يوسف اسنيدل
في استطلاع للرأي قام به المعهد الفرنسي للرأي العام حول موضوع “الفرنسيون والسلطة” نشرته صحيفة ousel France الأقليمية، وجد أنَّ 41% من الفرنسيين لديهم افتتان بالنظام الاستبدادي في فرنسا[1]. هذه النسبة تعد مخيفة في تصوري، خاصة وأنها في دولة فرنسا التي تبنت مهمة هدم الاستبداد انطلاقاً من ثورتها في القرن الثامن عشر وحتى يومنا هذا في أماكنٍ كثير ة من العالم داعمة لمشاريع كبرى ضد الاستبداد، وحسب هذا الاستطلاع وهذه النسبة نجد أن هناكَ غشاوةً تحيط بمفهوم الديمقراطية، حيث أن هذا الأمر يدعو إلى طرح الكثير من التسآولات الكبرى وخاصة تلك الأسئلة التي تتعلق بوضعنا نحن وطبيعة علاقتنا بالسياسة العالمية، ففي الوقت الذي تنادي فرنسا بأعلى صوت مخاطبةً شعوبنا عن حلم الديمقراطية والعدالة والخلاص من الاستبداد ، نجد بأنَّ المجتمع الفرنسي المشغول كل الوقت بممارسة الديمقراطية تلك يرجع إلى الافتتان بالنظام الاستبدادي القديم، فما السبب وراء هذا الافتتان،؟ إلا أن يكون هناك خللٌ في منظومة النظام الديمقراطي، ربما كان الخلل تأسيسياً أو ربما كان خللاً يرتبط بالقدرة على ثبات الممارسة في شكلها السليم لأطول فترة زمنية وفكرية ممكنة، بطبيعة الوضع فإنَّ التحول للنظام الديمقراطي جاء كردة فعل تجاه ضغوط استبدادية معينة، ولَّدت تلك الضغوط فكرة التحرر المطلق من التحكمات القديمة ورفض فكرة التحكمات الجديدة، واستبدالها بفكرة الحرية التي لا يتحكم بها أحد، وهذا المنعطف الخطر ربما هو من شكَّل المشهد الاستبدادي الجديد والذي يعلن صراحة بأنَّ الجميع تحت الدولة وبأنَّ الشعب الحر ليس حراً في كل الأوقات وفي كل الأفعال، فإذ ما انفلتت الحرية من تحت الرقابة فإنها ستؤدي إلى كارثة، فإنَّ الثورة والتمرد تفتح الشهية نحو الرفض المتعنت، وتهدد غائية الرفض في حد ذاتها، فقد لا نجد ما يبرر أو يترجم أفعالنا المتحررة إلا أنها حالة تفريغ للكبت الذي تنتجه مشاكلنا الشخصية في كثير من الأحيان.
يقول د. ساري حنفي، رئيس الجمعية الدولية لعلم الاجتماع في مقال له عن السوسيولوجيا الكونية ” إنَّ الخطر المتربص بالنَّاس، هو الطلب المتزايد على الاستبداد في أمكنةٍ كثيرة من العالم[2]. هذه الجملة مربكة في الحقيقة جداً، ففي الوقت التي تتكالب مجتمعات العالم الثالث على إحداث تغييرات جذرية في أنظمة الحكم والتحول إلى النظام الديمقراطي، مثلما حدث في دول عربية عدة، نجد أنَّ دولة كفرنسا سبقتنا إلى التجربة الديمقراطية بزمن طويل من الممارسة، مفتونةً اليوم بالنظام الاستبدادي القديم، فيبدو أنَّ العالم ليس سعيداً كما يظهر في الإعلانات.
