طوالي… انطلاقة إبداع الموسيقار علي ماهر
(طوالي مروح طوالي لصغاري والوطن الغالي
لناسي.. لخوتي
لناسي وعشرة جيراني لبوي وأمي وعيالي
طوالي راجع لحبابي
ويكفي من الغربة يا صحابي
والبعد اللي مغير حالي
طوالي..)
كانت هذه البداية الابداعية لانطلاق المسيرة الفنية للفنان والموسيقار علي ماهر في عالم التلحين والطرب والغناء، وبداية ظهور صورة جديدة للأغنية الليبية في ثوبها الحديث المعاصر الذي تخلصت فيه من ضجيج الآت النفخ والإيقاع الفلكلورية وأساليب المواويل والآهات وغيرها من الأشكال الفنية التقليدية.
لقد شكلت أغنية “طوالي” التي كتب كلماتها الشاعر الراحل مسعود القبلاوي، ولحنها الفنان الموسيقار علي ماهر، وأداها الفنان المطرب خالد سعيد سنة 1967 ولادةَ أسلوبٍ جديد في مدرسة التلحين الموسيقي في ليبيا، ولوناً أكثرُ طرباً وتأثيراً في المتلقي بما يحمله هذا اللون اللحني الجديد، من جمل موسيقية رقيقة، ومفردات نصية معبرة، وأداء شجي وانسيابي متمكن، استقبله الجمهور الليبي بإعجاب واحترام وتشجيع لمواصلة الإبداع الموسيقي بنفس هذا المستوى الراقي.
لا شك أن موضوع الاغتراب والحنين إلى الوطن والأهل الذي تناولته أغنية (طوالي) كان موضوعاً تقليدياً يظهر ويتكرر في أكثر من موقع جغرافي، ولكن بساطة كلماتها المعبرة، ولحنها البديع الذي ألفه الفنان الصاعد آنذك في أواخر الستينيات من القرن الماضي الموسيقار علي ماهر، أحدث ثورة على القالب التقليدي السائد، وعمل على تطوير الإيقاع اللحني بتنوع الآلات الموسيقية الحديثة، وكذلك تقسيمات مقاطع الأغنية الجميلة بشكل يمنحها مظهراً عصرياً، استحقت به (طوالي) دخول تاريخ الأغنية الليبية من بابه الواسع وتسجيل مبدعها وملحنها ضمن الرواد البارعين.
لقد تجاوزت أغنية “طوالي” الصورة الكلاسيكية للأغنية الليبية بجميع مكوناتها سواء مفردة النص المكتوب، أو الجملة الموسيقية، أو الأداء الرقيق المفعم بعذوبة الصوت وعفوية التعبير الطربي المتجاوز للتكلف الزائف والتصنع الدعائي.
هنا موسيقى المقدمة.. من بداية الاغنية.. وحتى بداية صوت المطرب (من دقيقة 0.01 إلى دقيقة 1.19)
هكذا انطلقت الأغنية بمقدمة موسيقية حرة لمدة حوالي دقيقة وربع تميزت بأنها طربية بامتياز، حيث اقتصرت فيها آلة القيثار على رد تحية الكمانات الجماعية، ودعوة بقية الآلات الحديثة خاصة القانون والكلارينيت، الذي ربما يظهر هنا للمرة الأولى في ألحان الأغنية الليبية المعاصرة، دعوتهم للعرس الموسيقي الجماعي الذي تراقصت فيه النغمات الرقيقة بكل انتشاء، وتنوعت بين مفرد وجماعي وصاعد ونازل، بشكل آسر آخاذ، صدحت به نفخات آلة الكلارينيت المتعالية في أجواء اللحن المفعم بالموسيقى، بدعم إيقاعي متواصل، تؤديه آلة “الدربوكة” الشعبية الرشيقة في درجات متسارعة، تصحبها أحياناً شقشقات آلة “الطار” الخفيفة في خلفية هادئة، وكل هذه الأجواء الترحيبية جميعها تؤثت لاستقبال الصوت الشجي المليء بالدفئ والحنين والشوق:
(طوالي مروح طوالي لصغاري والوطن الغالي
لناسي.. لخوتي
لناسي وعشرة جيراني لبوي وأمي وعيالي
طوالي راجع لحبابي
ويكفي من الغربة يا صحابي
والبعد اللي مغير حالي
طوالي..)
