قصة

لا تقرءوا كلــماتي

أمسك قلمي…أستودع نفسي للهدوء…أعصر أفكاري،.. أطرد مشاغل الحياة من ذهني، ..أتوسل لملكة الكتابة أن تحضرني، …فتتحد بالعشق بالقلم.

أسكن الشخوص، أو هي تسكنني، أعيش عالمها، أو هي تعبث في عالمي، أنتقي الكلمات من حقول اللغة، …أقطف لها الصورة من غصن البلاغة، أغسلها في ينابيع النحو، أدثرها بإحساسي وتجربتي، …. أنفخ فيها من روحي، …. أعطرها بعبير آمالي، ..أنثرها على أوراقي….ثم أشطبها للمرة الألف.

أرمي قلمي وأوراقي، فينفتح في قلبي جرح، وتغمر وجداني كآبة، ويهرب حب الحياة من روحي.

أتخذ قراري، لن أكتب حتى يرضى أهل مدينتي.

أتصفح كتاباً، فيستفز قلمي، أغوص في قصة، فتلهمني قصص، أرحل مع قوافل الشعر، فتعتصر فكري آلام المخاض، ….. أعود إلى أوراقي وقلمي، أعتذر، فترتعش أوصالي فرحاً، يركض الدم في عروقي، ويخفق قلبي، تجتاحني الرغبة، فأسلم لإرادة القلم.

 تنهمر الكلمات سيل عرم، يتشتت قلمي، … يتعثر، … يسقط، ….لكنه لا يستسلم، يقف، يلتقط أنفاسه، ينظم حيثياته وأولوياته، وينساب على الورق رقراقاً عذباً، فتفور النشوى في جسدي، وتغرق نفسي في السعادة.

 أستودع كلماتي لعيون الناس، مفروشة على صحف مدينتي، فتحاصرني نظرات أهلها، ..أرى صورة الغانية، في عيونهم، كيف سأجعلهم يفهمونني؟…أتسلح باللامبالاة، فتطاردني تعليقاتهم المدمرة،

–        طالقينلها الحبل على الغارب!!

–        أوووه…الكاتبة!

–        ما عاد فيه بنات تتحشم!

–        وين الرجالة اللي وراها؟

–        تكتب!؟…فقيه يعني؟!

أراجع كلماتي، أتمعن في عباراتي، أحلل ما أختباء وراء الفكرة بألف تحليل، أعاتبها إن كانت قد جرحتهم، أو أساءت إلى أحد منهم، لكنها تقسم لي بأغلظ الأيمان أنها بريئة.

لكنها اعترفت، …..اعترفت أنها تنفر من السياسة، وتحترم الدين، وتمجد الأخلاق الفاضلة، تتغزل بالطبيعة، تكره الشر وتحب الخير، وهي في كل ذلك تبحث عن النقد، … ولكن ليس نقد أهل مدينتي.

أشكو همي إلى أقرب الناس إلي، فتنهمر عليّ نصائحهم:

–        وأنت مالك ومال وجع الراس؟!!

–        الكتابة ما توكلك عيش!!!

–        بيتك وأولادك أولى.

–        تبي تكوني مي زيادة، وإلا مارغريت ميتشل؟!

–        أنت مش عايشة وحدك، أنت وسط مجتمع، ويجب عليك أن تحترميه.

أعود إلى كلماتي، أشك في تحليلاتي، أعيرها إلى أطباء اللغة ليفحصوا علتها، ويفاجئونني بالانبهار بها، بل والوقوع في هواها، وقد يشجعونني بشهاداتهم بأنها أصح منهم، رغم كونها بحاجة إلى الكثير من التغذية والتمرين حتى تصبح أكثر صحة.

