جنوب المدينة

4. حصن روماني تم اكتشافه سنة 1975 م.

الآثار الإسلامية في مدينة أجدابية:

قامت مصلحة الأثار الليبية بالكشف عن آثار مدينة أجدابية سنة 1952 م، وتم نشر نتائج هذه الكشوفات في الدوريات الليبية بداية من سنة 1964 م ثم تلا هذه الكشوفات حفريات أخرى قام بها بعض الأساتذة والمختصين، كذلك حازت مدينة أجدابية على اهتمام البعثات العلمية الأجنبية وبخاصة الإيطالية، كما نالت المدينة اهتمام الرحالة الأجانب، وقد أسفرت هذه الحفريات بالنسبة لمدينة أجدابية عن نتائج من بينها وجود مسجد وقصر محصن، ومن أقدم الرحالة الأوربيين فيما نعلم الذين زاروا أجدابية الرحالة والرسام الفرنسي جان ريمون باشو (1794 ـ 1829 م) حيث زار المدينة ورسم الجامع والقصر في لوحتين رائعتين والرسم كما هو معروف تجسيد للواقع، وبعده بحوالي (30) عاماً زار المدينة الرحالة الأسكتلندي جيمس هاميلتون حيث كتب عنها معلومات دقيقة.

قصر الصحابي بمدينة اجدابيا (الصورة: عن الشبكة)
قصر الصحابي بمدينة اجدابيا (الصورة: عن الشبكة)

1. الجامع الفاطمي:

سيطر الفاطميون على المهدية واتخذوا منها عاصمة لهم، وكانت مدينة طرابلس تابعة لهم سنة 304 هـ / 916 م، وأرسل الفاطميون قائدهم حباسة بن يوسف فاستولى على سرت وأجدابية وطرد الجند العباسيين منهما، وكانتا تتبعان طرابلس إدارياً كما يذكر سعد زغلول عبد الحميد (1933 ـ 2005 م) في كتابه تاريخ المغرب العربي.

ومنذ سيطرة الفاطميين على مدينة أجدابية بدأوا في حفر الآبار وبناء القصور والاستراحات لأنهم كانوا يفكرون في السيطرة على مصر واستخدام هذه الأماكن كمحطات واستراحات لهم حيث جعلوا فيها تحصينات حربية وبنوا قصوراً وأبنية وآباراً للمياه، ومن أهم هذه الأبنية الجامع الفاطمي، وقد شاهد هذا الجامع الرحالة البكري ووصفه بأن صومعته مثمنة بديعة العمل، وكشفت أعمال الحفائر عن وجود نص يؤرخ لبناء الجامع وهو سنة 310 هـ / 922 م ومما يدعم هذا الرأي إن الرحالة العياشي (1037 ـ 109 هـ / 1627 ـ 1679 م) عندما مر على أجدابية شاهد نصاً يؤرخ لعمارة الجامع، وإنه بني في سنة (312 هـ)، بالإضافة إلى دليل أخر وهو إن هذه الفترة شهدت نشاطاً ملحوظاً للفاطميين في هذه المنطقة من أجل الوصول إلى مصر، ويذكر الباحثون إن هذا الجامع هو ثاني أقدم جامع فاطمي في ليبيا بعد جامع طرابلس الأعظم الذي بني سنة 300 هـ / 912 م، وقد ذكر الجامع من الرحالة المسلمين البكري والرحالة العياشي وغيرهم، كما وصفه اثنان من الرحالة الأجانب وهما الرحالة والرسام الفرنسي جان ريمون باشو والرحالة الثاني الذي وصف الجامع هو الإنجليزي جيمس هاميلتون الذي زاره سنة 1852 م.