أما المقطع اللحني الثاني في أغنية (طوالي) التي لحنها الموسيقار علي ماهر فقد ظهر حزيناً ومفعماً بالآسى والشكوى والحنين سواء في نص كلماته أو في جمله الموسيقية التي كررها الفنان المطرب خالد سعيد ولكنها ظلت تفتقد مشاركة أصوات وزخم الآلات الموسيقية الآخرى، التي غابت كلها، ما عدا مجموعة الكمانات والايقاع الشعبي الفلكلوري الخافت الذي تواصل في درجته المنخفضة الدنيا:
(… طوالى وقلبي مشغول طوالي
متباعد ما عليا ملام طوالى
الوقت عالمشتاق يطول طوالى
واليوم اللي يفوت بعام طوالى طوالي
منهم ما جانى مرسول
يريحنى من حيرة بالي
ويكفي من الغربة يا صحابى طوالى
طوالي طوالي
طوالى مروح طوالى…)
في المقطع الثالث تغيرت أجواء الأغنية كلياً حيث استهل الفنان الموسيقار علي ماهر مبدع لحن أغنية (طوالي) الجميلة هذا المقطع بضربات إيقاعية سريعة، تتابعت قوية متتالية مصحوبة بخلفية دقات ورنات وشقشقات الطار الخفيفة التي مهدت لمجموعة من الآلآت الكهربائية والوترية لاستعراض عزف جملها القصيرة القرارية والجوابية المتنوعة، حيث تقدمتها أوتار القيثار الكهربائي، تلتها آلة العود الشرقي، ثم اختتمتها آلة القانون الرشيقة التي أفسحت الفضاء لهيمنة مجموعة آلات الكمان بالتوازي مع الإيقاع النازل تدريجياً، حتى وصلت إلى أسلوب النداء الحزين، والتوسل القاسي، الذي صدح به صوت المطرب، طالعاً ونازلاً، بتكرار شعوري، معبّر حسياً ومتقن فنياً، والذي سرعان ما تبدل مع الأيقاع الداعم حين وظف الفنان الموسيقار علي ماهر مبدع هذا اللحن، لوم الزوجة أم الأولاد وعتابها، وجعله يحرك المشاعر بشكل سريع فانتقل بلحنه إلى أجواء استباقية أبعد، ربما للتعبير عن بشارة اللقاء معها والعودة إلى أرض الوطن:
(.. يا شوق يا شوق
يا شوق اسبقنى وخبرهم
تلقاهم فية يستنوا
عاللي صايرلي خبرهم
قوللهم اليوم تهنوا
وأم ولادي عليَّ تلوم
تحسب في الساعة بليالي
ويكفى من الغربة يا صحابي
طوالى طوالى
طوالى مروح طوالى..)
منذ بداية المقطع الأخير لأغنية (طوالي) التي لحنها الفنان الموسيقار علي ماهر ارتفعت وتيرة ودرجة الإيقاع الفلكلوري الشعبي وتسارعت دقاتها إلى مستوى (المرسكاوي أو العتبي) القوي، تخللتها آلة الكلارينيت في نغمة مغايرة لما سبقها من نغمات بل جاءت جملتها في هذا المقطع مشابهة تماماً لآلة “المزمار” أو آلة “المقرونة” أو آلة “الغيطة” المعروفة والمشهورة في موسيقانا الشعبية الفلكلورية، وكذلك في موسيقى المالوف الليبي حيث تعد أحد أهم آلاته الموسيقية المدوية في ألحانه المتوارثة منذ قرون. والفنان الموسيقار علي ماهر وهو يستعيض هنا في هذا المقطع بآلة الكلارينيت الحديثة المعاصرة بدلاً من آلة الغيطة القديمة التقليدية، ليجعلها علامة للتحديث الموسيقي وتطوير آلاته، وهي إشارة ذكية ورسالة واضحة تبعث بها أغنية (طوالي) من خلال ملحنها إلى الموسيقيين والملحنين الليبيين.
(… لا نقدر نتريح يوم طوالى
ولا عاد عيونى تتهنى طوالى
كيف نرقد ويجينى النوم طوالي
وبيتى في رجوعى يستنى طوالى
وأم ولادى عليّ تلوم
تحسب في الساعة بليالى
ويكفي من الغربة يا صحابي
وطوالي طوالي
طوالي مروح طوالي)
خاتمة
لا شك أن هذه القراءة الانطباعية البسيطة تفتقد كلياً أصول وأحكام التخصص الموسيقي وقواعده الدقيقة، لأن الموسيقى علم من العلوم العريقة المتطورة شكلاً ومضموناً، والتي لا أدعي معرفتي أو إلمامي بها، ولذلك تظل هذه القراءة بعيدة عن النقد الفني المفصل الذي يغوص في عوالم المقامات اللحنية ودرجات السلم الموسيقى والأوزان والفواصل المتفرعة وغيرها من الجوانب الأخرى، ولكن إجمالاً يمكن اعتبار هذه القراءة دعوة للمتخصصين في علم الموسيقى للإبحار في هذه الأغنية (طوالي) وتشريحها موسيقياً وفنياً وأكاديمياً، لأنها ستظل تؤرخ لمسيرة الفنان الموسيقار علي ماهر الإبداعية وكذلك لتطوير وتحديث الأغنية الليبية المعاصرة.
__________________
نشر بموقع ليبيا المستقبل