لا زلت أذكر اليوم الذي سكنت فيه (كاتارينا) (خندق دورار)، حطت بها سيارة صغيرة سوداء مثل (فكرونة) أمام منزل (إمحمد علي)، وعندما فتح لها الباب برزت ساق تلمع خيطاً من خيوط البرق، بعدها خرج رأسها، أسود الشعر، تلفه في شال وردي، وعندما وقفت أطالت جيدها، تقلب السماء بعينيها، ثم استوت، تجول بمقلتيها تستوعب ما حولها.
كنت وقتها على (الدرجة) الثالثة من عتبة بيتنا، همي الوحيد أن أرى أشياء تعودت على رؤيتها، لا تتغير، ولا تتبدل، ليس بها من جديد، غير أن وقوف السيارة بدل كل شيء. أخرج (سي علي) البقال رأسه من وراء الطاولة، وسوى طاقيته، وتهدرت منه همهمة، صمت الفرن المجاور لبيت (إمحمد علي)، وخرج منه العاملون، وسمعت أصواتاً عدة لأبواب تفتح، أو نوافذ تصدر صريراً محتشماً. و(إمحمد علي) واقف، يمد يده إلى الوافدة البيضاء، يعينها على النزول من السيارة، يقلب عينه في الجمع، غير مستغرب من شيء، يشوب موقفه نوع من الزهو. وبعد أن أنزل (كاتارينا) وأوقفها أمام الباب، التفت إلى السيارة، واخرج منها حقيبة واحدة، ليقول في صوت عالٍ.
– جراتسي…(2)
عندها انطلقت السيارة، تاركة غباراً أصفر تتخلله بقع سوداء.
عالج (إمحمد علي) الباب، فلم يفتح له، ولم أكن قد لاحظت أن (عمتي سالمة) قد غادرت البيت، لا بل كنت قد سمعت لها ضجة، تنبئ عن أنها تحرك أشياء داخله، وأنها كانت تستعد لشيء ما.
– والله انكسره راهو.
– (والله ايديرها)
خطر لي ذلك وأنا أتحفز، أضع إحدى رجلي على (الدرجة) الأخيرة من عتبة البيت، وأمسك بأكرة الباب، أفتحه نصف فتحة، حتى يمكنني أن أهرع إلى داخله، إذا حدث ما كنت أتوقعه، فالجميع يعرف (إمحمد علي)، شاويش النقطة، لا يدخل الجامع، ويتردد على (حارة اليهود)، يرتاد الحانات، يخافه السكارى، ويتردد على ألسنة النساء أنه لا يحب (العربيات)، ويعاشر الإيطاليات، حاد الطبع لا يترك لأحد فرصة.
دخلت بيتنا وتسمرت في السقيفة، وكانت والدتي قد جمعت خلفها أربع بنات، يتلصصن بآذانهن ما يجري في الشارع، وكأنهن يشاهدنه روية عين، في نظرتها شماتة من (عمتي سالمة)، تمضغ بين شفتيها.
– طيح مزالة.. يجيب رومية!
وضحكات مكبوتة تتبادلها بناتها في لؤم.
ما استوت (كاتارينا) أمام الباب، إلى جوارها الحقيبة ترتفع حتى أسفل خط من فستانها المشجر الحريري، حتى تلفتت يمنة ويسرة كأن عنقها يمكن أن يدور دورة كاملة، عندئذ استطعت أن أقلبها على مهل. كانت طويلة، يقسمها إلى نصفين متساويين حزام أبيض، على عينيها نظارة سوداء، تمسك شعرها الأسود الفاحم بحزام آخر وردي، تضع يدها اليسرى على خاصرتها، وتمسك بالأخرى شنطة صغيرة، على شفتيها حزمة من الغضب والترقب، تضرب الأرض بطرف حذائها، ونهداها بارزان يرتفعان وينخفضان مع كل دقة من دقت (إمحمد علي) على الباب.