2. القصر الفاطمي:

أنشأ الفاطميون القصر الفاطمي إلى جانب جامع أجدابية وهو قصر كبير محصن، ومن المرجح إن بناؤه سنة 351 هـ / 962 م، وقد نزل به الخليفة المعز الفاطمي عند مروره بأجدابية لفتح مصر، ورآه الرحالة البكري والرحالة العياشي، وقد ذكر المؤرخ ابن أبي دينار إن المعز قدم إلى سرت ثم أجدابية فنزل في قصره بالمدينة، أما المؤرخ المقريزي فذكر إن المعز أمر في سنة 355 هـ بحفر الآبار في طريق مصر، وأن يبنى له في كل منزلة قصراً ففعل ذلك، وقد عثر على نقش يشير إلى أن بناء هذا القصر كان في حدود سنة 351 هـ / 962 م أي قبل فتح مصر بسبع سنين، وليس بمستبعد أن تبنى هذه القصور والاستراحات والأبنية لتحقيق غرض عسكري وليس بغرض الإقامة الدائمة.

القصر الفاطمي بمدينة اجدابيا (الصورة: عن الشبكة)
القصر الفاطمي بمدينة اجدابيا (الصورة: عن الشبكة)

وصف المؤرخين لمدينة أجدابية:

وصف كثير من المؤرخين سواء الذين مروا على المدينة أو الذين كتبوا عنها المدينة ومن بينهم المؤرخ اليعقوبي المتوفي في سنة 292 هـ / 905 م في كتابه البلدان حيث قال عنها: ” وهي مدينة عليها حصن وفيها جامع وأسواق قائمة “، ويضيف إن بينها وبين الميناء الذي ترسى به السفن من البحر حوالي ستة أميال، وكلامه عن الجامع يفيد إن هذا الجامع موجود قبل المسجد الفاطمي.

أما المؤرخ ابن حوقل المتوفي في سنة 367 هـ / 977 م في كتابه صورة الأرض فيصف مدينة أجدابية بإنها على صحصاح من البحر من حجر في مستواه (والصحصاح في اللغة الأرض المستوية السهلة)، بناؤها الطين والآجر، ولها جامع نظيف، ويطيف بها من أحياء البربر خلق كثير ، ويضيف إنه ليس بها ماء جار، وبها نخيل وفق كفاية سكانها، وترد عليها المراكب بصنوف التجارة مثل الأكسية والصوف، وشرب أهلها من ماء السماء، ويضيف المؤرخ ابن حوقل إن آبار مدينة أجدابية منقورة في الصفا طيبة الماء ولها بساتين ونخل يسير، أما جامعها فيذكر إن من بناه هو أبو القاسم بن عبيد الله وله صومعة مثمنة، وأهل المدينة ذوو يسار، ويذكر إن بعض سكانها من لواتة، ولها مرسى على البحر يسمى بالمحور، وفيها ثلاثة قصور، وهي راخية الأسعار كثيرة الثمر يأتيها من مدينة أوجلة أصناف التمور.

أما المؤرخ الإدريسي المتوفي سنة 559 هـ / 1166 م فيصف مدينة إجدابية في كتابه (نزهة المشتاق في اختراف الأفاق) فيزيد عن الوصف السابق بإن لها قصران في الصحراء، والبحر منها على (4) أميال، وليس بها أو حولها شيء من النبات، ويطوف بها من أحياء البربر خلق كثير، ويذكر بإن مياه أهل أجدابية في مواجن وسواني يزرعون عليها بعض الحنطة والشعير وبعض الحبوب الأخرى.

أما الرحالة العبدري فيصف مدينة أجدابية في رحلته فيقول: إنه ليس هناك إلا قصر مائل في الخلاء ولا ماء ولا شجر….

سكان أجدابية:

عندما نزلت القبائل العربية من بني هلال وبني سليم بمنطقة برقة اصطدمت مع القبائل المحلية مثل لوات وهوارة، وقد اتفقت هذه القبائل الغازية على الاقتراع (القرعة) لتقسيم الأرض والنفوذ للإقامة فحصل بنو هلال على منطقة خليج سرت، وحصل بنو سليم على المنطقة الممتدة من سرت إلى الحدود المصرية، واستقر السعادي ومن جاء بعدهم من أصلهم الجبارنة ـ الجوازي ـ العواقير ـ المغاربة ـ المجابرة ـ العريبات ـ الجلالات بالمنطقة غرب برقة.