هذا الخبر لا يشجع على نجاح تجربة التحول في الوطن العربي خاصة في ظل عدمية الممارسة، فكيف لتجربة مثل الديمقراطية أن تنجح في أن تكون سلعة رائجة في بلادنا إذ كانت تسجل تراجعاً ملحوظاً في بلدان الممارسة، ولكن هل كان الآخر ديمقراطياً على طول الخط،؟. يفترض هنري .أ. جيرو مثلاً ” بأنَّ خطاب الحرية والمساواة، والتحرر الذي ظهر مع الحداثة، يبدو أنه فقدَ قيمته المتبقية بوصفه مشروعاً مركزياً للديمقراطي“ أيضاً مع الحرب على الإرهاب والأصولية السوقية والراديكالية الدينية، انهارت العديد من القيم الديمقراطية، وأول قيمة تصدَّعت هي حرية التعبير، يقول ميشيل بوراووي بافتتاحيته الحوار العالمي في عام 2017، والتي وضعها باقتدار:( دوترت [الفليبين]، أردوغان [تركيا]، أوربان [المجر]، بوتين [روسيا]، وبان [ فرنسا]، مودي [الهند]، زوما [جنوب أفريقيا]، وترامب [الولايات المتحدة]، يبدو أنهم جميعاً ينتمون إللى فصيلة متماثلة، من قومجية والرُهاب الأجانبي، والاستبداد)[3]. يبدو بأنَّ العالم الغربي يواجه تذبذباً في مؤشر الديمقراطية لكنَّه يُصرُّ على إخفاء الحقيقة والاستمرار في إداء دور زعيم الديمقراطية والحرية، حتى لا يخسر ثقة رعاياه ولكي يستمر في تضخيم قيمته وتلميع صورته فإنه يفتعل الكثير من الأزمات ويشعل الكثير من الحروب في بقاع شتى، حتى تلك التي تحت وصايته بغيةَ تعزيز عملية إنتاج الاحتياج الدائم والتبعية له وتعميق جذور الاعتماد الكامل عليه ليس حتى في حل المشاكل الخارجية بين الدول وإنما ربما حتى في إدارة الشؤون الداخلية لكثير من الدول.
في طرح الدكتور ساري حنفي سنناقش ثلاث مستويات مختلفة للاستبداد، واحد يتعلق بنظام سياسي، و الآخر مرتبط بمفصلة النسقين السياسي والاقتصادي وأخيراً يوجد مستوى التوجهات.
الاستبدادية العدوانية
في كتابه عملية التمدين يرى نوربرت إلياس أن المجتمع يتقدم مدنياً في إطار حركة تراجع العنف الفردي (تهدئة السلوك). وهذا المصطلح أراه مهماً جداً فمثل هذه التهدئة يمكن أن تتحقق عن طريق الإشباع والإرضاء، وذلك لتفادي تصاعد عملية الوحشنة *، أو كما يسميها جورج موس ( العدوانية)، والتي تبدأ كما تقول جوزيفا لاروش “بتدمير الروابط الاجتماعية والتضامن، وهذا يؤدي إلى نفي للآخرية واستبعاد الجماعات الأخرى مثل الفقراء والأجانب من المجتمع الوطني وتمكين بربرية يومية ضدهم لتشمل في نهاية المطاف عامة المجتمع“[4].وهذا ما ينعكس في كثير من سياسات ترامب اليوم تجاه الأقليات في أمريكا، فكيف يمكن أن تقنع أمريكا بعض الدول بتبني النظام الديمقراطي القائم على التعددية الفاعلة لمختلف المكونات، في الوقت الذي تحبط فيه مزاولة هذه العملية في مجتمعها، بإقصاءها للمكونات الأجنبية وتعبئتها لفكرة القومجة الأمريكية، إنَّ المشكلة التي يواجهها العالم في كثير من مناطق البؤر المتوترة سياسياً هي تأجيج العنف الاجتماعي، هذه المأججة الممنهجة التي تعد إحدى أدوات العمل السياسي المؤثر للدول الكبرى في العالم. حسب تعبير الآن غابون (pandora’s Box) إنه فيروس متحول لا يمن وقفه ولا يمكن احتواؤه وسيؤدي إلى تلوث شامل للجسم الاجتماعي، ويمكن توارثه بين الأجيال، ولا يمكننا التنبؤ بما سيحدث، فعلى سبيل المثال في البلدان العربية لا ينتهِ العنف باستقلالها، بل أصبح مستشرياً، لقد قامت الأنظمة العربية الاستبدادية المديدة بقمع مجتمعاتها بوحشية[5]. عن طريق انتهاج العنف الحكومي والمؤسساتي والبيروقراطي، فإنَّ تغذية العنف تفترض أن تُجذِّر ممارسته فكرة الاستبدادية، فالعنف يقود في نهاية المطاف إلى توريث الخوف من النظام وربما الخوف حتى من استبداله بنظام آخر قد يكون أكثرَ عنفاً ووحشية.
