يفصل المبنى المستطيل عن سوره الأمامي حديقة جدباء تتوسطها نخلة عالية، يفصل جانبيها ممر ضيق طويل يؤدي إلى باب حديدي أخضر. تدل تقسيماتها، وقطع الفسيفساء المتناثرة ، وأثر نافورة نافقة، ورخامات الممر المجوفة على أنها كان لها شأناً ذات يوم.
تناثر داخل الحديقة أصناف من البشر، رجالاً ونساءً وأطفالاً، يدهس بعضهم الوقت بقدميه، ويتحلق البعض الآخر في حلقات صغيرة يهمهمون في صوت منخفض، ويلتفتون خلفهم من حين لآخر، بينما غيرهم يحملق في السماء ويتنهد، بعض النساء جلسن على العتبات الرخامية للمبنى، يتهامسن حيناً وتعلو أصواتهن حيناً آخر، ثم سرعان ما تنخفض. بعضهن يمسكن بأياد صغيرة بحرص، وأخريات تتحلق فراخهن حولهن، لا تبتعد عنهن قليلا وسط الحديقة إلا لتعود اليهن وتتمسك بجلابيبهن. كان أغلب الرجال يدخنون بنهم، ينفثون الدخان “الرياضي” الرخيص المقلد، يقبضون بقلق على أعقاب سجائرهم، تزوغ نظراتهم. كان الجميع في حالة انتظار….
يمر داخل الحديقة بين الفينة والأخرى نوع آخر من البشر، يتحركون في خيلاء، يختالون بأرواب سوداء وحقائب جلدية، يتحدثون إلى قلة قليلة منهم، حديث المعلم لتلميذه، تعلو أصوات بعضهم، يلوحون بأيديهم في حركات استعراضية، لا يتوقفون عندهم إلا قليلا، ثم يتحركون مجددا جيئة وذهاباً في الحديقة، أو يبتلعهم المبنى المستطيل.
الجميع في حالة انتظار، حالة الانتظار هذه غير محددة، والكل أتى باكراً، بعضهم لم ينم ليلته، يفكر… الآخر قطع المسافات ليصل إلى هذا المبنى، والآخر وصل لاهثاً ظاناً أن الوقت نهبه، ليجد الجميع في حالة انتظار… وعادة ما يطول الانتظار… ساعات، إلا أن الحقيقة أنه انتظار قد مضت عليه أشهر تخللتها مواعيد حضور متواترة لذاك المبنى قد تستمر لسنوات.
ما إن تنتهي الجلسة، حتى تبدأ حالة انتظار الجلسة التي تليها، وهكذا دواليك، سلسلة من الانتظارات… حالة مستمرة، بكل القلق، والتوتر، والاستعداد، والتضرع والدعاء، تبلغ ذروتها بين رحاب تلك الحديقة التي يعيشون فيها انتظارا من نوع آخر، أشد وطأة، وأكثر كثافة، تمر الدقائق ببطء شديد، والكل في حالة استعداد، تتعلق الأعين بالباب الحديدي الرئيسي، تقبض الأيادي على الأصابع، تتحرك الأقدام كآلة الحصاد الصدئة جيئة وذهابا، يطأطي لها الزرع دون أن تقطعه.
تسري حركة مفاجئة في الحديقة، وهمهمات هنا وهناك، ترتفع الأعين صوب الباب الحديدي، لتتركز عليها… تنساب منه وهي ترتدي جلبابا أنيقا داكن اللون يلف جسدها المكتز، تنتعل حذاء بكعب عالٍ يدهس الرخام الصلد الأجوف في خطوات واثقة، قسمات وجهها رغم حداثة السن حادة، تزيد من حدتها نظرة صارمة لا تتجه نحو أحد من الواقفين، ذقنها يتجه إلى الأعلى، لتستلقي صفحة وجهها متوجهة نحو السماء، تزم شفتيها وتمطهما من حين لآخر، تحمل في يدها مظروفا أصفر سميكا تخرج من فوهته حواف أوراق، تتعلق به الأعين كلها، تنظر إليه بخوف واسترابة. تتدلى على إحدى جنبيها، حقيبة نسائية تحف الجلباب حيناً، تخبط جسدها حيناً آخر. تتجمد الحركة في الحديقة، ولا تتحرك إلا هي، والأعين التي تتبعها، تسلك طريقاً غير طريق أصحاب الأرواب السوداء، ما إن تفوت الجموع وتجنح نحو اليمين، متجهة إلى القاعة، حتى تتحرك الجموع بهمة ونشاط، تتبعها، تتلاصق الأكتف، وتتسابق الأجساد للدخول. لتسكن الحديقة الجدباء تماماً، إلا من هسهسة عراجين النخل التي لا تمل الانتظار.