– تي بتفتحي وإلا ما يصيرش طيب.
لم تختف الابتسامة عن شفاه أخواتي، إلا أن والدتي ضمت يدها اليسرى إلى صدرها، وشهقت، وامتدت يدها اليمنى إلى كتفي تدفعني خلفها لتأخذ مكاني، إلا أني قاومت، وفجأة.. اصطفق الباب.. خرجت بعده الدجاجة (القرقانة) (لعمتي سالمة)، يعكر السكون نقيقها، لحقتها صرخة، تبعتها غرغرات لكلمات نصفها يصل كاملاً، ونصفها يضيع في الوسعاية، يرتقي سلماً سرياً إلى السماء.
– والله ماني قاعدة فيه.. آهي قصتي كانك ربحت.
تلي كل ذلك دخول (إمحمد علي) و (كاتارينا)، وخروج (عمتي سالمة) تهرع إلى الطريق الواسع.. ثم السكون.
* * *
بعد أيام ليست بالطويلة، تعود سكان الشارع على كاتارينا.. أما أنا فقد ألفتها..
في الأسبوع الأول كان عمال المخبز يصرون على الوقوف أمام بابه، يشيعونها، وهي تغادر، حتى تغيب في المنحدر، وكانت ابتسامة (عمي علي) تنفرج حتى يكاد فمه يتمزق، وهو يثبت عينيه على نهديها، يبادلها كلمات غامضة، متناسقة مع حركة يديه، يناولها ما تطلب وهي منحنية على (البنك)، مقاربة بين حافته وصدرها.. ومرات عدة شاهدته يتطلع إلى ما وراء الطاولة.. ولم تكن تبادل غيره القول..
ألفتها. وكان أول ما استقبلت به متابعتي لها عن بعد من فوق (درجة العتبة) نظرة خاطفة، وقفت بعدها بأيام تهز إصبعها ناحيتي.
– شيمو.. كي فوي؟ (3)
هزتني للحظة، انطلقت بعدها داخل السقيفة، ألاحظها من الفرجة التي تركتها مفتوحة، حتى تغيب في الانحدارة. ومن يومها، لصقت كلمة (شيمو)، أطلقتها على نفسي حتى رددتها أخواتي يوما ما، وعندما سمعها أبي، ضج منها، ولم تعد إلا صدى في داخلي، ونغمة على شفتي (كاتارينا).
تابعت (إمحمد علي) و(كاتارينا) بعيني، لم يعد (إمحمد علي) يغادر البيت إلا قبل منتصف النهار بقليل، يعود، محملا بعض الأحيان بقنينات تصدر رنيناً خافتاً، عند الغروب، يقفل على آثره باب المنزل، ولا يرى إلا بعد ضحى اليوم التالي، وكان قد أحضر عربة يجرها حمار، عليها (جليز) أسود وأبيض، صفه أمام باب البيت، وأمام المخبز، في الشارع، لمدة، ثم أحضر رجلاً، فتح له الباب ليوم، تحول بعده وسط حوش (عمتي سالمة) إلى بساط ذي تربيعات. وبعده، صار يعود أسبوعاً بعد آخر، بعربات تصغر، أو تكبر، محملة بأشياء تختلف عما يحوزه الناس في بيوتهم، وكل شيء مزدوج، كرسيان، طاولتان، واحدة لم تر النور، والأخرى تبثها (إمحمد علي) أمام البيت، وسرير عريض كبير له قوائم من نحاس أصفر، فراش أبيض واسع، وكلما أحضر يوماً عربة، وأدخل ما تحمله، خرج بعدها، يقف أمام المنزل، إلى جواره (كاتارينا) يضع يده حول خصرها، ناهضاً صدره.
– النوماسية وعليها الفراش للدار البحرية..
ثم ..ضاجاً،
– للدار البحرية.. (كاتارينا).
لأسمع صوت أمي من فوق رأسي.