الاستبدادية النيوليبرالية
جاءت هذه الاستبدادية المسماة بالنيوليبرالية نتيجة لبعض أشكال التفاعل بين النسقين الاقتصادي والسياسي، النيوليبرالية شكل من أشكال الاستبداد الاقتصادي فهي تشير إلى تبني سياسة اقتصادية تحد من دور الدولة في قيادة الاقتصاد وتنقله إلى القطاع الخاص والذي تستحوذ عليه في كثير من البلدان الصناعية الكبرى عقليات اقتصادية منفردة ومستقلة عن المصلحة العامة للمجتمع، وتسعى بلا أدنى شكّ إلى تكديس رأس المال في يد أقلية اقتصادية محتكرة للفرص، فيتحول الاقتصاد القومي العام إلى ملكيّة إقطاعية تأخذ شكل الشركة الخاصة الحديثة التي تدير دولة بأكملها، وبطبيعة الحال فإنَّ مثل هذا المبدأ سيولِّد أثراً واسعَ النطاق على مستوى الظلم الاجتماعي والفقر والانهيار القيمي والاحتكارية الاستبدادية في المجتمع، ويزيد من فرص الدولة المركزية والقهرية التي يهيمن عليها أفراد محددون، وهنا تفقد القوى الاجتماعية تأثيرها على السلطة وينتهي بها الأمر إلى الخضوع التام للاستبداد، إذاً النيوليبرالية هي استبدادية الاقتصاد العالمي القائم على التصنيع الضخم والمتعدد وفتح الأسواق الشرهة وقيادتها، وطبعاً فإن المنتجات ليست كلها لإسعاد البشرية وإشباع رغباتهم ، فمنها ماهو لإذلال مناطق جغرافية كثيرة وأنظمة حكم وشعوب وتعميق فجوة الرغبات لرفع معدل الربح والامتلاك[6].
يعرض الدكتور ساري حنفي أربع سمات للاستبداد النيوليبرالي التي يمكن للمرء أن يجدها في دول الأطراف وغيرها من البلدان النامية.
– ترتبط أول خاصية بمرحلة الانتقال إلى الرأسمالية النيوليبرالية، والتي تتصف بضعف البرجوازيات الوطنية وغياب عملية التنمية الرأسمالية[7]. هذا الانتقال هو تشديد على ضرورة تقييد الدولة وإبعادها عن التدخل في الاقتصاد، فحسب هذا التوجه الأيديولوجي فإنَّ هذا الانتقال يزيد من فرص التحسن الاقتصادي للبلاد، أي أنَّ الخصخصة ستمكن من إحكام السيطرة على المقدرات وعدم انفلات الاقتصاد، وفي الحقيقة أن هذا التحول يعد خطيراً لأنه يمأسس لقبضة حديدية يستحيل تفكيكها ومراقبتها، لأنَّ من يمتلك الاقتصاد يمتلك سلطة ونفوذ القرار السياسي، وبالتالي “فإنَّ الدولة ستطوِّر الأنماط الاستبدادية للحكم من أجل تعزيز قوتها ضد الاستياء الشعبي“[8]
– تتعلق الخاصية الثانية بمركزية السياسة مع زيادة تكنولوجيا المراقبة والأمننة، ويصبح ذلك اعتيادياً في كثير من البلدان بما في ذلك البلدان الغربية، هناك مثال جيد يقدمه كمال بوراك تانسيل لسيطرة المركزية التنفيذية في تركيا، حيث تتركز صلاحيات صنع القرار الرئيسية بتزايد في أيدي الحكومة المركزية، في حين تتقلص السبل الديمقراطية المعارضة للسياسات الحكومية من خلال وسائط قانونية وإدارية، ومن خلال تهميش القوى الاجتماعية المنشقَّة[9].إذاّ فالتوجه الاستبدادي يأخذ بعداً قانونياً وإدارياً هذه المرة، أي أنه يستكمل مشروعه البنائي العام فمثلما يحتاج إلى اقتصاد يغذي الهيمنة الدائمة فهو يحتاج بقدر لا يستهان به إلى صياغة القوانين والسياسات الإدارية التي تحمي هذه الهيمنة من الانشقاق والتصدع والاختراق من قبل القوى المعارضة، ببساطة عليه أن يصوغ دستوراً للهيمنة، ولا يُستبعد أن يتم تكوين هذه المنظومة بمشاركة شعبية تحت ضغط حكومي و صناعة مبررات تجعل هذا النوع من الإجراءات مقبولاً على اعتبار أنه حماية للمجتمع ككل، وهنا تتراجع المصلحة الفردية للمواطن وتتقدم المصلحة الذاتية للاستبداد الذي يتعامل معه المواطن على أنه سيادة الدولة، وفي الواقع ماهو إلا قولبة للدولة في مجسم سلطوي أحادي التوجه والاتجاه.
