قصة

صوتٌ خفي

من أعمال التشكيلي_محمد بن لامين
من أعمال التشكيلي_محمد بن لامين

أقبلت عساكر الليل وغشي الظلام لحظ العيون، بزغ القمر في مسرح السّماء حيث اعتاد الجلوس مجاورًا لأصدقائه النّجوم، خرجت مسعودة عقب نوم زوجها الحاج سالم، كانت تسير على رؤوس أصابعها خوفًا من أن يسمعها الصغار أو توقظ زوجها، تركت باب المنزل مفتوحًا قليلًا وثبتته بحجر صغير يتوضأ به الحاج، ارتدت “فرّاشيتها” وغمّت بها وجهها كي لا يتعرف عليها أحد، واتجهت قاصدة البيت أعلى التّلة.

البيت الذي تحوم حوله الإشاعات ولا يقربه مخلوق، فقد بدا مسكنًا للجن وكل ما هو ملعون ومسخوط، كانت تسير بخطى متثاقلة يواسي سراجها خطواتها، تدسّ في جيوبها ما يحصي لسانك من ذهب غالٍ ونفيس، لم تخشَ أن يفتك بها حيوان أو مجرم، الأهم أداء ما ذهبت من أجله.

عندما وصلت إلى المنزل شرعت أسنانها تصطك، وبدأت قدماها الهزيلتان بالارتعاش، انتصبت أمام الباب كأنها تريد العدول عن رأيها، لكنَّ صوتًا خفيًّا في نفسها أمرها بالدخول، استجمعت ما يكفي من الشجاعة وطرقت الباب ثلاث مرّات، فتحت لها العجوز الباب وأشارت لها بسبابتها لتتبعها إلى حجرة مربعة معتمة، جدرانها كأنها من عصور غابرة تلاشى طلاؤها وعفى عنه الزمن، عندما تراها للوهلة الأولى تحسب نفسك داخل كابوس لا يمكنك أن تستفيق منه، كأنها كهف مظلم تقبع به الخفافيش، ستارها مسدل طول اليوم بمرور هزيل ضئيل من ضوء الشمس، إذ إنه يضايق ساكنة هذا المنزل، أمّا الكهرباء فقد استغنت عنها واستبدلتها بالوهج الخافت الذي يصدر من قنادليها.

وضعت في منتصف الغرفة طاولة مدورة برونزية اللون، فوقها تمائم وقلائد ذهبية، وعلى الحائط تدلّى رأس ثور قرونه تكاد تلامس جبهة الأرض، امتلأ جو الغرفة برائحة كريهة، رائحة البخور الذي اعتادت التطيب به.

جلست العجوز أمام موقد الفحم تمارس طقوسها المعتادة برمي بلورات الملح فيتصاعد صوت الطقطقة ويتناغم مع طقطقة رقبتها، شعرها منكوش أشعث خالطه البياض، عيناها غائرتان، وجهها منقوش بتجاعيد مترهلة، مقرونة الحاجبين، كأن الزمان نسيها في حفرة سحيقة فتراكمت عليها السنين بلا عدد محدد.

دلفت مسعودة الغرفة فرائصها مرتعدة، تحاول الدفع بأقدامها للتحرك كأنها غرقت في رمال متحركة الخروج منها ضرب من الخيال، تتنفس بصعوبة بالغة كمثل الذي يتنفس من ثقب إبرة، تحاملت على نفسها بلع ريقها الذي استحال بيداء قاحلة، حدثها ذاك الصوت الخفي مجددًا يبث فيها العزيمة للحديث فقالت:

– أتعبني زوجي برفضه التام لكل ما أطلب، أود منك جعله كالعبد ينصاع لي، أسوقه حيثما أشاء وكيفما أشاء! لا يعصي لي أمرًا ويكون كالخاتم الذي في يدي يلتف في إصبعي، وعندما أملُّ أرميه في صندوق!

