المقالة

د. على فهمي خشيم يطلق «البرهان»

كتاب البرهان للدكتور علي فهمي خشيم

قد لا نتفق مع الدكتور علي فهمي خشيم في بعض تفاصيل ما يطرحه من رؤى وأفكار حوتها العشرات من مؤلفاته التي أثرى بها المكتبة العربية، وقبلها مكتبتنا الليبية، وأخذت مكانها المرموق في تعاطي النخب المثقفة على امتداد الساحة الفكرية مع تلك الرؤى والأفكار.

وهذا رأي لم يكفِ حتى الدكتور خشيم نفسه عن التنويه إليه في أكثر من مناسبة ـ وهو الأمر الطبيعي ـ حين يتعلق الأمر بالإسهام الفكري والإبداعي، الذي لابد أن يتصل بالضرورة بعملية البحث والنقد والتحليل والتعدد، ولن يكتمل إلا بها، لكن المتفق عليه هو قيمة الدكتور علي فهمي خشيم التي يكتسبها من قيمة إسهاماته تلك، وما أثارته وتثيره من جدل ونقاش، وفي بعض الأحيان استغراب يتحول إلى استنكار صريح عند بعض الذين ربما غلب الموقف المسبق في أحكامهم على ما يطرحه، حتى أننا نجد في تلك الأحكام كثيراً مما يدخل في محاولات تصيد للمفردات وفصلها عن سياقها وربطها بمقولات بها من التسطيح، ما شجع أصحابها على تحويلها إلى نوع من الكاريكاتير الكلامي، مع أن الكثير من تلك المقولات كما يؤكد هو، قد تم تنسيبها إليه من قبل البعض من مخالفيه، وأنا هنا وقد يؤيدني كثيرون، لا أرى من الموضوعية والإنصاف الفكري أن يقيم باحث كبير مثل الدكتور خشيم من خلال مفردة أو مقولة ما، سواء ثبت أن صدرت أو لم تصدر عنه، ونحن نتكلم عن أكثر من أربعين سنة من العطاء الفكري والجهد البحثي والإبداعي قلما تركت وجهًا من مجالات المعرفة ولم تطل عليه، نتكلم عن قرابة أربعين مؤلفاً وعشرات الدراسات ومئات المقالات، تعددت بين علوم الفلسفة والاجتماع والتاريخ واللغة والنقد والسيرة وغيرها، ناهيك عن إسهامات مشهود لها في مجال التدريس والحضور الفكري والثقافي على الساحتين العربية والعالمية. مجمل هذا الإرث هو الذي يقيَّم به هذا الرجل، وهو الكفيل بالدفاع عنه، إذ لست هنا بصدد الدفاع عن الدكتور خشيم فقط.

هذه تحية له في عيد ميلاده الثاني والسبعين أطال الله في عمره وزاد في عطائه أولاً، وثانياً هي وقفة قصيرة عند جديد الدكتور خشيم الذي ينتظر أن يثير كالعادة جدلاً ونقاشًا واسعيْنِ حول مضمونه وسياقه والمنهج الذي أستند إليه والغاية التي يتوخاها، وهي كما يحملها عنوان هذا الجديد «البرهان على عروبة اللغة المصرية القديمة»، وهو كتاب (معجم مقارن) من ألف صفحة تقريبًا، حوى الآلاف من مفردات اللغة المصرية القديمة، مقترنة بما كافأها من المفردات العربية، أسبقها المؤلف بمقدمة أخذت خمسين صفحة من صفحات الكتاب، الذي صدر مشتركًا عن مركز الحضارة العربية في ليبيا. وفي هذه المقدمة يوضح المؤلف أن فكرة الكتاب (المعجم) بدأت عندما أصدر كتابه (آلهة مصر العربية) العام ١٩٩٠، وأنه عكف على هذا الإنجاز طوال خمسة عشر عامًا، هادفًا إلى المساهمة في إزالة بعض الغبش الذي غطى الصورة الوثيقة بين لسان أهل وادي النيل الأقدمين وبين اللسان العربي المبين، فتثبت عروبة مصر التي أراد لها البعض أن تحسب منعزلة عن محيطها، وتوهموا أن الحضارة الفرعونية نبتت وازدهرت بمعزل عما حولها، مبينًا أن أهم وسيلة لإثبات ذلك والتأكيد عليه هي اللغة التي يرى أنها كائن حي ينمو ويتطور مع نمو الإنسان وتطوره عبر العصور، وأنها تمثل كينونة الأقوام وذاتية الشعوب وبها تعرف صلات الأمم بعضها ببعض، ثم يورد العديد من المقاربات والأمثلة الدالة في هذا السياق.