التوجهات الاستبدادية
إنَّ آلية عمل الاستبدادية كنظام سياسي مرتبطة بتبني بعض المواطنين للتوجهات الاستبدادية[11]. أي أنَّ الاستبداد كسلطة قهرية مفروضة تستمد قوة السطوة التي تمارسها من إيمان النَّاس بالتوجه الاستبدادي وانخراطهم في ممارسته على المستوى الفردي والجماعاتي، وهذا ما يبرر تبني الاستبداد والاستماتة في الدفاع عن أيديولوجيته في أحيان كثيرة وهذا ما تمثله بعض حالات الدفاع عن النظام السابق في ليبيا عند ما يعرف بأنصار النظام السابق، ففي مثل هذه الحالة يتبنى أنصار النظام الدفاع عن التوجه الاستبدادي برغم أنهم متضررون من هذا الاستبداد، وهذه التبعية للاستبداد هي مولد الطاقة الذي يجعله يعمل باستمرار في تعميق جذور الهيمنة. فيخمد القادة الاستبداديون خيال أفراد مجتمعهم ويحولونهم إلى إنسان آلي وإلى فاعلين اجتماعيين يتبنونَ التوجهات الاستبدادية أو العقل الاستبدادي العملي كما ترى آني كوكوبوبو[12]. وعندما يسيطر قادة الاستبداد على الخيال العام للمجتمع، فهم لا يوظفون الأيديولوجية الخاصة بالاستبداد بصورة مباشرة، بل يصنعون المجسَّمات التي تمثل العدو الخارجي والحرب الاقتصادية العالمية على الدولة، والتي ستلعب الأيديولوجيا دوراً حيوياً في الإطاحة بهذه المجسمات التي تهدد المجتمع، فسياسة النظام السابق في ليبيا ضد العقوبات الأمريكية في تسعينيات القرن الماضي كانت جليَّة بخصوص هذه النقطة، لقد تم تعبئة الرأي العام ببراعة وشحنه ضد العدو الخارجي، وتم توطين الاستبداد بتحويله إلى حراك شعبي ضد العدوان الأجنبي، فخرج النظام منتصراً ليس في معركته ضد الأجنبي وإنما في حربه الاستيطانية لنيل السلطة المطلقة في حكم البلاد.
ترى كوك بأنه <ينبغي أن يتمتع المواطنون بالاستقلال الأخلاقي أو الإيتقي، حيث يستند هذا الاستقلال إلى الحدس بأنَّ حرية البشر إلى حد كبير، هي حرية تشكيل ومتابعة تصوراتهم عن الخير على أسباب منطقية خاصة بهم>[13].بصراحة تظل هذه الاستقلالية محل ارتباك، حيث أنها لم تضيف الكثير لفكرة التحرر من الاستبداد، فحرية البشر التي تستند إلى حرية تشكيل وتقييم التصورات حول الخير وتفسيرها بالمنطق الخاص لكل فرد، هي حرية متذبذبة لا يمكن أن تجسد المفهوم الشامل للحرية العامة، فحتى عند تكوين أفراد أحرار مستقلين بتشكيل التصورات عن الدولة والمجتمع وفق منطق ذاتي مستقل هو الآخر، فالحقيقة تقول بإنهم ليسوا مستقلين بالفعل طالما أنهم يحتكمون إلى معيار منطق ذاتي، وليس إلى قاعدة اتفاق تعددية حول حدود واشتراطات الحرية العامة في المجتمع، بمعنى أن هذا الاستقلال هو الآخر حالة انزِواء لتكوين استبدادية جديدة، وهذا ما يتجسَّد واضحاً في الكيانات الثورية التي تستلم مقاليد السلطة بعد الإطاحة بالأنظمة الاستبدادية، لتتحول فيما بعد هي الأخرى إلى أنظمةٍ استبدادية جديدة وربما أكثر قمعاً وبطشاً وشمولية.
في سيرورات الثورة والثورة المضادة في الوطن العربي والجدل القائم حول تحديد طبيعة القوى الديمقراطية، نادراً ما يعطى الاهتمام للعقل العملي للنخبة ويكتفي التركيز على من يتبع براديغم العلمنة، كان ينظر إلى القوى العلمانية على أنها محصنة منهجياً من أن يكون عقلها العملي استبدادياً بخلاف الحركات الإسلامية السياسية، والواقع أن هذا تسطيح أيديولوجي ويحتاج إلى تدقيق، ولقد عبر عن ذلك بوضوح محمد هاشمي حين أشار إلى أن الطرح العلماني تحوَّل إلى ” عقيدة شمولية أخرى تتصرف كما لو أنها تلم بكل قضايا الإنسان، وإن على نحو سلبي من خلال اللامبالاة وهو ما يحولها إلى مرجعية ملزمة بأوامر تكاد تتصف بالإطلاقية نفسها، والتي تتميز بها الأوامر العقائدية الديانية“[14]. هذه الاحتكارية للعلمانية تقيم شرط الاستبداد وهو دوجماطيقية الرؤية والقرار، فالأمر قطعاً لا يتعلق بماهية النخبة بقدر ما يرتبط بسلوكها،وليس منطقياً حصره أو اختزاله في الحركات الإسلامية حتى المتطرفة منها، فعلى الضفة المقابلة يوجد اليمين المسيحي المتطرف وهو يتمتع باستبداده الشرس ويمارسه بكل قوة ضد الآخر، وهذه الإقصائية غير مفومهة النشأة في مجتمع ديمقراطي حتى النخاع يؤمن بالتعددية الدينية والثقافية والعرقية والجندرية إلا إذ كان هناك مفهوم آخر للديمقراطية غير المعلن عنه.
