قصة

إنصـاف !

من خلال البوابة الخارجية للمدرسة، رأيتها تدخل.

كانت كالعادة مقطبة الجبين،كمن يحمل غضب العالم،….مزمومة الشفتين، وكأنها تكبت ثورة كانت تعتمر في نفسها،…  تشد قامتها القصيرة في مشية مستقيمة،فيخيل لي أنها كانت تخاف السقوط،… تبالغ في رفع رأسها، وكأنها تعوض عن بعض سنتيمترات لم يفلح الكعب العالي الذي ارتدته في سد ثغراتها،…… تدور عينيها في كل الاتجاهات، وكأنها تتصيد فريسة…. تتأبط عصاً،كانت بالرغم من دقتها ورقتها على استعداد لسلخ جلد تمساح، يهتز طرفيها مع كل خطوة تخطوها في ذبذبة سريعة كجناحي الطائر الطنان، فيخيل للآذان المرهفة أن صفيرها الخافت في الهواء، كأنه قرقعة ذيل  ذات الأجراس.

ألقت بالقلم فوق سجل الحضور اليومي دون أن توقع، وفرقعت عصاها على طرف جلبابها،كما يفعل مروض الوحوش في السيرك، والتفتت إلى مدير المدرسة المُحتمي بكرسيه الدوار وانفجرت بصوت، لم أصدق أنه خرج من تلك الجثة النحيفة،وخلت أن جدران الحجرة قد تشققت معه:

–        من الذي سمح للطالبات بالانصراف باكراً يوم أمس؟

اعتبرت أن الكلام ليس موجهاً لي، فالتفت إلى صف شهادات التكريم التي نالتها المدرسة في مناسبات رياضية وثقافية  مختلفة، والتي كانت مصفوفة على الجدار دون أيّ رغبة في مطالعتها،….لم يجب المدير بكلمة، وإنما شرع يديه في الهواء ينفي التهمة،ورفع حاجبيه يدعي الجهل،  ورسم في نظراته الحيرة، وزم شفتيه في استنكار.

–        على كل حال، سوف أحقق في الموضوع بنفسي، وأعرف الحقيقة.

 وخرجت من الإدارة دون أن توقع وتركت المدير غارقاً في خوفه وعرقه وتساؤلاته، لكنه حين فطن إلى وجودي في الغرفة، سيطر على انفعالاته بسرعة ونظر ناحيتي وقال مبرراً:

– لا عجب أن زوجها قد فر بجلده، أو ربما بدونه، لست أدري،  وتركها مع خمسة أولاد، الله يعينهم على تحملها.

ولو أنني لم أجد في ذلك عدلاً، أن يهجرها بعد خمسة أطفال، تعاني مشاكلهم ووحدتها، إلا أنني عدت والتمست العذر للزوج المسكين، فلابد أنه خلال السنوات التي عاشها معها كان يعزي نفسه بالأمل أنها ستتغير يوماً ما، أو أن الأمومة سوف تكسر ذلك المارد المولع بالجبروت في نفسها،…ولكن ما حدث كان على عكس ذلك الأمل تماماً،فكما سمعت من بعض المدرسات والعهدة على الراوي، أنها كانت تزيد تمرداً وجبروتاً مع كل طفل تنجبه،وتتضاعف تسلطاً وطغياناً مع كل يوم يمر على سكونه ورضاه، فما كان منه في النهاية إلا أن جمع أشياءه وأنسل هارباً دون أن يترك أثر.

تلك الشخصية المولعة بالتسلط، لم تفارقها داخل المدرسة أيضاً،حتى أن البعض لقبها، ربما تفكهاُ وربما لسرقة شعوراً، ولو سراً، بالانتصار ( بالحجاج )، ذلك الأموي الذي كان مولعاً بقطف الرقاب، فالويل ثم الويل لمن يتعرض لسقطة، كبيرةً كانت أم صغيرة، أمامها، فإذا كانت الضحية طالبة من الطالبات، فإنها ترمي بكل القوانين واللوائح التي تُحرم الضرب في المدارس عرض الحائط، وربما اتهمت صانعيها بالفقر بالمعرفة التربوية، فتنهال علي الطالبة، الجانية، بالعصا حتى تنزف يداها وتتورم قدماها، ويبتل وجهها وملابسها بلعابها المتناثر مع السب والشتم والطعن في التربية والأخلاق.

