قصة

خُـفُّ

قبالة مدرسة البنات بيت صغير, تتراكم أمامه الأحجار وأكوام الخردة, بابه لا يكاد يرى من اكتظاظ النفايات, كثيراً ما شوهد “عبد الوهاب” وهو يربط برميل أو طنجرة على كرسي دراجته الخلفي. وما أن يصل حتى ينزل الحمولة برفق ويركنها جانبي البيت.

مع الأيام تضخمت الأكوام, وتقدمت تضيّق الطريق, وإذ لاحظ نظرات العتاب من الجيران صار يركنها فوق سطح البيت, فارتفعت تنافس ارتفاع المباني المجاورة.

البيت غير موصول بالكهرباء, غير أن الماء واصلة بلا شك. فإبان كل خروج كان يرش عتبة الباب من إبريق معدني مطعج.

مذ كنت تلميذاً في الثالث الابتدائي وأنا أراه ممتطياً دراجته, يمخر الأزقة والشوارع جامعاً ما يصادفه من خردة. الفعل الذي توقف عنه قط هو رحلته شبه اليومية إلى سوق الغلال لجلب أربع حزم من برسيم, أحياناً راكباً وآخر ماشياً بجابنها وراحته اليسرى تربت على كرسيها وكأنه ظهر جواد.

أسبوعياً يقوم بحملة لوحده, فينظف الشارع من أدناه إلى أقصاه مكوماً جبل نفايات يحرقه في المكب القريب من الجامع. وما أن ترتفع ألسنة النيران حتى يشعل منها لفافته ويظل ينفث مراقباً المشهد إلى حين خمود النار. آنذاك فقط يلتقط عرجونه وجاروفه ثم يعطس ويدخل جاذباً مصراع الباب خلفه. ثلة من المعلمات يتشمسن أمام  مدخل الإدارة, يراقبن السيارات المارة في الشارع ببطء, بين الفينة والأخرى يخرج “عبد الوهاب” من بيته يجول ببصره في الأرجاء, يتأمل الركام, يزيح حجراً مغيّراً مكانه الاعتيادي. بعد هنيهة يتراجع فيعيده حيث كان..

المعلمات ساكنات المنطقة لم يعرن الأمر أهمية, تعودن على “عبد الوهاب” وتصرفاته, كثيراً ما تطرقن إلى حياته الخاصة, وحاولن سبرها وفلفستها, لا أحد يدخل أو يخرج إلى ومن بيته غيره!.. طرحن آلاف التساؤلات وافترضن ملايين الأجوبة, في هذا اليوم اقترحت “فاطمة” على “حليمة” المنقولة حديثاً إلى المدرسة, والتي فاتها القطار وبأعجوبة تزوجت من سباك لكنه غرق بعد أسبوعين في بالوعة قرب البحر.

– لو لممتِ هذا الإنسان لكسبتي أجره.

– أسكتي أنا المحتاجة لم يا “فاطمة”.

قرع جرس نهاية الإفطار وانفض الملم وبدأت  الحصة الرابعة و”حليمة” تبيض يسار السبورة بالطابشير الرديء, عيناها تحملقان عبر النافذة إلى تحت, حيث “عبد الوهاب” جالساً على حجر يصلح زنجبير دراجته المرتخي كتكة جائع.

أنهت “حليمة” الدرس وطلبت من التلميذات قراءته في السر! وحاذت النافذة المشبكة بشباك (عين الزرزور) مطلقة أعنة بصرها وخيالها على كل “عبد الوهاب” القالب دراجته على ظهرها, كرسيها ومقودها على الأرض, عجلتها إلى الأعلى, صار يجرب جودة الزنجير مدوراً الدواسة بيده عدة مرات, العجلة الخلفية تدور بسرعة حتى ما تكاد ترى, “عبد الوهاب” يبتسم للعجلة ويسكب من المزيتة قطرات على ترس الزنجير, “حليمة” تبتسم لـ”عبد الوهاب” عبر النافذة المشبكة بعين الزرزور. رذاذ مطر بدأ يتناثر على الشباك, عصافير طارت من المكب اتقاء وثبة قط.

“حليمة” ما برحت النافذة حتى رش “عبد الوهاب” العتبة بإبريقه المطعج ةاعتلى دراجته منطلقاً لإحضار حزم البرسيم الأربعة من سوق الغلال.

فجأة ودون مقدمات اختفى “عبدالوهاب”.. يومان.. ثلاثة.. أسبوع.. لا رائحة تفوح من البيت.. كثرت الأقاويل بين الناس.. يقولون.. جرذ كبير عضه.. عقرب متوحشة لدغته.. شد الرحال إلى مكة على ظهر عفريت.. نزيل في مستشفى  المجانين.. استعانت به الجامعة العربية لحل قضية فلسطين.. يزور “سيدي عبد السلام الأسمر”.. الخ.

