ينتابني أحياناً شعورٌ بالوحدة.. أحسُ بالغربة.. أمتطي صهوة الخيال لأغيبَ عمن حولي .. سرعان ما يوقظني أحدهم ليفسد علي رحلتي .. أفضِّل عدم الرد على الهاتف.
أصابعي تعانق القلم .. أكتب .. أو بالأحرى أنفث على الورقة جزءاً من جحيم يعتصر قلبي .. أشعر بنشوة زائفة .. أخرج من البيت .. يعاود نفس الاتصال :
أين أنت ؟؟ ولمَ لمْ ترد على مكالمتي ..؟؟
أكذب : كنتُ نائماً ..!!
خارج البيت ينتظرني ألفُ سؤال وسؤال .. عليَّ أن أجيب عليها كلها بإجابات لطيفة مرفقة مع ابتسامة مصطنعة.
العم فرج عائداً من مزرعته يتلقف يدي بمجرفته .. حرارة المصافحة كادت تخلع كتفي .. يسألني عن الصحة والأولاد وجميع الأهل والأقارب واحداً واحداً .. باستثناء الأموات .. رغم أنه سألني نفس الأسئلة بالأمس.. ثم يودعني بعد أن جفَّ حلقي من كثرة الإجابات .
في الطريق كنتُ أفكر في طريقة تخلصني من حكايات الحلاق عن بطولاته وعن أملاكه في بلده .. بِدءاً من العمارة إلى محطة الوقود وقطع الأراضي وغيرها .. ثم يُقسم بأنه لم يخرج من بلده لحاجة .. وإنما حباً في السفر والترحال.
قلت في نفسي أحدثه عن الأدب .. فحكى لي عن روايات له ألفها ولم يطبعها لأنه لا يحب الشهرة .. وعن صداقات قوية تربطه بكبار الأدباء .. فسألته – عن حسن نية – عن أديب من بلده تُوفي قبل نصف قرن .. فأخبرني بأنه التقاه قبل ثلاثة أعوام .
لم أعلق .. شكرته على الحلاقة .. فابتسم لي ابتسامة مصطنعة.
ناولته أجره زائد نصف دينار بقشيش .. فصارت ابتسامته حقيقية تحتل نصف وجهه.
عدتُ إلى بيتي أحمل إجاباتٍ لأسئلة زوجتي المعتادة.
ولحسن حظي أن الحلاقين في بلدنا رجال وإلا لصارت إجاباتي منتهية الصلاحية.
بعد العصر ذهبتُ إلى المقبرة حيث مراسيم دفن والد صديقي .. ودون أن أنسى أتقنتُ وبمهارة فائقة ارتداء قناع الحزن ..
قدمتُ التعازي في المقبرة وتوجهتُ نحو خيمة العزاء لأبقى معهم –وكمزيد من المجاملة– إلى ما بعد المغرب .. ثم خرجتُ مودعاً صديقي بقولي :
(انشا الله خلف البركة) .
متجهاً إلى بيت صديقٍ آخر وبنفس المهارة استبدلتُ قناع الحزن بقناع الفرح ممرناً نفسي على ابتسامة تبدو نابعة من القلب .
في خيمة العرس .. فتحتُ ذراعيَّ قبل أن أصل إلى صديقي العريس ببضعة أمتار ..
عانقته بحرارة ..
قبلته بحرارة ..
صافحته بحرارة ..
ثم قلتُ له وبمنتهى الحرارة : (البقاء لله.!!)