حج إلى بيت الله الحرام بعد حصوله على الدكتوراه.. بعضهم يناديه الحاج.. والبعض يناديه الدكتور.. لم يتكل على مجد أبيه.. بل كان عصامياً.. جمع كلَّ ما استطاع من مالٍ ومن علم.. تزوج.. أنجب البنين والبنات.. طاف الأرض مشرقاً ومغرباً.. أكل ما لذَّ وطاب ، ولبس أفخر الثياب.
ذات ليلة جلس في مكتبه يفكر.. أرهقه السؤال :… ثمَّ ماذا بعد..؟؟
شعر بضيق واختناق.. ألقى نظرةً على أرفف الكتب التي تحاصره.. داهمته فكرة مقيتة.. كتبٌ ميتة لأناسٍ أموات.. يكاد يشم رائحة الموت تنبعث منها..
الساعة المعلقة على الحائط تنتهز السكون لتدق في داخل جمجمته، بينما لا يزال السؤال ماثلاً أمامه كضيفٍ ثقيل.. ثمَّ ماذا بعد..؟؟
تناول كتاباً.. حاول أن يقرأ.. أو بالأحرى حاول أن يهرب من هذا السؤال الفاجر.. لكنَّ السؤال ظلَّ يلاحقه ويتراءى له في صفحة من صفحات الكتاب.. ثمَّ ماذا بعد..؟؟
ألقى الكتاب على الطاولة..
لفَّ عمامته على رأسه..
خرج نحو المقبرة..
تسلل عبر فتحة في سور المقبرة القديم..
بالكاد تعرَّف على قبر أبيه..
عند طرف القبر لوحة رخامية كُسر جُزء منها..
استطاع على ضوء القمر الخافت أن يفرِّز ما تبقى من كلمات “قبر المرحوم الباشا محـ…”.. عاد إلى البيت حزيناً منهكاً يجر رجليه ويحمل في يده كِسرة رُخامٍ صغيرة مكتوبٌ عليها “ـمود”