د. علي فهمي خشيم
د. علي فهمي خشيم

في ندوتين متتاليتين اختار لهما الناشر المصري كلاً من مكتبة الإسكندرية ومكتبة مبارك بالقاهرة، وأدارهما الدكتور أحمد الصاوي الأستاذ بكلية الآثار بجامعة القاهرة، في حضور حشد من الأكاديميين والمثقفين المصريين والعرب، أطلق الدكتور علي فهمي خشيم (برهانه) مؤكدًا على ما أورده في مقدمة كتابه من كشف وتأكيد وتأصيل لعربية اللغة المصرية القديمة، منطلقًا من منهج وحدة التراث واللسان العربيين التي تربط بين سكان وحضارات شبه الجزيرة ووادي النيل وبلاد الرافدين والشام وشمال أفريقيا، وأثنت المداخلات في مجملها على الجهد البحثي الذي عكسه مضمون الكتاب ـ وإن كان واضحًاـ حرص عدد من المتدخلين على أهمية إثراء هذا الجهد على قاعدة وضوح منهجية البحث، وتوسيع دائرة المساهمات البحثية، كونه يمس في العمق قضية كانت ولازالت مثار جدل النخبة المصرية تحديدًا، وهي سؤال الهوية، ولعل ما زاد من أهمية الحدث تزامن صدور الكتاب مع تجدد الجدل هذه الأيام حول هوية المصريين الحقيقية، والتشكيك في انتمائها العربي، وهو الجدل الذي أثاره الكاتب والسيناريست المصري المعروف أسامة أنور عكاشة الذي أنكر في ندوات ومقالات وجود «القومية العربية»، واعتبرها مجرد وهم مزعوم أدى إلى تمزيق القومية المصرية قائلاً بلهجة مصرية: «انسوا القومية العربية.. خلاص بح»، ونفى الهوية العربية عن مصر، بل ذهب إلى حد وصف العرب بأنهم قد يكونون أخطر على مصر من الغرب بعد أن اتهمهم بأنهم يعملون على سرقة دورها.

ولم يفوِّت الدكتور خشيم الفرصة لأن يشير وبمرارة إلى هذه الطروحات ويؤكد أن كتابه «البرهان» من شأنه أن يدعم حسم مسألة التشكيك في عروبة مصر وجذورها الحضارية العربية.

تبقى الإشارة إلى أن كتاب «البرهان على عروبة اللغة المصرية القديمة» يعد في تقييم الدكتور خشيم نفسه الأهم في قائمة إنتاجه البحثي، بل هو تتويج لهذا الإنتاج بتنوع أوجهه، ولعل ذلك ما يفسر انشغاله، وهو في أحرج حالات المرض الذي ألم به قبل عام، على مصير الكتاب فيتصل من سرير المستشفى بالناشر ملحًا عليه بالتعجيل في إصداره، وروى لنا أنه طوال فترة المرض كان يدعو الله أن يمهله من الحياة ما يكفي لإكمال وإصدار كتابه.

مقالات ذات علاقة

أين ليبيا التي عرفت؟ (11)

المشرف العام

ديالكتيك اياتي (100/4)

حسن أبوقباعة المجبري

أفيون الاقتباسات المبتورة!

عمر أبوالقاسم الككلي

اترك تعليق