ذات صباح حضر أناس فتحوا باب البيت وأخرجوا ما بداخله من أشياء.. كتب.. خرائط.. أواني.. تماثيل.. جرار.. براميل.. علب مملوءة بعملة معدنية ملغاة.. صور لفنانات معتزلات ومقبورات.. صور لزعماء ورؤساء وملوك وسلاطين وأمراء، أكل عليهم الدهر وشرب.. أشرطة كاسيت.. أسطوانات غنائية وغازية.. حملوا ثلاث شاحنات وجاءت رابعة لتحميل محتويات السطح. وجرفوا الركام من أمام البيت بواسطة جرافة ثقيلة.

صار البيت نظيفاً والشارع اتسع, والباب يرى دون صعوبة, أين “عبد الوهاب”, أين? أين.. أين?! لماذا يرافق القوم?! نظرت “فاطمة” القلقة إلى “حليمة” الحزينة.. منذ سنين لم يحدث هذا الأمر.. ولا أتذكر أنه حدث أبداً.. أليس أنت من دبر سر الاختفاء.. أنت الجديدة في المدرسة?! .. أليس أنت من قالت لو تزوجته سأرمي كل الخردة بعيداً.

– حليمة ..اعترفي أين عبد الوهاب?

– أنا.. أنا.. لا تسيء بي الظن.

وانتهى الخلاف إذ ظهر هذا التو “عبد الوهاب”, يمشي مطأطأ الرأس, دراجته مفشوشة الإطار, لم يتجرأ أحد ويسأله, ربما يكون مراقباً فيتورط سائله. اكتفى الجميع بالمتابعة البصرية. كان حزيناً وكأنه فقد عزيزاً غالياً.. ما تجمعه النملة في عام يحمله الجمل في خفه!..

دخل وأدخل دراجته معه.. بعد قليل شوهد فوق السطح يصفق يديه حسرة ويتأمل المباني المجاورة عديدة الطوابق.

يرتفع الآن آذان الظهر, يرن جرس نهاية الحصة, يخرج التلاميذ والتلميذات مرحين. يزدحم الشارع بالخلق, يفتح “عبد الوهاب” بابه, يرش عتبته من إبريقه المطعج ثم ينطلق على دراجته.. كل نصف ساعة يعود ساعة يعود محملاً ببرميل أو طنجرة أو منضدة عرجاء أو شق رحى.. يركن الحمولة جانبي البيت ويعيد الكرة.. فعل ذلك عدة مرات.. بعد شهرين تقريباً أعاد البيت كما كان..

قالت فاطمة : الذين داهموا البيت رجال شرطة سريون.

قالت حليمة : بل رجال نظافة علنيون.

قالت حليمة : وهل البلاد نظيفة حتى يشغلهم بيت “عبد الوهاب”?!

قالت فاطمة : عموماً اخفضي صوتك فللهواء آذان.. المهم أن “أوهيبة” عاد.

وقلدتها  فاطمة بخبث : المهم أن “أوهيبة” عاد!

تسارعت وتيرة الأحداث

“حليمة” صارحت “فاطمة” .. “فاطمة” صارحت المدير.. المدير كلم شيخ الجامع.. الشيخ كلم الخباز.. الخباز كلم الحرس البلدي.. الحرس البلدي كلم مختار المحلة.. مختار المحلة كلم شرطي المرور.. شرطي المرور كلم شرطي المطافئ.. شرطي المطافئ كلم وزير الزراعة.. وزير الزراعة كلم بائع البرسيم.. بائع البرسيم صارح “عبد الوهاب”.. “عبد الوهاب” سكت.. أهل “حليمة” سكتوا.. حليمة زغردت.. البيت مقابل المدرسة.. سأوفر ثمن المواصلات.. سأمنع عنه البحر والاقتراب من البالوعات.. سأحممه بنفسي في طست أمام ناظري.. سأوقف حملته الأسبوعية لتنظيف الشارع من أقصاه إلى أدناه.. سأمنعه من التدخين والعطس, لن أسمح له بجمع الخردة والنفايات.. لا.. لن.. لن..لم..  ليس.. ما.. لا يجوز.. قالت “فاطمة” على رسلك .. على رسلك.. أنا فرحانة لك.. أحبك أن تسعدي مع زوجك مثلي.. لكن لا تندفعي.. لا تسبقي الأحداث ..

زُفت “حليمة” إلى عبد الوهاب ..

في الضحى رش العتبة بماء من إبريقه المطعج ثم استوى على متن دراجته قاصداً سوق الغلال.. هذه المرة عاد ومعه خمس حزم برسيم!!

صحيفة الجماهيرية.. العدد:3820.. 18-19/10/2002

مقالات ذات علاقة

الفرق بيني وبينك!!

خديجة زعبية

الْمنْجَل

أحمد يوسف عقيلة

أقــــــــــاصيص

جمعة الفاخري

اترك تعليق