حاملا كفنه بين يديه, يتقدم القاتل وسط حشد من الناس,على يمينه يقف اهالي الضحية واقاربه وعلى يساره اهله واقاربه,يتقدم خجلا منكسرا, يسنده رجال تقاة من شيوخ الدين والقبائل, حتى يصل الى حيث يقف والد ضحيته او اقرب الناس له,يجثو القاتل بين يدي اهل الميت مسلما لهم عنقه وكفنه بين يديه, يقر بالجريمة باكيا ,ويطلب الصفح والسماح.
تمر لحظات ثقيلة وبطيئة يسودها الصمت والتوتر في انتظار قرار اهل القتيل بالعفو والقبول بالصلح, غالبا ما يأخذ النطق بالعفو والتسامح وقتا صعبا قبل ان يستطيع ولي الدم القول امام الجميع “سامحت واقبل بالصلح” وما ان يقولها حتى يكبر الجميع وتزغرد نساء الفريقين ويبدأ العناق وتنهمر الدموع لتطهير النفوس.
هذا الطقس الى جانب طقوس وعادات اخرى تعود الليبيون على اقامتها كلما دعت الحاجة لذلك , كانت طقوسا تلقى التبجيل والتقديس من الجميع لانها تحافظ على بقاء المجتمع وتحفظه من التفكك والتشرذم والصراع.
كان الليبيون قد طوروا عبر مسيرة طويلة من الصراعات ألية للتصالح , وظلوا يطبقونها لتستمر الحياة , ظلوا يجمعون قواهم لمواجهة ظروفا حياتية صعبة وسط بيئة شحيحة الموارد , كان االجفاف والعطش , وكان الجوع العدو الدائم المتربص بهم, لم يكونوا ملائكة ولا شياطين خالصين , كانوا وكما هم الآن بشرا فقط لا غير.
كان التصالح كما كان التصارع عادة ليبية يومية , فلا يمر يوم لايتقاتل فيه ليبيان لسبب ما,ولايمر ذلك اليوم دون ان تتحرك قوى التصالح لاصلاح ذات البين.
الليبيون افرادا وقبائل ومدنا, ظلوا يتصارعون , ويصل صراعهم وتدافعهم الى حد القتال وظلت نهاية كل ذلك التصالح , وترميم ما تكسر واصلاح ما خرب, لتعود الحياة الى مجراها الطبيعي , الى السلم الاجتماعي.
رغم كل ما يقال عن ثقافة الثأر وعن انتشارها وترسخها في المجتمع الليبي,فانها تكاد تكون قد اختفت منذ تأسيس الدولة الليبية خمسينات القرن الماضي و بدأت العائلات والقبائل الليبية تلجأ للبوليس والقضاء لاخذ حقوقها وتناقصت حتى تكاد تكون اختفت عمليات الأخذ بالثأر ولم تبق الا حوادث قليلة يذكرها الليبيون بألم واستنكار.
على عكس الأخذ بالثأر فأن اليات التصالح وقتل الفتنة والصراع ظلت تعمل حتى الآن, وظل الليبيون وأدوات المجتمع المدني “كما نسميها الآن” يمارسون طقوس وتقاليد وعادات التصالح ورأب الصدوع بين الاسر والقبائل والمدن.
كانت تلك الجهود الاجتماعية تبذل جنبا الى جنب مع القوانين والاجهزة الرسمية وكانت المحاكم واجهزة الأمن تأخذ بنتائج تلك الجهود بعين الاعتبار,لأن فلسفة العقاب كانت تهدف الى تحقيق السلم الاجتماعي وليس انزال العقاب بالمذنب لاجل العقاب.
نشأت الصناديق المالية للقبائل والمدن وللعائلات لتولي دفع “الدية” عن ابنائها ان ارتكب احدهم جريمة ولتكون “الدية” داعما اساسيا للتصالح والسلم الاجتماعين.
انخرط رجال الدين وعقلاء ليبيا بغض النظر عن قبائلهم ومدنهم في لعب دور المصلح بين المتخاصمين والمتقاتلين و نجحوا في لعب هذا الدور.
شيوخ وفرق الصوفية ظلوا ومنذ العصر التركي يقومون بهذا الدور ,يوفقون بين المتخاصمين ويجبرون المتقاتلين على الصلح , فلقد كانت فرق الصوفية تحمل راياتها البيضاء وتشق صفوف المتقاتلين كقوة فصل بين القوات وفرض ايقاف القتال, كانت لهم القوة الاخلاقية القادرة على فرض السلام والصلح على ابناء مجتمعهم, كان ذلك يحدث حتى ستينات القرن الماضي في البوادي والارياف الليبية ويسبق غالبا تدخل الدولة وقواتها الامنية.
كان بامكان زليطن واحفاد عبدالسلام الاسمر واتباعه ايقاف التقاتل بين مناطق غرب ليبيا كما كان بامكان السنوسية التدخل وحل النزاعات العائلية والقبلية في الشرق الليبي.
الليبيون بعد “فبراير” عطلوا كل تلك الأليات واعتبرها سياسوهم ادوات متخلفة ولاتحل مشاكل الليبين الجديدة , وتجند اعلاميوهم ومثقفوهم لقتل تلك القدرات والأليات دون ان يقدموا ادوات ولا اليات جديدة كبديل .
على هذا النحو تبدو كل القدرات الليبية للتصالح معطلة ,بل وتجند الفتنة تلك الأليات القديمة لتذكي بها الصراع والتقاتل , فتجمع المدن حلفاءها والقبائل حلفاءها لتمثيل مشاهد الصلح وهي لرص صفوف الفتنة وتقويتها, ليظل طقص الصلح والكفن لايقودان للصلح والسلم الاجتماعيين.