.
هناكَ العديد من المعطيات التي جعلتني أصدّق حكاية المرأة ذاتَ الشعر الأشقر، والتي كانت تتناقلها ألسن سكّان وسط البلاد، كأسطورة.
سأسمّيها هنا “الشقراء”، دونَ مناداتها باسمها الحقيقي، ليسَ حفاظًا على سمعتها، باعتباري أنتمي لمجتمع يدّعي أنهُ محافظ رغمَ كمّية النفاق والجهل وانعدام الأخلاق فيه، بل لأنّنا في الشارع كنّا نسمّيها الشقراء، وحسب، دونَ ذكر اسمها، حتى نسى معظم الناس اسمها الحقيقي ولقبها.
هناكَ بالفعل، العديد من المعطيات التي جعلت الحكايات والأساطير التي نسجت حولَ الشقراء قابلة للتصديق، وذلكَ لأنّ هذا العالم بشع بقدر كبير يجعلنا نصدّق أيًا من هذهِ الحكايات الفنتازية والتي تنبعث منها رائحة البؤس. انّها حياة سوداء بشكلٍ حقير جدًا. عالم مرعب ومخيف بحقّ. لا أمان فيه ولا احساس بالطمأنينة. كل شيء فيه هشّ وقابل للانهيار، لتظهر لنا الصورة القاتمة والبشعة لما حولنا. لو تجرّد العالم من ألوانه، ولو تجرّد الناس من ملابسهم ثمّ جلودهم، لأكتشفنا كم نحنُ بشعين، ولعرفنا أنّنا فقط نرتدي أشياء ونغطّي أشياء أخرى لننسى كم أنّ الانسان حقير بفطرته. هناكَ خوف يتربّص بنا لنسيان حقيقتنا المرّة. هذهِ الحقيقة التي لم نكتشفها بعد. حقيقة في جوّاتنا، ولنسيانها اخترعَ البشر أساطير وحكايات. لهذا، ربما، صدقتُ الأساطير التي نسجت حولَ الشقراء. في عالم نصدّق فيهِ أساطير الألهة والأديان، يجب أن نتقبّل فيهِ أيضًا حكايا أخرى وأساطير أقلّ تعقيدًا من وحي أنبياء ظهروا في عصور ظلامية وفي قبائل تعاني التخلّف والجهل. أناسٌ وصلوا تفاهتهم وسذاجتهم حدّ تصديق أن أناسًا من قارات أخرى ومعتقدات مختلفة يقضون الليل والنهار يعملون لزعزعة ايمانهم، وكتابة أسماء رموزهم المقدّسة على باطن أحذية أو الاستهزاء بها في شعارات منتجات استهلاكية. إنّ تأليف كتاب سيء، كما يقولُ هنري ميلر، أفضل من العيش حياة بشعة.
نعم، هناكَ العديد من المعطيات التي جعلتني أصدّق أساطير المرأة ذاتَ الشعر الأشقر، والتي اختفت من شارعنا، ومن المدينة والبلاد ذاتَ ليلة صيفية. انتشرت الحكاية على النحو التالي: تعرّفت الشقراء على رجل ثري، يقيمُ في أمريكا وجاء لزيارة أهله في طرابلس. أحبّ الشقراء وأحبته، مارسا الرذيلة ثمّ قررا الفرار إلى أمريكا دون رجعة إلى ليبيا.
عندما هربت الشقراء من البلاد، لم أكن قد ولدت بعد. سأولد بطبيعة الحال بعدَ خمس سنوات من يوم فرارها، وكـ غيري من أولاد الحي، سأصطدمُ يومًا ما بحكايتها التي باتَ الشارع يتناقلها جيلاً بعد جيل، رغمَ اختلاف العديد من الحكايات والأساطير حولها، ودونَ معرفة الحكاية الحقيقية، ولكن الملخّص هو أنّ هذهِ الشقراء كانت “قحبة”، تركت زوجها وابنها الرضيع وسافرت مع ليبي يقيم في أمريكا، ومنذ ذاكَ الحين لم تعد. الحقيقة المؤلمة أيضًا، أن العديد من الحكايات التي نسجت حولَ قصة هروب الشقراء، قد وقعت في العديد من الأحياء الأخرى: نساء يهربنَ بشكل غريب ومثير للريبة. العديد من الرجال باتوا يخافون أن تهربَ نسائهم، فقاموا بملاحقتهن ومتابعة تحركاتهن، وباتَ الخوف من الرجال القادمين من أوروبا، ينتشر في كل أنحاء العاصمة، حتى صاروا يرونَ العائدون من الغرب، ذوي الملابس الأنيقة والجيوب الممتلئة بالنقود، باتوا يرونهم كمخلوقات من عالم أخر، بعيد جدًا، أرسلوا إلى المدينة الفاضلة لسرقة النساء. هناكَ حكاياتٌ أخرى، حولَ أنّ نسبة النساء في المدينة باتت تقلّ يومًا بعد يوم، وكان الرجال يخافون من أن يستيقظوا ذاتَ صباح، ليجدوا المدينة دون الاناث. ستصير المدينة فارغة من النساء. انّهُ الخوف الذي لاحقَ الرجال على مدى سنين طوال.. الخوف من الغريب، الخوف على النساء، الخوف من قدوم ذاكَ الصباح الذي سيكتشفُ فيه الرجال خلو المكان من النساء.