لماذا إذن، يصدر أهل مدينتي حكمهم الجائر عليّ، وعلى كلماتي، لماذا تنفيني العائلة، ويسخر مني الشارع، وتطعن في سيرتي الألسن، لماذا يتبرأ أفراد عائلتي من اسمي؟ وتتهمني بالعقوق جاراتي؟ وتنفر من مجلسي زميلاتي؟ ويلطخني بالسخرية أهل مدينتي؟

–        آه!…أهل مدينتي!!

لقد اعترفوا، نعم لقد اعترفوا….. أن كلماتي جميلة، ولكن…

–        ولكن ماذا؟

–        لو أنها بقلم رجل.

لا…لن أكره أنوثتي حتى لا يفخر ( فرويد ) بنظريته البلهاء، ويتخذني مثالاً يعلقه في رقبة التاريخ.

أقرر أن أهجر مديني، وأهل مدينتي، أسافر إلى مدينة أخرى، أفرح بالهواء الجديد، وأبعثر كلماتي على الصحف والمجلات، لكنني أكتشف أن نفسي خدعتني، و أن أهل المدينة الجديدة لا يهوون القراءة، … وقتهم كله للهث وراء اللقمة، أو للوك أخبار السياسة أو أخبار الجيران، وإن صدف أحدهم أن قرأ اسمي في ذيل الصفحة فإنهم يستعيرون أقنعة أهل مدينتي.

أتجرأ، وأسألهم عن السبب، فهم على الأقل ليسوا أهلي وعائلتي وقبيلتي، وعلاقة الجوار معهم لم تتوثق على أي حال، لن أهتم إن نفوني، ولن أخاف من أن أخسرهم، فأغرق في تفسيراتهم:

–        لأنك إمرأة.

–        لأنك تحاولين العبث مع النجوم.

–        لأنك فاضية.

–        لأن الأدب يعني الفني، والفن حرام!

كسرت قلمي، لملمت كلماتي المبعثرة في حنايا ذاكرتي، ورميتها في سلة المهملات، هجرت الكتابة، وغيرت عنواني لأظللها، …. لكنها لم تهجرني، ظلت لاصقة بقلبي، ….. لم يمحها الزواج والعائلة، والعمل، والانشغال في الحياة الاجتماعية للعظم، لم يقيد توهجها ملء كل ثانية في أمسي ويومي وغدي.

ظلت تلح عليّ، وأنا غارقة في إعداد الوجبات المتتابعة في المطبخ، …تصرخ في إذني وأنا أدير الآلات الكهربائية المنزلية بداع أو بدونه، أهرب منها، وأدير المذياع، أرفع الصوت إلى أعلى درجة، فتسرب لي أفكارها من خلاله.

أهرب إلى الناس، في مكان العمل، في البيوت، في المناسبات، فأجدهم مشاريع لقصصي.

أفر إلى كراسات تلاميذي، وأنجح، أخيراً في إسكاتها، لكن الخبيثة، تتصبر حتى أنتهي، فتعود أقوى من ذي قبل.

زجرتها، أهنتها، …نفيتها، توسلت لها أن تتركني أعيش في سلام، …أخيراً رحمت ضعفي وقلة حيلتي وهواني على الناس، طأطأت رأسها، وأطفأت شعلة حماسها، ووعدتني بالرحيل.

 ولكن!…عندما حاولت أن تنسحب من حياتي، شعرت بحبل الموت يلتف على رقبتي، شعرت بالاختناق، غمرني الحنين إليها، أحسست بفداحة جريمتي في حق نفسي، استدعيتها، استجديتها العودة، فهرعت إلى حضني.

جبّرت قلمي، ونفضت الغبار عن كلماتي، فافترشت أوراقي وهي ترسم على وجهي ابتسامة،

قرأتها، فكانت:

– عفواً أهل مدينتي، سأكتب ولكن، رجاءً..رجاءً….رجاءًً لا تقرأوا كلماتي.

مقالات ذات علاقة

قمرُ زمانِها

إنتصار بوراوي

الرقص أخيراً

المشرف العام

على حافة الحزن (1)

حسين بن قرين درمشاكي

اترك تعليق