جَفلتْ كحيوانٍ فوجئ بصيادٍ يطارده وارتفعت عيناها ثم انخفضتا وفي اللحظة التالية حاولت أن تتكلم أن تستقر لكنها أحست بعدم قدرتها على الكلام فتركت العنان لدموع صامتة ساخنة ملتهبة تبلل خديها الغائرين… اهتزت القفة فوق رأسها اهتزازة عنيفة فأسرعت يدها النحيلة تمنعها من السقوط في مهارة تعودت عليها وسرت في جسمها رعشة كأنما لمست سلكا كهربائيا ووضعت القفة على الأرض في حرص شديد… حبكت الفراشية حول جسدها كما كانت تفعل أيام شبابها واكتست سحنتها بلون ترابي… اختلطت دموعها بعرقها ثم تجرأت وتقدمت خطوة إلى الأمام واصطدمت عيناها بالحارس يقف أمامها متصديا وقد انفرجت شفتاه عن ابتسامة لئيمة- تجاهلت نظراته التي كان يلمع منها بريق شيطاني يخفي وراءه رغبة تفقدها دماء الخجل وتقدمت إلى الأمام… (وين ماشية؟ هذا سوبر ماركت؟) وكأنما قدماها قد انفصلت عن جسدها فتراجعت ووقفت حيث كانت ولم تصدر منها كلمة نظرت إلى الرجل- حاولت لن تبعد عينيها عن وجهه لم تستطع… وجدت نفسها تمعن النظر فيه وكأنها تريد أن تتأكد من ملامحه… ومرة واحدة تدفقت في قلبها ذكريات بصورة مذهلة كادت تدفعها إلى الارتماء على صدر الرجل وتجهش بالبكاء، لكنها قاومت رغبتها هذه بعنف وتغاضت عن النظرة اللئيمة التي لم تزل تشع من عينيه وسألته برقة (ما تعرفش الحاج مصباح يا وليدي؟؟) أجابها بكلمة واحدة قاطعة كحد السيف (لا) أعادت سؤالها مختلطا بدموعها وفي هذه المرة لم يتكلم الرجل بل تقدم منها خطوة.. فارتدت فزعة إلى الخلف وكأنها تخشى أن يبعثر محتويات القفة ( لماذا أنت تشبهه إذن؟؟) سألت نفسها هذا السؤال وحاولت أن تجيب عليه فقد كان زوجها الحاج مصباح له نفس ملامح الرجل والاختلاف الوحيد بينهما أن هذا يمنعها من دخول السوق الذي كانت تدخله طيلة عشر سنوات أما الآن فلم يعد لها مكان فيه فقد أعيد بناؤه بطريقة جديدة وأصبح كل ما يباع فيه محفوظا داخل علب متعددة الأشكال والألوان… استدارت في يأس والتقطت القفة وابتعدت عنه بضع خطوات وجلست تحت الجدار المقابل للسوق وقبل أن تمد يدها تفرغ ما في القفة الكبيرة رأت الحارس ينتصب أمامها… طويلا يكاد يلامس السحاب وأطلق في وجهها قذائف من الكلمات اللاذعة لا نهاية لها وانحنى يهم بأخذ القفة إلا أنها قفزت بخفة تبعد يده الممتدة بضربة عنيفة جعلته يتراجع وتولدت في قلبها ثورة مكبوتة تكاد تفجرها.. استحالت إلى أسئلة ساذجة تتصادم في أعماقها والرجل لم يزل واقفا يتحداها أن تحاول الدخول ومع ذلك تجرأت وتقدمت مسافة تسمح لها برؤية ما وراء السوق… لم يعد هو السوق القديم… تغير كل شيء…
حجرات عديدة مستطيلة جدرانها من الزجاج، ورأت مكانها التي كانت تجلس فيه قد اختفى تماما، مكانها الذي كان ممنوعا على أي إنسان عداها أن يحتله فهو مكان (الحاجة) كما يعرف الجميع وجالت بعينيها تبحث عن سليمة والشيخ عاشور وأم الهنى جيرانها في السوق القديم لكنها لم تعثر على أثر – اختفوا- هكذا- وتضاعف ألمها وازداد إحساسها بالفجيعة والتفتت إلى الرجل ترميه بنظرات متحدية وكأنها تؤكد له بأنها لن تتراجع ومر أمام عينيها شريط حياتها سريعا- تذكرت اليوم الذي توفى فيه الحاج ووجدت نفسها تواجه الحياة بمفردها وبقيت في دارها تجتر آلامها لكن عندما طار آخر قرش من يدها عملت بنصيحة جارتها فباعت أثاث حجرتها وبدأت تزاول مهنة البيع في نطاق تحدده هذه القفة… تحركت في جلستها ورفعت عينيها إلى السماء وخفضتها عندما شعرت بدبيب أقدام صغيرة حافية تقترب منها… ووقف صاحب القدمين وتوقعت أن يتكلم- لكنه لم يفعل شيئا من ذلك فنظرت إليه متسائلة ولكنه احتفظ بصمته وبقيت عيناها مركزتين على صفحة وجهه ولم تتكلم هي الأخرى خيل إليها أن الطفل يتذكر في ملامحها إنسانة يعرفها وتأكد لها ذلك عندما رأت ذراعيه ترتفعان وهو يميل نحوها بجسمه الصغير يوشك على الارتماء في حضنها إلا أنه في اللحظة التالية استدار فجأة وانثنى عائدا من حيث أتى ثم غاب في الزحام وتركها واحساساتها بالعذاب تتضاعف مع كل لحظة تمر وكأنها أيقنت من نهايتها فجرفتها مرة أخرى خواطر شتى تذكرت أول يوم جاءت فيه إلى السوق القديم والمعركة التي نشبت بينهما وبين سليمة لأنها رأت فيها منافسة خطيرة لها، تذكرت محاولات الشيخ سالم للتقرب ثم طلبه الزواج منها ورفضها القاطع، تذكرت يوم وفاة ابنها الوحيد في حادث سيارة، تذكرت أيامها الأولى في السوق ونفور الجميع منها بتعليقاتهم الوقحة… أعادها إلى واقعها صوت سيارة مندفعة بقوة شديدة فانتفضت وتطلعت بعينين خائفتين فيما حولها وأمام بوابة السوق الحديدية كان يقف نفس الرجل يرميها بنظرات عدائية… ضمن (قفتها) بين يديها تحاملت على نفسها وجمعت أطرافها (فراشيتها) وثبتت القفة فوق رأسها ورأت أن تقوم بمحاولة أخيرة للإفلات من قبضة الحارس وانبسطت أسارير وجهها عندما وجدت المدخل الأخر للسوق مفتوحا على مصراعيه وليس هناك من إنسان يحرسه، اقتربت في حذر شديد وقبل أن تتقدم خطوة أخرى خيل إليها أن القفة تطير في الهواء وبحركة سريعة التفتت ورأت الرجل يأخذ القفة بين يديه ويتحرك مبتعدا عنها تخلصت من الفراشية وبقيت في رداءها القطني القديم واندفعت نحوه في شراسة وقبل أن ينتبه لهجومها كانت تنشب أسنانها في جسده، تجمع الناس حولهما وقال أحد الذين يعرفونها… (الحاجة انجنت).
1966
عن مجموعته: الأقدام العارية
الدار العربية للكتاب-ليبيا.تونس/1975