أما المدرسين والمدرسات، زملاء العمل، الذين لا تستطيع رغما عما في نفسها، استعمال العصا ضدهم، تنهال عليهم بلسانها السليط، الذي ينثر  ملفات من الأحوال الشخصية قد كانت الذاكرة الجيدة جداً،تجمعها وتصنفها وتخزنها، ثم ترمي بها إلى اللسان، الذي لا يعرف التلعثم ولا التأتأة ولا أي من عيوب الكلام، فتخرج المعلومات والكلمات واضحة، متسلسلة،متتابعة،  دقيقة،شاملة..ودون أن يترك فرصة للأخر في الدفاع أو المراوغة أو حتى الهرب.

كنت أندهش عندما أسمعها عن غير قصد طبعاً، تعاير هذه المعلمة بعلاقتها الغرامية، أو ذلك المعلم بإدمانه الشرب أو المخدرات أو غيرهما بالشذوذ،… وأشكك فيما بيني وبين نفسي في مصادر معلوماتها تلك، وربما اتهمتها بالتجني، وتلفيق التهم لأغراض في نفسها، إذ أن شخصيات هؤلاء الزملاء الضحايا لا توحي أبداً بأنهم قد يكونون كما اتهمتهم.

لكن، بعد فترة، ربما صدفةً، أو بعد بحث وفحص وتمحيص يدفعه فضول نسائي، لم أفلح في كبح جموحه، اكتشف أن المظاهر، وكما يقولون، دائماً خداعة، وأن كل الاتهامات التي كالتها لهم كانت صحيحة، مئة بالمئة، ليس فيها ذرة كذب واحدة، وأنهم حين كانوا يفرون من أمامها يجرجرون أذيال الهزيمة، إنما كانوا يهربون أولاً وأخيراً من أنفسهم التي كشفت هي عن أقنعتها، ويجعلهم ذلك في المرات القادمة يتحاشون الاصطدام معها،…على أن اللؤماء منهم، يعملون جاهدين على كسب ودها، فيكرسون أنفسهم عملاء سريين يتلقطون لها الأخبار، و الفضائح، كوسيلة انتقامية  من بعضهم البعض.

أما الواثقين من ملفاتهم النظيفة، فإنهم كانوا يؤثرون ألا يلطخوها بمشادات فارغة معها.

دق الجرس معلناً، بدء الحصة الأولى، فلملمت دفاتري، وصعدت إلى الطابق الأول، حيث الفصول الدراسية.

من بعيد رأيتها تدخل فصلي، فأشفقت على تلميذاتي، وأسرعت الخطى، ولكن فات الأوان…فقد وقعت إحدى الطالبات في مصيدتها.

حاولت أن أحث تفكيري، كيف سأخلص الطالبة من براثنها دون أن أعرض نفسي لمهزلة، ماذا لو قيدتني بلسانها السليط، واتهمتني بالتدخل فيما لا يعنيني؟ ماذا لو اختلقت، ولو أنه لم يسبق أن فعلت، قصة حين تعجز عن تدنيس سيرتي فتهز على أقل تقدير صورتي أمام طالباتي؟ وكيف ستكون ردة فعلي؟

–        معلمة إنصاف؟

نطقت باسمها، وأنا ابتسم لفكرة أنها بعيدة جداً عن الإنصاف، فتركت تلابيب الطالبة، ونظرت إلىّ بعينين يتطاير منهما الشرر.

اقتربت في خطوات ثابتة، ونظرات ثاقبة، تؤكد عزمها على اقتحام معركة، أدركت أنني إذا نقدت طريقتها في التعامل مع الطالبات فسوف تنقلب ضدي، فقلت، أحاول أن أمتص غضبها:

–        هل تتعبك الطالبات؟

–        إنهن متعبات، مشاكسات، قليلات الأدب.

قالت ذلك وكأنها قد وجدت أخيراً من يفهمها

–        معك حق !..ولكن ألا توافقينني الرأي، أنها طبيعة المرحلة؟

–        طبيعة المرحلة !.