اللامساواة < البركان النائم>
تستحق هذه القضية الكثير من النقاش والمحاولات الدائمة نحو التوصل إلى ما يضمن تطبيقها على أرض الواقع، كيف لا وهي أول شعار انتخابي للسياسيين وآخر ما يمكن النظر إليه بعد الوصول إلى السلطة، اللامساوة تشّكل أزمة العالم الحديث وخاصة في الدول النامية، فهي قاعدة العنف المجتمعي التي تخلق الانقسام والتمييز وطبقية الفئات الاجتماعية، كثيراً ما يتردد اليوم على لسان العالم خطاب الدعوة إلى المزيد من إحلال الأمن العالمي، غير أنَّ هذه الدعوة لا يمكن أن تفلح ما لم يتم تقديم المشاركة على الإقصاء والمساواة على اللامساوة في المجتمع وبين الشعوب، اللامساوة ببساطة هي تأسيس للعنف. ففي الوقت التي تنمو فيه مداخيل الأقلية باطراد تشهد الفجوة اتساعاً يفصل بين الأغلبية والأقلية المتنعِّمة بالسعادة والرخاء وهذا ما يولِّد الاستبداد الجديد غير المرئي والذي يفرض قوانينه الخاصة، يقول أحد الحكماء في العصور القديمة بأنَّ من “لا يتقاسم الثروة مع الفقراء فإنه يسرقها منهم ويجعل معيشتهم صعبة، فهذه الثروة ليست خاصة بنا لنحتفظ بها، ولكنَّها لهم“[15].إنَّ النظام المالي يجب أن يخدم النَّاس لا أن يحكمهم، وهذا ما لا يحدث في مجتمع مثل مجتمعنا العربي عامة والليبي على وجه الخصوص فنحن نواجه نظام مالي مركزي مستبد تُديره طبقة رأسمالية مستغلة لحالة الفوضى في البلاد والتي تحقق في ظل الأزمة أرباحاً مضاعفة من احتجازها لرأس مال الدولة واستخدامه في إطار مؤسساتها وعملياتها المالية المستقلة عن المصلحة العامة، وهذا الشكل من الاستبداد المالي عرفه العالم بدءً من النظام التقليدي الإقطاعي إلى استبداد الثورة الصناعية إلى مخلفات الحربين العالميتين والنخب الثرية التي ظهرت بعدها، تلك النخب السياسية والاقتصادية والاجتماعية المنتخبة من الشعب، التي أسميها “اللصّ القانوني“. وهو ما عبَّر عنه كلاوس دور في أن جدليَّة الإقصاء واللامساواة تفترض شكلاً جديداً ومحدداً في ظل الرأسمالية من خلال ما يسمى السلب الذي أنتج أكثر من أي وقت مضى تراكماً لرأس المال ذي الاتجاه الواحد والأكثر حدة[16].
هيمنة الثقافة والخطاب الكوني <<أمركة النظام العالمي >>
بلا شك بأن الاتجاه الليبرالي يمثل مرحلة نضوج الممارسة الديمقراطية في الغرب، وأنَّ التعددية بمفهومها الواسع أحد أهم أركان هذا الاتجاه المتحرر من قيود التمييز والعنصرية البغيضة، ولكني أرى بأنَّ التعددية الثقافية وبالتحديد هي من يجعل من هذا الاتجاه الليبرالي حصناً منيعاً،خاصة وأن الثقافة هي مشروع الهيمنة في القرن الحادي والعشرين. غير أنَّ مصطلح الثقافة لا يستخدم بمعنى الفنون والآداب فقط، بل يعتمد اعتماداً كبيراً على التعريف الذي قدَّمه عالم الأنثروبولوجيا سير إدوارد تايلور في كتابه ” الثقافة البدائية” الذي يشير فيه إلى أنَّ لفظ الثقافة يعني الكيان المركب الذي ينتقل اجتماعياً من جيل إلى جيل، ويتكون من المعرفة واللغة والمعتقدات الدينية والفنون والأخلاق والعادات والتقاليد والعرف والقانون ….ألخ[17]. يعتقد ستيوارت مل أنَّ الجماعات الثقافية الصغيرة تتنازل عن ثقافتها المتوارثة، لكي تنضم إلى ثقافة الأمم الأقوى[18]. لكني أعتقد أن تلك الثقافة القوية هي التي صهرت هذه الجماعات الصغيرة، بحجة ما تتطلبه طبيعة الدمج في المجتمع وفي الواقع كان ذلك الدمج غير متكافئ حيث خضعت تلك الجماعات الصغيرة وأرغمت على التنازل والتخلي عن هويتها الثقافية والتي لا يمكن أن تتخلى عنها بسهولة إلا إذ كان هناك شرط استبدادي من الطرف الآخر المهيمن. وهو ما تفطن له فلاسفة السياسة اليوم إذ تراهم يدافعون عن حقوق الأقليات في جميع أنحاء العالم، وهي حقوق تؤثر بشكل مباشر في مفهوم العدالة والمساواة ومن ثم في تطبيق الديمقراطية بصورة صحيحة[19].
