(1)
أنفق الضاوي أكثر من ثلث مرتبه المثقل أصلاً بديون مسبقة، على زيارة الأطباء والصيدليات، ولكن لا شيء يجدي.. حاول مع الوصفات الشعبية المجربة في بعض الدول ذات السعادة المفرطة – أيضًا دون جدوى – مشكلته بدأت خلال الربيع الماضي، حيث اكتسحته السعادة رغم الظروف التي تعانيها البلاد.
صار يضحك من أبسط نكتة، وصار يواجه طاحونة الحياة اليومية بالكثير من الحكم والمواعظ.. كلما سمع صوتًا لانفجار في المدينة، أو كلما تعرض صديق أو قريب لمرض عضال، أو كلما عجزت الحكومة عن تلبية احتياجات الناس، ابتسم وطفق يحلل الموقف، ويعد الناس بجبال من الخيرات.
(2)
لاحظ الناس طاقته الإيجابية المبالغ فيها، واقتنع هو أيضاً بأن ما ألم به ليس طبيعيًا، فقد كان أكثر الناس تشاؤمًا.
طلب منه أحد الأطباء إجراء تحليل لفيتامين (دال) ربما كان ارتفاع نسبة هذا الفيتامين في دمه السبب الرئيس لحالة البهجة التي يعيشها.. ولكن التحاليل أثبتت أن الأمور مستقرة.. بحث في عدد من الصيدليات عن دواء لجلب الاكتئاب، ولكن الرد دائمًا كان: نحن نستورد أدوية لمنع الاكتئاب وليس العكس.. ومع إصراره نصحه أحد الصيادلة بتناول القليل من المخدرات فهي تقلل مستويات التوصيل العصبي، وتقلل الاستثارة والتحفيز العصبي في مناطق مختلفة من الدماغ.. ولكنه استبعد الفكرة، لأنه لم يتناول في حياته أي نوع من الممنوعات، فهو ابن شيخ كما يقول دائمًا، وقد تربى في الزوايا والكتاتيب.. صيدلي آخر نصحه بتناول نوع من المهدئات، فهي تقلل من مستوى الإثارة.. غير أنه صرف النظر عن هذه الطريقة في جلب الاكتئاب نظرًا للأثار الجانبية التي لا يرغب بها، مثل الترنح أو الشعور بالنعاس، أو فقدان التركيز، وضعف الذاكرة.. فهو يريد ألا يكون سعيدًا وكفى، دون الدخول في أي مشاكل عقلية.
(3)
يومًا عن يوم وحالته تزداد تعقيدًا، فأصبحت صغائر المصائب مجرد فرص جديدة ليصعد أكثر على سلم السعادة والطاقة الإيجابية.
أخبر الأصدقاء والأقارب كافة، أنه على استعداد دائم للاستماع لهمومهم وأناتهم، علها تجدي معه نفعاً، وتعود به كما كان في سابق الأيام، عندما كان اجتياز سائق للإشارة الحمراء، أو غلق أبواب المصرف من قبل موظفيه قبل الموعد بساعة، يجعله أكثر سكان الأرض كآبة.
أصر ذات مرة على مرافقة قريب له لفتح محضر حول حالة خطف طالت ابنه.. فوجدوا أن مركز الشرطة مقفل بسبب خطف رئيسه.. ورافق ذات مرة شقيقه إلى المطار، قاصداً الأراضي المقدسة فوجدوا أن جميع الرحلات قد ألغيت.. الموضوع صار في نظر الناس أكثر من مشكلة اختلال في هرمون السعادة.. إذ صار الضاوي “عتبة” كما يقولون، إذ لم يسلم منه قريب ولا بعيد.. ما طالت حواسه شيئًا إلا أرداه هشيمًا.. صارت النساء تخاف على بناتها من العنوسة، فبنات الجار إبراهيم الجميلات الخلوقات، اللائي تخرجن مؤخرًا من الجامعة، واللاتي طالما رفضن العرسان، لا أحد يدق بابهن، ولا حتى ينظر لهن بربع عين.. وابن سالم صاحب محطة الوقود المجاورة، يعيد نفس المادة في كلية الطب بعد أن كان قاب قوسين أو أدنى من التخرج.. حتى سيارة سويلمة الموظفة بشركة البريقة، والتي استلمتها منذ أسبوعين فقط، تهشمت في حادث مروع.. يا الله ما أقوى عين الضاوي، هكذا تعالت الأصوات.. وجاء رجل من قرية مجاورة أن قيدوا ابنكم، أم سنكون له من المقيدين!
(4)
زار الضاوي عدة معالجين روحانيين، وأطباء نفسيين، غير أن الرجل يزداد سعادة على سعادته يومًا بعد يوم، رغم الظروف المعيشية الصعبة التي تعيشها البلاد.. إن سأله أحد عن حاله، كانت إجابته: ولا أروع.. إذا انقطع التيار الكهربائي لمدة يومين كاملين واتصلت به لتسأله عن لترين من البنزين لتشغيل مولدك، فلا تسأله كيف الأحوال، لأنه سيقول لك دون تردد: ولا أروع.. هذه الإجابة هي أكثر ما يمكن أن يستفز الناس حوله، فتفتقت ذهنية أحدهم على فكرة مبتكرة، ستعيد ضبطه وفق إعدادات ليبيا، كما قال.
أشار صاحب الفكرة على أن يأمنوا له وظيفة راصد بإحدى شركات الاتصالات.. حيث سيتمكن من الاستماع لمشاكل وهموم الناس علها تؤثر فيه.. ولكن لم تلق الفكرة أي دعم من الحاضرين.. حيث نسف عارف بأمور الاتصالات الفكرة من أساسها.. فليس هناك في شركة الاتصالات وظيفة راصد يتاح له الاستماع لمن يشاء.. أو أن يختار المطحونين أو البائسين.. فما أدراك! قد يقوده حظه فقط للسعداء أمثاله.. وأضاف ثالثهم: ما ذنب الذين سيستمع لاتصالاتهم، فالرجل معيان، وقد تصيبهم لعنته.
(5)
ظل الحال على ما هو عليه، إلى أن دلته الصدفة لمتابعة ندوة تلفزيونية، تحدث فيها أحد خبراء الاتصال، قائلًا: إن مشاهدة القنوات الفضائية الليبية، خصوصًا تلك التي تبث برامج التحليل السياسي المباشرة، هي السبب الرئيس في حالة الاكتئاب التي يعيشها المواطن!!
منذ ذلك الحين والضاوي يداوم على متابعة قنوات بعينها، بواقع مرتين في الصباح ومرتين في المساء.. بعد شهر واحد أحس بتحسن طفيف.. وبعد ثلاثة أشهر عاد إلى حالته الطبيعية.
طرابلس 29 مارس 2022
تعليق واحد
جميلة ومعبرة