أهالي الشارع صدّقوا قصة هروب الشقراء رفقة الليبي القادم من أمريكا. قال عدد كبير منهم أنّ امرأةً بجمالها الفتّان الذي صرعت بهِ اهالي المدينة، تستحق السفر إلى أمريكا، خوفًا من هذهِ العيون التي تكادُ تلتهمها. البعض الأخر كلّما ذكروا اسمها بصقوا على الأرض ومسحوا أفواههم بأكمام قمصانهم ولعنوها لأنّها تخلّت عن زوجها المسكين وابنها الرضيع. النساء بالطبع تسابقنَ على نقل الشائعات والحكايات حتى صنعن بذلكَ أساطير وخرافات. يقال أنّ الشقراء تعرفت على الرجل القادم من أمريكا عندما زارها الأخير في المدرسة، حيثُ تشتغلُ كاخصائية اجتماعية، وأنهن رأونهُ يدخل شقّتها حينَ كانَ زوجها يناوب في عملهِ في الدكّان الصغير بشارع ميزران. انتشرت شائعة أخرى تقول بأنّ بعض النسوة في العمارة المقابلة للعمارة التي فيها شقّة الشقراء، قد شاهدنَ الرجل الأمريكي وهو يضاجعها على فراشها وفراش زوجها. لقد سمعتُ كلّ هذهِ الحكايات في العديد من المناسبات، وكنتُ كلّما ركبتُ سلالم العمارة إلى الشقّة حيثُ أسكن، كنتُ أقفُ مطوّلاً في الدور الذي فيهِ شقّة زوج الشقراء، وأتأملُ باب الشقّة في ظلمة الدور. لقد ظلّت هذهِ الشقّة فارغة ومهجورة مذ أن أقدمَ زوج الشقراء على شنق نفسهِ. بعدَ أسبوع فاحت رائحة العفونة في الطابق، فأستدعى جارهُ رجال العمارة، وقاموا بتحطيم الباب. كانَت جثّة الزوج معلقّة من رقبته عندَ سقيفة الباب. جثّة هامدة، تنبعثُ منها رائحة الموت. أنزلوا الجسد وهم يرتلون بعض الأدعية والصلوات. تقدّم نفرٌ منهم إلى داخل الشقّة، ليجدَ الطفل الرضيع على فراش الشقراء وزوجها. ساكنًا، وقد أزرقّ وجهه.”كانَ من الأفضل أن يموتا”، اتّفق الناس على هذا، وقالوا أيضًا “لو بقيا على قيد الحياة، للقّبا بـ زوج القحبة وابن القحبة”.
***
يخيّل لي أحيانًا أنّنا كائنات غير ملموسة. في الشارع، حينَ أمشي، وحيدًا، في مدينة لا أعرفُ فيها أحدا، أكتشفُ أنّني غير محسوس. في هكذا مدن كبيرة، عالم كبير، نصيرُ نقطة لا أكثر في لوحة كبيرة. الانسان ثانوي في لعبة الحياة هذهِ، ومهما كانت قصّتك أو حكايتك درامية وتراجيدية حدّ البكاء، إلاّ أنّها لا تعني شيئًا للناظر إلى هذا العالم.. الانسان مجرّد رقم لا أكثر. في الحرب التي ستخوضها البلاد، بعدَ ستّة وعشرين عامًا من اختفاء الشقراء، سيسقط العشرات من القتلى بشكلٍ يومي. في الوقت الذي تغتصبُ فيهِ كتائب الديكتاتور نساءًا ورجالاً في مصراتة مثلاً، سيكونُ هناكَ على طرف أخر من هذا العالم مجموعة من البشر، رجالاً ونساءًا أخرون، يستمتعون بممارسة جنس جماعي في احدى الشواطئ الساخنة. مهما كانت قصة الانسان درامية، فإنّها لا تساوي شيئًا، ولا قيمة لها.. لا يتعدّى الانسان كونهُ مادة وهمية، غير محسوسة، انّهُ جرثومة فقط لا أكثر.