لقد دخلت أمريكا الحرب العالمية الأولى، متمسكةً بخطاب مغاير كلياً لحلفائها الأوربيين، حيث أكد الرئيس الأمريكي توماس ويلسن بأنَّ بلاده لا تُحركها الأطماع الاستعمارية “استعمار التراب” خلافاً لحكومات القارة العجوز، وأن شعبه يقاتل قبل أي شيء من أجل الحرية، ضد الاستبداد الألماني والأنظمة الكليانية الأخرى ولا وجود لأي حالة استعمار تمثله أمريكا، لقد صنعت أمريكا من تجربتها الشخصية في نيل الاستقلال من الممملكة المتحدة خطاباً ومشروعاً كونياً وهو أن أمريكا ستكون في صفِّ الدول الحرة والمناضلة لأنَّ هذا هو قدرها المحتوم[20].
على هذا النحو بدأت مرحلة أمريكا البطلة التي تقف ضد كل أنواع الشر، وطالما قلنا ضد الشر فذلك يعني أنها تمثل قيم الخير والعدالة والمساواة وبمعنى أدق أمريكا لن ترتكب الشرور أبداً، لم تكن أمريكا حتى حدود 1919 فاعلاً مهيمناً كما أضحت فيما بعد، كانت تناضل وتقاتل من أجل فرض رؤيتها وتصورها الخاص لحل مشاكل العالم، وبينما كان الأوربيون يتحصنون بمستعمراتهم ويحاولون التشبث بالمجال الترابي، كان الأمريكان يتجهون بقوة نحو قسمة العالم وتصنيفه حسب أيديولوجيتهم القومية، وهذه القسمة لابد أن تأخذ شكلاً واحداً فقط كما يريد المخرج الأمريكي، وهو حتمية الصراع مع الآخر. الحرية ضد الكليانية والغرب ضد الشرق، صيغة الحرب الباردة في حد ذاتها تم ابتكارها في الولايات المتحدة قبل تصديرها لدول المعمورة[21]. لقد حسمت أمريكا أمرها وحزمت حقائبها أيضاً واختارت قضاياها وأصدقاءها وأعداءها ولو لفترة ما، فلقد اختارت شكلاً محدداً من اللعبة ويبدو أنها تجد فيه قوتها وحماسها الدائم، ويبدو أنه لا يزال هذا النوع من الخطاب الذي ربما مر عليه أكثر من مائة عام يلقى ترحيباً لابأس به وخاصة في دول الأطراف وما يعرف بدول العالم الثالث أو لنقل دول العالم البائس، وهذا هو قدر أمريكا المحتوم أن تكون نصيرة المظلوم والمستضعف في الأرض لأنَّها تحمل رؤية عظيمة أشبه بالديانة وربما حتى أكثر قداسة وهيبة في قلوب الشعوب، ولأنَّ لا أحد يمكنه إخراجك من الوحل إلا الذي أدخلك فيه.
<< كثرة الأمراء سوء، كفى سيِّد واحد، ملك واحد>>
بهذه الكلمات خاطب أوليس قومه في هوميروس، ولو أنه وقف عند قوله <<كثرة الأمراء سوء>> لكان أحسن القول بما لا مزيد عليه، لكنه حيث وجب تعليل ذلك بالقول بأنَّ سيطرة الكثيرين لا يمكن أن يأتي منها الخير ما دامت القوة المسندة إلى واحد، متي تسمَّى باسم السيّد صعبة الاحتمال منافية للمعقول، راح يعكس الكلام فأضاف << كفى سيد واحد،ملك واحد>>[22]. غير أن أوليس لا يمكن لومه كي يطابق بمقاله المقام لا الحقيقة. وليس مضحكاً أو تخاذلاً إذ قلت كفى سيّداً واحداً يمارس استبداده هو فقط، ولا كثرة الأمراء والأسياد والبؤس المتعدد، فإذ ما كان الاستبداد هو قدرنا المحتوم فليكن بيد واحدة إذاً، إنها الحقيقة التي لا مفر منها وغير ذلك هو مشاريع من التشريد والموت والأوبئة والجوع والفقر والاستغلال وهذا واقع ملموس في عالمنا اليوم دون مزايدات ولا شعارات تافهة، حتى إذ نجونا من أستبداد حكامنا فإننا لن ننجو من استبداد حكامهم، الاستبداد غريزة لا يمكن اقتلاعها من الجذور ولكن يمكن الحد من نموها ومن توحش ذلك النمو، ولكن الأمر يحتاج عملاً مشتركاً تسخر كل الجهود والموارد لتحقيقه على أرض الواقع، وليس مؤتمرات وندوات واجتماعات تزخر بالموائد والجلسات المرفهة في الوقت الذي يفقد الإنسان والمواطن العربي كرامته مقابل كسرة خبز، علينا أن نتخلص من استبداد ذواتنا أولاً ثم لنتحدث فيما بعد عن استبداد الدولة.
