د. كمال عبد الكريم الشلبي
لبى مطلب قلبه، وخرج متلقفاً أثر الزهرة الهاربة. وبينما هو في مدارات البحث، امتصته رغبة لملاقاة حبيبته، مثلما هي اللحظة التي تنفرج فيها روحه على حدائق الحرية. لا يدري سر الانتعاش الكبير الذي غمره لحطة أن خرجت عليه صور حمراء تستمد لونها من ذاكرة مختبئة بين مقاعد الجسد وحرارة المكان، المهم أن روحه كانت تتصاعد كما لو أنها تنزف.
***
عند حوالي الساعة التاسعة بعد ظهيرة اليوم الأول من سراحه، وبينما كان النواح يملأ على السدود كل فرصة للهرب، جلس خائفا، ما يدريه، لعل المتعبين من غاراتهم الدائمة ينهضون فجأة، ولا يجدون من يفتح لهم عناوينهم ويضلون الطريق، ما الحل إذن؟ هو لا يستطيع، وهم يعلمون ذلك جيدا، عليهم فقط أن يعدوا كم بقى من الدهان كي يحسبوا كم يحتاجوا من الرغيف.
***
قال لهم متجهماً:
عندما يشبعون وترتخي بطونهم نغير عليهم، اسمعوني، سوف لن يجدي تركهم يهرعون في أودية تتقاسمها غيمه إثر غيمه بصماتهم، ما سيضيرنا لو أعجبتنا أحلامنا قليلا. إن المعتدلين في أوج العاصفة ورقابهم قوية كجذع صفصافة هم وحدهم القادرين على دفع الريح باتجاه خيامهم المنصوبة في قلوبنا كشوكة دامية. دعونا نخبر الريح بذلك. إن الريح على ما اعلم قد غادرت قبل قليل باتجاه القلعة الأخيرة عند الرصاصة التالية من الفجر.
***
رد عليه أحدهم متجهما هو الآخر:
تناقشنا يا سيدي كثيرا حول موضوع المطر، وماذا كانت النتيجة؟ سنين طويلة مضت كنا نصهر نعت الحقيقة في بوتقة السؤال، وما مضى عام إلا وكنا نأمل بشي من الرجاء أن ندخل ما يمكننا إدخاله في جوف الصمت. ولكن يا لحماقة صمتنا. لقد أشرنا عليك في أكثر من مناسبة بالهرب عبر نفق الحلم الذي خرقته أنت على مرأى من الجميع، لكنك كنت تصر كعادتك. ومضت الحكاية تجر وراءها أبطالاً من وهم، واسترحت أنت عند حدود المسافة بين الرمز والرسم، والنتيجة كما تصورنا، تورطت أحلامنا في مجادلات مع ما اسماه القدامى بلعنة التوق، ونط صدرنا مرات ومرات . مكانك عند آبار التنوع جهة بكائك. أما نحن، فلنا عند السحاب مستقر وحديث. لا تقول لنا إن العذاب هربه إليك شوقك لنا، لم يعد ذلك يفيد في شيء، لأن النواحي الزرقاء التهمت قدرتنا عليك. وعاد الأمر بالنسبة لنا أشبه بدردشة طفل عند غدير.
***
رد عليهم بصوت حنون:
في ليلة ممطرة، ذهبتم كلكم ناحية صوتي، تستشعرون عنده مهام الجيش النازل من سلم الوجود إلى قاع العدم، كنتم كمن امتصه عذاب القلق، لكن لماذا يحتم عليَّ أن أجعل الريح مهمازي الدائم للوصول إلى أعنف لحظات الموت؟
***
تكلم أحدهم في دهشة:
إننا نرجو أن يفتح لنا، ونرجو أن نكون قد سعدنا في وعينا، ونرجو أن يكون اللاوعي فينا امتصاصاً أخير لآخر ما تبقى من هزائم العمر.
***
قال لهم في لهجة تنم عن شفقة جارفة:
قد أتقصى عليكم في لحظات تعتبرونها زائفة، لكنني اعتبرها مهمة جدا، لأن المسارح التي أمرتكم بترتيبها ما زالت كما هي، يعلوها الصدأ في أعلى قمتها، ويهدأ أسفلها التراب كما لو انه أنس الحكاية.
***
منذ تلك الاحتمالية الأخيرة المرتبطة بقدرتي العجيبة على تناول السكر في مذاق امرأة، كانت تحيطني رونقه تدل على أن البدايات تستسلم لي، فلماذا أنتم علامتي المنشطرة في أنفاسي دائما؟ ولماذا يعلو نهار الربيع كل ما يجوس فيَّ لحطة أن تدلني عليكم الأنهار والعصافير والسحاب المغادر من جهة الشمس إلى الجهات كلها؟