انّ هذهِ الارهاصات، كانت نتيجة الحرب، وكانت نتيجة أشياء أخرى مرّت بحياتي. أتذكرُ أنّني كنتُ أحفظ القرآن في أواخر العام 2010. كنتُ قبل ذلكَ أعيشُ حالة الانفصال عن الواقع، وأعاني من اضطرابات نفسية شديدة، ولعلاج هذهِ الاضطرابات، قرّرت حفظ القرآن كي يساعدني الله على الخروج من هذهِ الهواجس. حفظتُ ثلاثة أجزاء من القرآن: عمّ، قد سمع، وتبارك، وكانَ شيخيَ، رجل أربعيني، بشارب خفيف، ووجه باسم وضحوك، على عنقه لطخة وحم تشبه سائل قهوة جاف على ورقة سمراء.
ظهيرة الخامس عشر من فبراير، أي قبل ساعات من بدء انهيار نظام الديكتاتور، حدثَ بيني وبين الشيخ نقاش حولَ الانتحار، أوصلنا هذا الحوار الوجودي للحديث عن زوج الشقراء وابنها.. لكنّ للشيخ حكاية أخرى، حكاية ستجعلني أعيدُ النظر في قصة الشقراء، وأن أستعيدَ ما سمعتهُ عنها.. انّها قصة غريبة، ولكنّني لشيء ما في داخلي، قررتُ تصديقها.
قالَ لي يومها وكنّا جالسين في ركن المسجد في فترة ما بينَ صلاة الظهر وصلاة العصر، أنّ الشقراء قتلت في ظروف غامضة، وأنّ روحها زارته يومًا هنا، “في هذهِ البقعة من المسجد”، وقد كانت تبكي وهي تتوسلهُ أن يخبر الناس أنّها لم تهرب، بل أنّها قُتلت، ماتت بطعناتٍ حادة، وأنّها لم تدفن بعد، وأنّ عليهم (أي الناس) ايجادها ودفنها. حكى لي الشيخ هذهِ الحكاية ومن ثمّ وضعَ رأسهُ بينَ راحتيه وبكى بصوتٍ مكتوم. سألتهُ عن سبب عدم حكيهِ هذهِ القصة للناس. كانَ سؤالاً غبيًا، وكانت اجابة الشيخ جاهزة: هؤلاء الناس لن يصدّقوا ما سأقوله.. هؤلاء الناس يؤمنون بالله وبالأنبياء والجنّ والسحر والقضاء والقدر والأرواح وتحضيرها، إلاّ أنّهم لن يصدّقوا حكاية روح امرأة تزوره لتبرئ نفسها وتقول بأنّها ماتت مغدورة.
“لو كانَ الله موجودًا، لما جعل هؤلاء ينعتونَ الشقراء بالقحبة، أستغفر الله، ليلاً ونهارًا.. لو كانَ الله موجودًا، لكانت على هذهِ الأرض عدالة.. لما كانَ الموت بشعًا.. أفهمتني؟ هذهِ الحياة بشعة ولا عدالة فيها.. الموت بشع جدًا”. هكذا قالَ لي الشيخ يومها.
في الأسابيع القادمة، أثناء الحرب، وحينَ كنّا نجمّع السلاح في بيت الشيخ استعدادًا لساعة الحسم، كانت الطائرات الحربية تقصف بيت الديكتاتور. أتذكرُ بأنّني دخلتُ نقاشًا حادًا مع الشيخ حولَ مصير الشهداء. كنتُ أعرفُ في قرارة نفسي أنّ الشيخ دخل بعمق في فلسفة عدمية الله، لكنّني كنتُ أذهبُ معه كلّ ليلة لبيوت بعض العائلات التي قتلت كتائب الديكتاتور أبنائها يوم انتفاضة العاصمة في العشرين من فبراير. أتذكرُ أنّنا حللنا بمنطقة سوق الجمعة، وطرقنا باب بيتٍ صغير، بباحة واسعة ونخلة طويلة في منتصفها. جلستُ واياهُ تحتَ النخلة، وجلسَ معنا الرجل المسنّ وزوجته وكانا كلاهما يبكيان بحسرة. قالَ لنا الرجل أنّ الحكومة سلّمت جثّة ابنهما الوحيد لهما بعدَ أن وقّعَ الأب مجبرًا على ورقة مفادها أنّ ابنهُ ينتمي لتنظيم القاعدة. قالَ ذلكَ، بينما كانَ نواح الأمّ يكسر سكونَ الليل. صبّر الشيخ أمّ الشهيد قائلاً أنّها ستراهُ في الجنّة، ثمّ قرأ آياتٍ من القرآنِ على روحه، ومضينا عائدين إلى شقته. في الطريق، قلتُ لهُ وأنا أشعل سيجارتي أنّني أعرفُ بأنّهُ لا يؤمن بالجنّة وجهنّم.. صمتَ للحظات ثمّ قال أنّهُ ليسَ بحاجتي لأخبرهُ بذلك، ولكن للأمهات حاجة بأن يعشن في الوهم. في وهم أنّهم سيعثرون على أولادهم يومًا ما في عالم أخر.. “على الانسان أن يتجرّع نوعًا من المخدرات ليجابه الحياة وقسوتها” قالَ الشيخ “لقد وُضعَ الدين لكي نخدّر عقولنا.. لكي نستطيع مجابهة الحياة.. هل تودّ منّي الأن أن أقولَ لهذهِ الأم أنّ لا جنة تنتظرها ولا نار؟ خلاص يا حاجة.. ولدك بااااح، لن تريه حتى في العالم الأخر!”.