– طيح سعده.. توا هذا راجل.. خيره ما خذي عواشة؟!
تعلمت ركوب الدراجة، وكان ذلك دافعاً لي لمتابعة (كاتارينا) إلى منتهى الانحدارة، إذ عنده يقف الشارع الترابي، ليمتد بعده طريق واسع مرصوف، تعبره الدراجات النارية وبعض السيارات، ويضج بحركة مخيفة وأناس يتصايحون، ويتعاركون، ورجال كثيرون وبعض النساء، عندها تغيب عني (كاتارينا) وسط الزحام، وأقف. إحدى رجلي على حافة الإسفلت، والأخرى لا تزال على الدراجة، قابضاً بيدي على مقودها خشية أن تنحدر، أراقب، أبحث، عن (كاتارينا) تعود إلى الظهور.
ما أن يعود (إمحمد علي)، حتى أنصب نفسي فوق عتبة بيتنا. استقر بي الأمر بعد مدة أن لا أخشى إن كان باب البيت مفتوحاً، أو كانت إحدى أخواتي قد سدته، أضم ركبتي إلى صدري، لا أحيد بعيني عن باب بيت (إمحمد علي) أصيغ السمع.. أترقب شيئاً ما، إذ لابد أن تضع (كاتارينا) قبل المغرب بقليل على الطاولة الخارجية المضلعة مفرشاً بين الأبيض والأسود، تصف عليها طبقين وقارورة منبعجة ولها لمعان أحمر، وكأسين.. ثم تضم إليها كرسيين، تنتظر (إمحمد علي)، فإذا خرج من الباب يستنشق بعض الغبار بتأفف، يبدو كأنه يسد أذنيه عن ضجيج المخبز، جلسا متقابلين يتهامسان بأمر غير مفهوم، ولا واضح، إلى أن تحضر (كاتارينا) وعاء المكرونة، توزعه بينهما، يتناولان الشراب، تشير إلى في ضحكة يخفيها انحسار ضوء الشفق.
– شيمو فوي!(4)
تجذبني أحياناً والدتي في عنف، تخلعني من فوق العتبة..
– ما سد المطلين غير السكير قدام الله وخلقه!
قبل الظهر مرات متباعدة، تقف أمام بيت (إمحمد علي) دراجة نارية مزدوجة، يمتطيها عجوز، يضع سترة رمادية بحزام يشقها نصفين، ولها جيوب، يبرز اثنان من جانبيها وعليهما زراير، وينتفخ صدره بجيبين صغيرين مزررين، وعلى رأسه قبعة مزينة بريشة، وساقاه بارزا الشعر، بسروال قصير حتى الركبة، وإلى جواره امرأة منتفخة، نصفها الأعلى يكاد ينزل بها حتى تغوص في الأرض، رجلاها منتفختان بيضاوان، تشقهما خطوط حمراء بارزة، تلبس جورباً كالرجال، وتنتعل صندلاً، تتدلى إلى جوارها شنطة، مجللة بالسواد حتى قبعتها.
وإذ يلجان البيت في سرعة بعد أن تفتحه (كاتارينا)، ينهال على سمعي لغط يتشابك، تخمد فيه رنة صوت الرجل، ليعلو وسطه ضجيج نسائي مبحوح.. وصرخات أتصورها (لكاتارينا).. تستقر في أذني منه كلمات.
– إيه أون موسلمانو (5)
غاضبة.. ضاجة.. رنة الاحتقار فيها تلونها بالغضب والاشمئزاز.
– أنكي إيو.. أنكي إيو! ساي (6)
لم تودعهما أبدا، على ما رأيت، (كاتارينا) على الباب، كل ما هناك أن الرجل كان يصفق الباب، يساعد المرأة في امتطاء الدراجة، يدوس بقدمه على آلة بها، لتنفث الدخان الأسود، وتزمجر، ثم يلوي عنقها في غضب كأنه يقتلها، ويهجران!