إنَّ الرهان اليوم ليس على استيراد ديمقراطية غربية نشأت في بيئة مغايرة وعلى قواعد مختلفة، فحتى صناديق الانتخابات قد تأتِ بالاستبداد. وخير مثال على ذلك الحزب النازي في ألمانيا عندما اعتلى سدة الحكم فإنه لم يسقط من السماء بل جاء من داخل الصناديق، وحالات مماثلة كثيرة وقريبة منا جداً،إنَّ الرهان في الواقع هو على خلق مجتمع يؤمن بالتعددية والآخرية وبالتنظيم المجتمعي ليولد الوعي بالمسؤولية الوطنية، إن علينا أن نصنع هذه الآلة التي تنظم حياتنا ومجتمعنا آلة التوافق والانسجام والاحترام المتبادل لحقوق الآخرين، هذه المبادئ ليست حكراً على أوروبا و أمريكا وليست منتجاتهم الخاصة، تاريخنا يزخر بهذه القيم وديننا يمتلك المنظومة الكاملة، غير أننا نختزله في خطابات العنف والعدوانية ونطمئن بالتبعية ونخاف مواجهة التيار والحقيقة والأخطاء التي اقترفناها منذ زمن بعيد والتي أسست هذا الاعوجاج ومنطقت استقواء هذا التخلف في عقولنا.
سأختم بهذه القصة من كتاب مقالة في العبودية المختارة لــــــــــ < إيتيان دي لابويسيه>[23]
كانت الديمقراطية في أثينا لا تنفصل عن سياستها المسيطرة أو الإمبريالية التي تكفل رغد مواطنيها، لذا أعلنت عليها الحرب عام 431 ق.م، درءاً لهذه السياسة مجموعة من المدن أو الدول اليونانية ترأسها إسبرطة، وهي ما يعرف بحرب البيلوبونيز، وفي العام 404ق.م انتهت الحرب الطويلة بهزيمة أثينا، وبأن أملت إسبرطة على شعبها مجتمعاً في مجلسه اختيار ثلاثين محرراً < لوغو غوافوي >[24]، أوكل إليهم تحرير دستور جديد، ولم يلبث هؤلاء الثلاثون الذين ينتمون إلى الطبقة <الأوليغاركية>[25]. أي إلى القلة الثرية ذات الحسب، أن استولوا على زمام الحكم، ولم يلبث حكمهم أن انقلب إلى رعب مسلط على الرؤوس، الجيش الإسبرطي يرابط فوق<الأكروبول[26]،الأجانب المقيمون في أثينا، ومواطنوها أنفسهم إما يُقتلون أويُشرَّدون، أو تُصادر ممتلكاتهم، أما الدستور الموعود فلم يرَ الضوء، وبلغت المأساة ذروتها حين قُتل زعيم المعتدلين بين الثلاثين، لاثيراميس، وانفرد بالحكم أعتاهم، كريتياس، إلا أنَّ الطغاة لم يستطيعوا دفع جماعة من المتمردين الذين ترأسهم ثراسيبول عن الاستيلاء على بيريه، مرفأ أثينا، بعد معركة قتل فيها كريتياس، وبهذا الانتصار تسنَّى الاتفاق بين المعتدلين من الأوليغاركيين وبين الديمقراطيين اتفاقاُ توسَّط فيه ملك إسبرطة، وانتهت المحنة برجوع النظام الديمقراطي صيف 403 ق.م، والقضاء على فلول الثلاثين، ويعد هذا الاتفاق صفحة من أمجد صفحات الديمقراطية في أثينا، لأن ثراسيبول قد أمكنه من جهة فرض مطالب الشعب ( أي الفلاحين والحرفيين وبعض التجار) ومن ناصره من العبيد والأجانب، ولكنه من جهة أخرى قد أمكنه إقناع الشعب بألا يشتطّ في مطالبه إلى الحدّ الذي يخلق حزازات وضغائن لا نهاية لها، في وقت خرجت فيه أثينا والدول اليونانية عامة من الحرب ضعيفة منهكة إلى حد لم تقم لها قائمة بعده، ومكنَّ فيليب المقدوني وابنه الإسكندر من افتراسها، ويذهب بعض الكتَّاب المعاصرين إلى أنَّ الاتفاق المذكور كان بمثابة النقلة التي حلَّت فيها فوقية القانون أو سيادته العليا محلّ فوقية إرادة الشعب، ولكن المغزى الأوضح الذي يخرج من هذا الاتفاق هو أنَّ القانون إنما يعني هنا العقد، الذي تمَّ بمقتضاه التراضي بين الطبقات في وقت لم يكن فيه بدُّ من التراضي.