تعج صالة الانتظار بهم، يبحث كل منهم عن بقعة يتعلق بها على الحائط، إلا من قلة سارعت واحتلت الكراسي المعدودة المتناثرة…. كرسي أو أثنان فارغان، كلما اقترب منهما أحد بتردد، هم الآخرون بالتنبيه…. ” امكسر “!
هكذا تبدأ حالة انتظار أخرى، يتخذ فيه أولئك البشر وضعاً آخر، تمتد فيه رؤوسهم مائلة صوب الباب المغلق للقاعة المؤدية للصالة، تتخذ الأذن موضعاً متقدماً ، الكل ينتظر أن يتحول إلى ملف ورقم وينطق بلفظ لا تخطئه الأذن هو اسمه. تفتح فتاة في مقتبل العمر ترتدي بنطالاً وقميصا طويلا، تغطي رأسها بإيشارب ملون، ضلفة واحدة من حجرة ضيقة هي “القاعة”، لتعود مسرعة إلى مقعدها بجوار “سيدة القاعة” التي تتوسط مكتباً خشبياً، تحول الملفات المتراكمة أمامها بينها وبين المنتظرين، بينما يتسلل صوتها من الحجرة بالكاد يتجاوزعتباتها، تشرئب الأعناق وتضيق الأعين، وتختزل الحواس جميعاً في حاسة السمع، في محاولة مستميتة لالتقاط الإسم، تلتقي النظرات، تظهر على صفحات الوجوه إشارات الاستفهام، تتمتم الشفاه مستفسرة عن الإسم، ولا تهدأ إلا عندما ينهض أحدهم، تتسارع خطواته نحو الحجرة ليلحق به الآخر قبل أن ينطق باسمه، غالباً ما يكون الحضور مزدوجاً، وأحياناً فردياً، وأحايين أخرى دون حضور.
تؤدى الأدوار داخل الحجرة بتكرار وتواتر في مشهد يعاد في كل مرة، تسلم الفتاة الملفات، الواحد تلو الآخر إلى الجالسة خلف المكتب الخشبي، بعضها وردي اللون أملس، والآخر رمادي أو أزرق مهتريء، منها المكتز ومنها الهزيل، نقشت على أغلفتها أرقام وأسماء، تتناوله منها، تمدده على سطح المكتب الخشبي، تنادي الأسماء دون جهد، تفتحه على عجالة، تخرج منه ورقة بيضاء من صفحتين، تمدها للفتاة، التي تشرع في الكتابة. ما إن تتكدس الأجساد أمامها، حتى تبدأ في التأكد من الهوية، ثم تسأل عن الطلبات، تشيح بوجهها عنهم صوب الفتاة، تتمتم لها بكلمات، تسارع الفتاة بعصبية للإمساك بها وتثبيتها على الورق، يتسرب أغلبها خارجه كقطرات صنبور مياه البلدية، تنظر في ورقة صغيرة أمامها، ثم تملي تاريخا ما، وتمد يدها لاستلام الملف الذي يليه.. توميء لهم رأسها بالمغادرة ” تفضل، الجلسة الجاية يوم ….”، تنهار حالة الانتظار فجأة، لتتجدد.
تظل الأعين في صالة الإنتظار مسمرة على الواقف داخل الحجرة، وهو يحرك قدميه أو أصابعه، تراقب الحركة الروتينية وكأنها تراها للمرة الأولى. تطفح على وجوه الواقفين أمام المكتب الخشبي علامات استفهام وقلق، نظرات زائغة تحاول أن تفهم ما يدور حولها، أو تائهة في استسلام كامل كأن الأمر لا يعنيها، يرون سنوات وشهور وأيام، وساعات الانتظار المكثفة في الحديقة الجدباء، وتلك المتحفزة للسمع في صالة الانتظار وهي تتكسر وتتبعثر داخل الحجرة، تنتهي الأدوار بسرعة، إلا من حالات معدودة غالباً ما يشارك فيها أصحاب الأرواب السوداء.
تتسع صالة الانتظار شيئاً فشيئاً، يخرج الواحد تلو الآخر، يمر الجميع عبر الحديقة الجدباء، ما إن تطأ أقدامهم الشارع، حتى تعود إليهم آدميتهم، يشعرون بأنهم بشر بعد أن كانوا أرقاما متحركة، وملفات ميتة، تسري الدماء في عروقهم، يشعر كل منهم بذاته من خلال الحركة الصاخبة من حوله، تعتدل قاماتهم، تسير بهم أقدامهم أين يشاءون، لتبدأ حالة انتظار جديدة، تصل ذروتها في تلك الحديقة الجدباء.
طرابلس: 10. 9. 2009