– أفا نكولو.. فا، أفا نكولو بوتانا!(7)
عندئذ تصاعد لدي ابتسامة، وأحس بفرحة، رافعاً رأسي، مديراً إياها إلى الخلف، لتستقر حدقتاي على كف أمي، تخفي بها ابتسامة لا أدري لها معنى..
مرتان أو ثلاث حضر الرجل والمرأة، ثم لم يعودا.
طال الزمن ب(كاتارينا) وبي… على الرغم من أنني لم أعد أقبع أمام البيت، إلا لماماً، وعلى كرسي أو صندوق، أمارس هوايتي.. إذ طالت رجلاي حتى وصلتا معمار المدينة الكبير الشاهق.. وتداخلت مع الزحام حتى عدت جزءاً منه، إلا أنني كنت أتابع (إمحمد علي) و(كاتارينا) على وجه الخصوص، وكنت أبادلها كلمات مقتضبة، معتادة التقطها من الأسواق.
– شيمو.. هيه!
وابتسم.
لم يعد عمال المخبز يخرجون عندما تنسل (كاتارينا) إلى الشارع، أو يتابعون جلساتها مع (إمحمد علي) أمام البيت، وأنفت أمي، بعد أن حذرها أبي، عن وضع خدها على حافة الباب، تتلصص الأخبار. إلا أن (عمي علي) لازال على حالة أمام (الطارمة) وراء (البنك)، يطيل الحديث مع (كاتارينا)، يقف على أطراف أصابعه، يمد عينيه، يلاحظ ساقيها، يكاد يشمهما.
في الأشهر الأولى كانت (كاتارينا) تتحسس بطنها، وهي تسير في الشارع كأنها على وشك الانتفاخ، إلا أنها كانت تضمر في نظري، تزيدها رشاقة، وكانت الأشهر الأولى صامتة، ساكنة في بيت (إمحمد علي)، لا تدور حولها أنفاس للقول، إلا حين يجلسان الواحد مقابل الآخر، على طاولة الشارع، يتبادلان الغموض الهامس، ويحتسيان الشراب الأحمر، ثم يلوكان المكرونة، ليدخل (إمحمد علي) يترنح، تلاحقه (كاتارينا)، تدخل الأواني و الكرسيين، تعلو بها في بعض الأحيان الهمسات لتصل إلى الحديث المسموع، وقد تخرج إلى الشارع صرخة، أو أكثر، من قعر الدار، لتموت عند فتحة الباب، فإذا انسدت منافذ البيت سكن كل شيء، وران الصمت.
ما انفكت بطن (كاتارينا) تزداد ضموراً، وقلت عودة (إمحمد علي) ما قبل المغرب، وبقى أحد الكرسيين فارغاً، تقابله (كاتارينا) تعاقر الشراب الأحمر، لا تلج البيت إلا بعد أن تفرغ القارورة، تدخل بعدها، تاركة في بعض الأحيان الأواني نظيفة، أو مستعملة، إلى أن يدخلها (إمحمد علي) عند عودته متى شاء، أو تدخلها هي في الصباح التالي، أو تختفي. وطال السكون، واستمرت بطن (كاتارينا) في الضمور، ولم يعد يسمع في البين إلا صوت (إمحمد علي) يضاجع الندم، يفرغ أحشاءها، ويتحدى (كاتارينا) بفاحش القول!
تم غاب.
غاب ولم يعد ذلك.