رددت الكلمتين بكثير من السخرية، فتابعت دون أن أترك لها فرصة للاعتراض:

–    أذكر أنني حين كنت في مثل  هذه السن، لم أتمكن بسهولة كبح جماح ذاك التمرد في نفسي، كان في داخلي شيء يرفض كل شيء، السلطة في الأسرة أو في المدرسة، الروتين في الدراسة والحياة اليومية، العادات  والتقاليد الجيد والسيئ منها على السواء،…كل شيء،.. وكنت أعبر عن ذاك الرفض تارة بالمشاكسة، وأخرى بالعناد، وثالثة بالغضب.

فزمت شفتيها،وهزت عصاها أمام وجهي،  و كأنها تمنت أنها كانت موجودة في حياتي في تلك المرحلة،  وقالت:

–        ربما لم تجدي فعلاً، من يتعامل معك بالأسلوب الذي يكبح جماح نفسك؟

فقلت وأنا أتجاهل تلميحها المؤذي:

–        على العكس تماماً، أنت تعرفين أن الضرب كان مسموحاً لفترة قريبة، ولكن ذلك…

فاعترضت صارخة:

–        مسموح أو غير مسموح، هذه هي الطريقة المُثلى.

أدركت أن استدعاء الماضي للشهادة، لم يفد في شيء، فقلت وقد بدأ صبري ينفذ أنا أيضاً :

–        ألا ترين أن الضرب  لا يزيد الطالبات  غير عناد وعنف ومشاكسة؟

 فاعترضت بشدة:

–   لا…لا يا أبلة….العصا لمن عصا، وهي خير وسيلة للتأديب، والأسرع في جني النتائج المرغوبة،أنا أيضاً  أذكر أن جميع معلمينا كانوا يستعملونها، وكنا نحترمهم أشد الاحترام، لقد كان المعلم الذي لا يستعمل العصا في نظرنا ذو شخصية ضعيفة، ولا ينفع للتدريس، كنا نرى الشخصية القوية في حجم ونوع العصا التي يحملها المعلم، لا في حجم المعلومات التي يكدسها في أذهاننا.

–        ولكن، أولا ترين أن ذلك زمن وجيل قد..

فقاطعتني قائلة:

–   على العكس تماماً، جيل هذه الأيام هو أكثر حاجة إلى التأديب بالعصا، فجيلنا، على الأقل كان يستحي ويخاف، أما اليوم، فهم لا يستحون حتى من آباءهم.

نظرت إلى ساعتي، وأدركت أنني أدخلت نفسي في جدل فارغ سيسرق وقتي، دون فائدة ترجي فلجأت إلى المجاملة أحاول أن أنهي بها المحاورة التي بدأت تلتهب،دون أن يلوح في الأفق أي أمل في التغيير، فقالت بنفاذ صبر، وبعفوية تامة :

–        أظن أنك أكثر خبرة مني في هذا المجال، فأنت بالتأكيد قد استعملت هذا الأسلوب مع أبناءك ونجح.

لم تجب، وإنما نكست رأسها إلى الأرض، وراحت تعبث بعصاها، وكأنها تستعد لتنفيس غضبها على جسدي، أحسست أنني جرحتها، نظرت إلى بعينين امتزج فيهما الغضب بالحزن، فأدركت أنني واقعة فيما كنت أحاذر، لكنها أدارت وجهها إلى الجهة الأخرى، وقالت في لهجة آمرة:

–        هيا، ادخلي الفصل.

وقفت لحظات أتأملها، وهي تعود إلى مكتبها في آخر الرواق، يكبلني إحساس بالذنب، خُيل إليّ أن قامتها قد بدت أقصر، وأن كتفاها كانا يهتزان.

حين انعطفت، ودخلت إلى مكتبها، تراءى لي، أنني رأيت دموعاً تلمع على خديها.

مقالات ذات علاقة

لَكِنَّ اللهَ يُحِبُّنِي ..!!

جمعة الفاخري

شيشا راقوبا

محمد دربي

قال أحبك ومضى!

المشرف العام

اترك تعليق