ابتسمت العجوز ابتسامة خبيثة وكشرت عن أنيابها وأردفت:

– هذا فقط؟! سهل جدًّا، أريني صورته وأخبريني باسم أمه.

أرتها مسعودة صورة الحاج، وجه مبتسم تقوس حاجباه تقوسًا خفيفًا، واتسعت عيناه وانفرجتا انفراجًا طفيفًا، ثم أخرجت الذهب الذي أسال لعاب الساحرة وانتفخت به أوداجها، وشعرت كأنها وجدت كنزًا مرميًّا في أعماق البحر، أعطتها قماشًا أسود اللون أشبه بجورب لا ترى منه شيئًا، وأمرتها بوضعه تحت فراشهما، همت بالمغادرة بينما كانت تمعن النظر في المنزل، فحتى ممراته كانت موحشة ولا تمت بصلة للشعور بالأنس والطمأنينة، عادت إلى منزلها ونزعت الحجارة جانبًا واستلقت في حضن الحاج وكأنَّ شيئًا لم يحدث.

انصرمت أشهر عديدة تغيّر فيها اسم الحاج بين النّاس من سالم إلى ذيل مسعودة! أمّا مسعودة، فما زال ذاك الصّوت الخفيّ يحرّكها ويتلاعب بها كما تحرك القطط ذيولها. ذات مساءٍ توارى فيه القمر خلف الغيوم، ليلة حالكة كأنها جناح وطواط، كأنها لباس بني العباس، سئم الحاج سالم من تجبر وطغيان مسعودة وطفح به الكيل، فطفق يضربها في كل مكان دون توقف، كانت تصيح بأعلى صوتها “ارحمني يا حاج والله لن أعصيَ لك أمرًا”، لم يوقفه سوى بكاء أطفاله خوفًا على أمهم، تباعدت بينهما المسافة وخلد الحاج إلى النوم.

تأكدت مسعودة من نوم الجميع وخرجت كالمرة الماضية ظانة أنَّ السحر قد انتهت مدته، كان صوتها الخفي هو من زرع هذه الفكرة في رأسها، ولم تكن سوى بيدق ينفذ ما يُطلب منه، لكنها لم تعلم بأنَّ الحاج سالم كان يتبعها، فقد راودته الشكوك في الفترة الأخيرة واتقدت التساؤلات في ذهنه.

حمل معه بندقيته وسار بخطى متريثة يتبع مسعودة دون أن تدري، وصلت إلى بيت التلّة فأدرك حينها ما كانت تكيده زوجته، وما كانت تحوكه في الخفاء، التهبت أعصابه وأمسى يرى الدنيا شعلةً حمراء، دفع الباب بضربة من رجله وصوب بندقيته نحوهما، حاولت الساحرة الفرار فأرداها قتيلة.

في تلك اللحظة أدركت مسعودة أنه ما كان يجب عليها اتباع صوت شيطانها، لن ينفعها الندم الآن، جربت جميع الطرائق التي خطرت لها ليعفوَ عنها الحاج، لكن النّار التي تلتهم قلب الحاج سالم أقوى من أن تصْفح عنها، فأطلق رصاصة دفعتها بعيدًا وألقت بجسمها طريحة الأرض.

شعر الحاج سالم بالخزي والعار ولم يعرف سبيلًا لملاقاة الناس من جديد، ماذا سيقول عنهم النّاس؟ سيكونون كالعلكة في أفواههم وستلحقهم الفضيحة أينما حلّوا، فقرر الانتحار بإطلاق رصاصة في رأسه؛ أضحى منزل التلة مسبح دماء، ليتحول من المنزل المخيف إلى بيت الموتى!

مقالات ذات علاقة

“سباك” يبيع الكلمات بضمير مرتاح..

جمال الزائدي

دموع من قريتنا..

ناجي الحربي

فاجعة

سعد الحمري

اترك تعليق