____________________________________
المراجع
- حنفي، ساري (2019). السوسيولوجيا الكونية: نحو اتجاهات جديدة، مجلة إضافات، العدد 46،
- بوراووي، مايكل (2015). مواجهة عالم غير متكافئ.( ترجمة ساري حنفي، محمد الإدريسي)، مجلة إضافات، العدد (32،31). ( نشر النص الأصلي في عام 2014، خطاب رئيس الجمعية الدولية لعلم الاجتماع في مؤتمر يوكوهاما).
- كميليكا، ويل (2011)، أدويسا التعددية الثقافية. ( ترجمة أمام عبد الفتاح إمام) الكويت، سلسلة عالم المعرفة.
- فيني، كارولين بوستيل (2018). كيف يحكي الغرب العالم. ( ترجمة محمد نجيب فرطميسي)،مجلة حكمة،( رابط المجلة https://hekmah.org/)
- دي لابويسيه، إيتيان (2014). مقالة في العبودية المُختارة.(ترجمة مصطفى صفوان)، قطر، وزارة الثقافة والفنون والتراث.
الهوامش
[1] – حنفي، ساري (2019). السوسيولوجيا الكونية: نحو اتجاهات جديدة، مجلة إضافات، العدد 46.
[2] – حنفي،م.م، ص19
[3] – حنفي، السوسيولوجيا الكونية،م.م، ص12
[4] – حنفي،م.م، ص13
[5] – حنفي، السوسيولوجيا الكونية،م.م، ص14
[6] – حنفي، م.م
[7]– حنفي، السوسيولوجيا الكونية،م.م، ص15
[8]– حنفي، السوسيولوجيا الكونية،م.م، ص15
[9]– حنفي، م.م، ص15
[10] حنفي،م.م، ص16
[11]– حنفي،م.م.
[12]– حنفي، م.م، ص16
[13]– حنفي، م.م، ص17
[14] – حنفي،م.م.ص17
[15] – بوراووي، مايكل (2015). مواجهة عالم غير متكافئ.( ترجمة ساري حنفي، محمد الإدريسي)، مجلة إضافات، العدد (32،31). ( نشر النص الأصلي في عام 2014، خطاب رئيس الجمعية الدولية لعلم الاجتماع في مؤتمر يوكوهاما)،ص36.
[16]– بوراووي، مواجهة عالم غير متكافئ، م.م، ص37
[17]– كميليكا، ويل (2011)، أدويسا التعددية الثقافية. ( ترجمة أمام عبد الفتاح إمام) الكويت، سلسلة عالم المعرفة،ص10.9
[18]– كميليكا، أدويسا التعددية الثقافية،م.م، ص10
[19]– كميليكا، م.م،
[20]– فيني، كارولين بوستيل (2018). كيف يحكي الغرب العالم. ( ترجمة محمد نجيب فرطميسي)،مجلة حكمة،( رابط المجلة https://hekmah.org/).
[21]– فيني،كيف يحكي الغرب العالم. م.م.
[22]– دي لابويسيه، إيتيان (2014). مقالة في العبودية المُختارة.(ترجمة مصطفى صفوان)، قطر، وزارة الثقافة والفنون والتراث، ص29
[23]– دي لابويسيه،مقالة في العبودية المُختارة،م.م، ص67
[24] – لوغو غوافوي، <لم يتوفر شرح لهذا المصطلح ولكنه في إطار سياق القصة ربما يعني الاسم الوظيفي للثلاثين محرراً الذين أوكلت إليهم مهمة كتابك الدستور الجديد>
[25]– الأوليغاركية، أو الأوليغارشية وتعني حكم الأقلية وهي شكل من أشكال الحكم المنحصر بيد فئة صفيرة تتميز بالمال أو النسب أو السلطة العسكرية.
[26]– الأكروبول، أو الأكروبوليس ويعني المدينة العالية، ويشير بصفة خاصة إلى قلعة بنيت على أعلى مكان لحماية المدينة اليونانية القديمة أثينا،