تعتبر قبيلة المغاربة قبيلة عربية عريقة ترجع في نسبها إلى السعادي من قبائل بني سليم العدنانية القوية المشهورة بالحرب والغزو، وكان مقر إقامتهم منطقة أجدابية وما جاورها من مناطق، وقيل إن سبب تسميتهم بالمغاربة بسبب إقامتهم بالحدود الغربية الجنوبية لبرقة، وهذه القبائل المتفرعة من سليم كانت لهم العزة والمنعة والسيطرة على مختلف القبائل الأخرى فالمؤرخ المقريزي يحدد وجودهم بالمنطقة الوسطى خليج سرت حتى حدود الإسكندرية، ويقول بإنه كان لهم العز ولهيب في سليم عزة لاستيلائها على إقليم طويل وصارت ولايته لأشياخهم وتحت أيديهم [أي سيطرتهم] خلق كثير من البربر وفيهم طائفة الأبطال والأنجاد والإمارة فيهم، ويذكر المؤرخ الليبي محمد عبد الرزاق مناع في كتابه الأنساب العربية في ليبيا إن موطن قبيلة المغاربة من أجدابية إلى غربي النوفلية ويحدهم العواقير والفواخر، وينتشرون غرباً حتى سرت وسوكنة وفزان، وكعادة قبائل العرب كانوا ينتشرون في البادية، ويرتحلون طلباً للكلأ والمرعى والماء.

متحف مدينة اجدابيا (الصورة: عن الشبكة)
متحف مدينة اجدابيا (الصورة: عن الشبكة)

أجدابية مدينة الشعراء والثقافة:

يعتبر الشعر الموروث الثقافي المتداول للشعوب يعبر به الناس عن مشاعرهم وما في صدورهم، وليس بغريب عن مدينة أجدابية أن تكون مدينة الشعر والثقافة والعلم فقد ظهر بها كثير من الشعراء الكبار، والعلماء حتى إن الرحالة التجاني الذي زار ليبيا سنة 706 هـ / 1307 م أشاد بعالمها ابن الإجدابي المتوفي سنة 650 هـ / 1252 م وقال عنه : كفى فخراً لهذا القطر بهذا الرجل، بسبب كثرة علومه ومؤلفاته وعلمه الغزير، وله كتب كثيرة من بينها رسالة في علم الحول كانت تدرس بالجامعات الأوروبية في العصور الوسطى، وكتاب كفاية المتحفظ في اللغة، وكتاب الأزمنة والأنواء وغيرها من مؤلفات، وما ذكر الشعر في ليبيا إلا وكان لمدينة أجدابية نصيب وافر، ومن أسباب ظهور الثقافة والشعر بمدينة أجدابية مرور قبائل بني هلال وبني سليم عليها عند مجيئهم من المشرق الذين قال عنهم هنريكو أوغسطيني أقوام معروفون بميلهم إلى الحرب والغزو.

 وقد تم التمازج بين هذه القبائل وبين منطقة أجدابية، وتم نقل الموروث الثقافي لهذه القبائل للمنطقة مثل الشعر والقصص والحكايات عن الشجاعة والفروسية وحياة العز والشرف لهذه القبائل العربية العريقة حيث أثرت هذه الهجرة بألسنة الناس حتى في اللغة كما نلحظه اليوم، كذلك من الأسباب الأخرى إن مدينة أجدابية تعتبر ملتقى للحضارات، وكانت قاعدة ارتكاز للنواحي الأربعة الشرق والجنوب والغرب والشمال من البحر عن طريق السفن التجارية فهي كانت ملتقى للوافدين من جميع هذه النواحي، وقد ازدهرت حضارياً وتجارياً في العصر الفاطمي كما ذكرنا فقد ظهر منها الإمام ابن الإجدابي العالم الكبير.