حينَ وصلنا إلى شقّته.. انطرحتُ على الأرض ضاحكًا.. ضحكتُ بعمق، وضحكَ الشيخُ أيضًا، وانطرحَ على الأرض لندخل في حالة من الهيستيريا.. ثمّ بكينا بصوتٍ عالٍ، كسّر صوتَ بكائنا وقوع زجاجَ النافذة اثرَ قنبلة سقطت فهزّت الأرض تحتنا.
***
أشياءٌ كالتفاصيل التافهة، تفصلنا عن الواقع أحيانًا: تفاصيل اختفاء الشقراء مثلاً! هل حقًا أرادَ الديكتاتور لنفسهِ نهاية كهذهِ؟ لقد قلتُ ذلكَ وأنا أراهُ يُخرج من الأنبوب، ويتعرّض للضرب والرفس من قبل الثوّار. كانَ ذلكَ في أكتوبر 2011، وكنتُ قد نسيتُ الشقراء وحكايتها. نسيتُ موتها أو ظروف اختفائها. هناكَ موتٌ كثير مرّ في حياتي. العديد من أخبار الموتى تأتيني يومًا بعدَ أخر. كانت هذهِ الأخبار كافية لأن تتكدّس فوق أساطير حكاية الشقراء.. كانَ كلّ هذا محض موت. حتى عندما ودّعت الشيخ الذي كانَ ذاهبًا إلى تونس ليعودَ إلى البلاد عن طريق بوابة أخرى تحتَ سيطرة الثوّار، وينظمَ إلى إحدى حركات تحرير العاصمة، ودّعتهُ على أمل اللقاء بعدَ أسابيعَ قليلة.. اختفى الشيخ، وقالَ لي بعض العائدين إلى العاصمة أنّهم لم يروا الشيخ أبدًا في الحدود، ولا عن طريق اتصالاتهم بالثوّار في غرب البلاد. في الأشهر الأخيرة من الحرب، عثرَ عليهِ في حاوية بمدينة الزاوية، مسقط رأسه، رفقة عدد كبيرٍ من البشر الذينَ انظموا للحرب في صفوف الثوّار واعتقلتهم كتائب الديكتاتور وحبسوا في حاويات معدنية. ماتوا كلّهم في تلكَ الحاويات بسبب حرّ الصيف والاختناق والجوع والعطش.. فتحَ الثوّار الحاويات عندَ تحرير مدينة الزاوية في شهر أغسطس.. كانت رائحة الجثث فظيعة جدًا.. هناكَ، في زاوية الحاوية، عثرَ الثوّار على جثّة الشيخ، وفوقها جثث أخرى لأناسٍ أخرون. قالَ الطبيب الشرعي فيما بعد أن هذهِ الجثث ظلت في الحاويات ما يقارب الستين يومًا.
بعدَ تحرير طرابلس، حينَ دخلَ الثوّار إلى المدينة وأسقطوا نظام الديكتاتور. اكتشفوا العديد من الجثث التي كانت في الثلاجات ما يقارب الخمسة والعشرون عامًا… تلكَ الليلة، أي ليلة تحرير العاصمة، وأنا أراقبُ صورة الديكتاتور الضخمة في عرض الشارع، وقد مالت للسقوط.. رأيتُ الشيخَ يرقصُ ابتهاجًا.. صاحَ يخاطبني “وجدوا الشقراء.. كانت في ثلاجات الموتى… لقد قالت لي الشقراء حينَ زارتني روحها، أنّ الديكتاتور اغتصبها وقتلها… لم أكن ثائرًا بعد، لأخبرَ الحقيقة للناس في شارعنا”.