* * *
غاب (إمحمد علي) إذن.. هجر البيت، يدشنه الناس حوش (كاتارينا)، وامتنع السكان عن قول ما يضيرها، وجلهم نسى أمرها، زارها (الشيخ)، سلمها ورقة نعهد بعدها أن يودع لها لدى (عمي علي)، في نهاية كل شهر، مبلغاً من النفقة، وتجاسرت بعض النسوة يقفن أمام بيتها، يتبادلن معها الهمس بالإشارات، يمصمصن شفاههن، وهن يكملن الحديث تحت حيطان البيوت، ومرات يتضاحكن، بل إن أختي الصغرى أخفت عن والدتي أنها دخلت إلى حوش (كاتارينا)، لتجده نظيفاً أكثر من بيتنا، وحدثتني عن الدار البحرية المقفولة، وعن شجرة كروم تظلل نصف وسط الحوش،وقطعتان حمراوان منقطتان بالأبيض، على فراش أبيض واسع، تستظلان تحت نافذة البيت الغربية، يصدر عنهما صوت طفلين حديثي الولادة، تتمرغان على آثار إنسان كان يتوسد الفراش.
غاب (إمحمد علي) إذن.. وما غابت (كاتارينا) عن الخروج في الصباح، تتلفت يمنة ويسرة عند وقفتها أمام الباب، تقف عند (عمي علي)، قبل أن تنحدر إلى الشارع المرصوف والزحام المعهود، تسد الباب على الصمت، تمنعه عن الخروج، وكانت بطنها تزداد ضموراً، وهي تتلمسها في غدوها وعند رواحها، توحي إلى بأن ليس بها شيء.
لم تعد (كاتارينا) بعدئذ موضع اهتمام أحد. الأغراب والسابلة وحدهم يذهلهم الصمت الذي يلف البيت من الباب إلى نهاية الحائط الأبيض، ويظن بعضهم أنه سمع غرغرات لكلمات مبهمة، أو تنهدات مريض يتقلب على فراش بتوسده خارج الحجرات، وفي وسط الحوش، وأحياناً يحسون أن طفلاً أو أطفالاً صغاراً يناغون.. أما والدتي فقد أقسمت أن العفاريت تشارك (كاتارينا) مستقرها.
– اللي يعيش بروحه تونسه الجنون!
تقوم بعد منتصف الليل متى صار القمر بدراً، تسد ما قد يكون في البيت من منفذ، تستحضر دعوات وبعض الآيات، لا يأتيها النوم إلا في الضحى، و(كاتارينا) على حالها، تغادر متى جاء أوانها في الصباح، وتعود في المساء، حاملة حقيبتها منتفخة بشيء ما، أراقبها كلما عنت لي فرصة، لا أجرؤ على أن أطاولها الحديث، أو ألقي عليها قولا.. أزداد طولاً مع مرور الزمن، حتى أحس أنني قاربت أن أتساوى مع كتفها، تزداد ضموراً، وينحني ظهرها بعض الانحناء، وتتثاقل خطاها، وعلى بعد مني تلمع على صفحات شعرها خيوط رقيقة لماعة بيضاء، تصورت أنها غبرة من دقيق المخبز، فارق الحزام الأسود وسطها، وتهدل عليها فستان واسع يمتد حتى كعبيها، ولم يعد شعرها يزدان بالشريط الوردي.. أما ثدياها فقد هبطا على بطنها ينفخانها كأن بها شيء.
إلى أن جاء اليوم الذي دخلت فيه (كاتارينا) البيت ولم تبارحه.
أمس، رأيتها تحمل حقيبتها إلى جانبها، تضمها إلى جنبيها، تتحسس بها شيئاً. وقفت على واجهة البيت، ثم التفتت إلى الوسعاية، تناقلت عيناها صور البيوت، والمارة، والقاعدين، تلصصت مثل كل النساء النوافذ، استرقت السمع إلى ما يجري وراء الحجارة الصماء، نقلت أذنها إلى هدير آلة العجين في المخبز، مدت بصرها حتى وصل إلى مكان (عمي علي) ثم امتشقت ما بقى لها من طول، وتبتت عينيها في جبيني، تلامحت حينها بسمة على شفتيها، وبصيص شعاع يمتد من تحت جفونها وقولها.
– شيمو كومي ستاي.. (8)
استدارت ثم اختفت..