 كما درس بها الإمام سحنون، كذلك ارتبطت مدينة أجدابية بالبادية فهي تعتبر بوابة الجنوب وملتقى القوافل التجارية وحتى الرحالة والعلماء القادمين لأداء فريضة الحج كان لابد لهم من المرور عليها، والمتتبع لتاريخ هذه المدينة يجد إن أهل ليبيا كانوا يأتون إليها في حالة الجدب والقحط ويستقرون بها، وقد جعلها الملك إدريس عاصمة للإمارة السنوسية كما توسطت المعتقلات الإيطالية التي نفي إليها الليبيون، ولهذه الأسباب وغيرها ظهر بأجدابية شعراء كبار أكثر من (100) شاعر أو يزيد معروفين على مستوى ليبيا بسبب نقاء الفطرة والسليقة أي اللهجة والتراث.


هوامش:

تم الرجوع للمصادر والمراجع التالية:

1. معجم البلدان الليبية، الطاهر أحمد الزاوي، ط1، 1968 م، الناشر مكتبة النور طرابلس ـ ليبيا.

2. فتوح مصر وأخبار وإفريقية والمغرب، ابن عبد الحكم، جامعة بيل، 1922 م.

3. المغرب في حلي المغرب، ابن سعيد المغربي، القاهرة، 1953 م.

4. فتوح البلدان، البلاذري، القاهرة، 1960 م.

5. تاريخ الأمم والملوك، الطبري، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، (د ـ ت).

6. تاريخ ليبيا في عهد الخلفاء الراشدين، محمد مصطفى بازامة، مؤسسة ناصر للثقافة.

7. رحاة التجاني، التجاني، تونس، 1958 م.

8. البيان المغرب في أخبار المغرب، ابن عذارى المراكشي، دار صادر، 1950 م.

9. معجم البلدان، ياقوت الحموي، بيروت، 1958 م.

10. نزهة المشتاق في اختراف الآفاق، الإدريسي، ليدن، 1894 م.

11. المغرب في ذكر إفريقية والمغرب، البكري، دي سيلان، 1911 م.

12. المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والأمصار، المقريزي، بيروت، (د ـ ت).

13. تاريخ اليعقوبي، اليعقوبي، دار صادر، 1960 م.

14. رحلة العبدري، العبدري، دار الغواص، دمشق، 2005 م.

15. الأنساب العربية في ايبيا، محمد عبد الرزاق مناع، دار الوحدة، بنغازي، 1975 م.

16. سكان ليبيا، هنريكو دي أغسطيني، دار الثقافة، 1975 م.

17. تاريخ المغرب العربي من الفتح إلى بداية عصر الاستقلال، سعد زغلول عبد الحميد، الإسكندرية، 1993 م.

18. الرحلة العياشية 1661 ـ 1663 م، عبد الله محمد العياشي، 2005 م.

19. رواية رحلة إلى مرمرة وقورينة وواحتي أوجلة ومرادة، جان ريمون باشو، تعريب مفتاح المسوري، دار الجيل، بيروت، 1999 م.

20. جولات في شمال إفريقيا، جيمس هاملتون، تعريب المبروك الصويعي، دار الفرجاني، طرابلس.

21. المؤنس في أخبار إفريقية وتونس، مطبعة الدولة التونسية، 1386 هـ.

22. العمارة الفاطمية في ليبيا (أجدابية ـ زويلة ـ سرت) دراسة أثرية معمارية، مجدي علوان، دار الوفاء، 2020 م.

والله يصلح أحوالنا.

مقالات ذات علاقة

البناء النصّي في شعر عبدالمنعم المحجوب (12) .. الزمن الوجودي في ديوان (عزيف)

المشرف العام

ليبيا واسعة – 9 (راقد ريح)

عبدالرحمن جماعة

المؤرخ الثقافي الدكتور محمد مسعود جبران (تقديم لأحد آثاره)

المشرف العام

اترك تعليق