وبعد بعد يوم همست في أذني أختي الصغرى،
– صاحبتك تحجبت،
اختفت (كاتارينا)، ولم يرها أحد بعد ذلك.
* * *
لازال سكان (خندق دورار) يذكرون يوم الجمعة التالي على اختفاء (كاتارينا)، تنادي صاحب المخبز، وعماله، و(عمي علي) ووالدي، وتوجهوا إلى (الشيخ)، ينبئونه بأن رائحة كريهة تخرج من حوش (كاتارينا) وأن (كاتارينا) ذاتها لم تغادر بيتها لثلاثة أيام خلون، وأن أصواتاً مبهمة تشبه العواء أو النواح، تنطق من منافذ البيت،خاصة إذا ما جن الليل.. حين يستطيع من يكون بالجوار أن يسمع ما يشبه الدبيب، وأنهم طرقوا الباب وأصاخوا السمع…و…
– الدوة مش باهية،
– مسكونة وإلا..
– قتلها إمحمد علي.. لازم يبي الحوش.
– يا راجل خذتها سهوة..و..ماتت
– والله إلا العفاريت..
و.. عندما توجه (الشيخ) من مقره، تبعه جمع من الناس، بعضهم لا يعرف (كاتارينا) وما كان قد رآها، وبعضهم سمع عنها، ووجد الوقت ليمر على مقرها، وآخرون يرون في التظاهر مع الشيخ أمراً كبيراً…
عندما وصل الركب إلى (خندق دورار) اندسست وسطه، متحاشياً جانب والدي و(الشيخ).. إذ كنت أعرف (كاتارينا)، ورأيتها، وسمعتها مرات ومرات تناديني (شيمو)، وبادلتها القول.
هز الشيخ عصاه أربع، قبل أن يدق الباب برفق، ثم يعنف، ثم توكأ بها على صدره، وقبض عليها بكلتا يديه، ودفعها حتى كادت تتقصف.. مما حدا به إلى أن يقول، كأنه يخاطب الجميع..
– كسروه.. كسروه.
تلصصت في السقيفة، مفسحاً لنفسي مكاناً يقرب رويداً رويداً من وسط الحوش، منحنياً، دافعاً برأسي بين أذرع الرجال، مزاحماً بعيني، حتى انقشعت الظلمة، وبهرني الضوء الذي يضيء وسط الحوش. وعندما تراجع الرجال خطوة إلى الوراء، كنت وحدي تحت القوس الذي يشرف على الحوش، كانت شجرة الكروم تلقي بظلها على الجهة الغربية، تتدلى منها عناقيد يابسة، وأخرى ناضجة، وثالثة حصرم.. والحجرة البحرية موصدة عليها آثار صديد، تقشر طلائها، وفراش أبيض تحت نافذة البيت الغربية، على حواشيه قشور وعظام أسماك، تمتد عليه (كاتارينا) مفتوحة العينين، منبسطة الذراعين، وجهها إلى سماء صافية، شديد الزرقة، تحف بها عشر قطط، أو أكثر، تموء جوعي، مقرفصة على مؤخرتها، ترنو إليها، يلعق إبهام يدها اليسرى لسان قط أبيض منقط بالأحمر، ويلمس كفها الأيمن قط آخر أحمر منقط بالأبيض، يتمسح بكتفه على صدرها.
وغير ذلك… السكون!
____________________________
(1) عن (إشكالية القصة وآليات الرواية.. دراسة في أعمال القاص كامل المقهور)، عبدالإله الصائغ، منشورات دار النخلة للنشر، طبعة أولى. 1999
(2) شكراً (بالإيطالية).
(3) أيها البليد، ماذا تريد (بالإيطالية).
(4) أتريد، أيها البليد؟ (بالإيطالية).
(5) مسلم هو..
(6) حتى أنا.. حتى أنا: أتعلم؟
(7) إلى الجحيم.. فاسقة!
(8)أيها البليد كيف حالك؟