يُعتبرُ الاهتمامُ بِجَوْدَةِ التَّعْلِيمِ أَحَدَ أَهَمِّ مُؤَشِّرَاتِ تَقَدُّمِ أيِّ دَولَةٍ؛ عَلَى اعْتِبَارَ أنَّ التَّعْليِمَ هُوَ المِحوَرُ الأَسَاسِيُّ فِي بِنَاءِ وَتَأْهِيلِ كُلِّ الكَوَادِرِ العَامِلَةِ فِي قِطَاعَاتِ الدَّولَةِ المُختَلِفَةِ، وَقَدْ أُطْلِقَ عَلَى الحُقبَةِ الخَاصَّةِ بِالعِشْرِينَ سَنَة المَاضِيَةِ “العقدُ الخَاصُّ بِالجَوْدَةِ”، وَحَسَبَ بَعْضِ الخُبَرَاءِ فَإِنَّ: “البَحْثَ عَنِ الجَوْدَةِ مَا يَزَالُ مَسْأَلَةً مَرْكَزِيَّةً تَتَمَتَّعُ بِالصَّدَارَةِ، فِيمَا نَحْنُ نَدْخُلُ القّرْنَ الحَادِي وَالعِشْرِينَ”، بِمَعْنَى أَنَّ مَوضُوعَ البَحْثِ عَنِ الجَوْدَةِ، وَخُصُوصاً فِي قِطَاعِ التَّعْلِيمِ، مَا يَزَالُ يَحْتَلُّ أَهَمِّيَّةً بَارِزَةً فِي ظِلِّ التَّطَوُّرَاتِ التِي يَشْهَدُهَا العَالَمُ كُلَّ يَوْمٍ، سَوَاءٌ عَلَى صَعِيدِ تِكنُولُوجيَا المَعْلُومَاتِ وَثَوْرَةِ الاتِّصَالاَتِ، أَوِ التَّنَافُسِ الشَّدِيدِ بَيْنَ المُؤَسَّسَاتِ التَّعْلِيمِيَّةِ عَبْرَ العَالَمِ فِي تَقْدِيمِ مُخرَجَاتِهَا التَّعْلِيمِيَّةِ وِفْقَ أَحْدَثِ الأَسَالِيبِ، وَاعْتِمَادِ مُؤَهِّلاَتِهَا مِنْ مُؤَسَّسَاتِ اعتْمَادٍ دَوْلِيَّةٍ مَرْمُوقَـةٍ.
وَإِذَا نَظَرْنَا إِلَى الجَوْدَةِ مِنْ مَنْظُورِ دِينِنَا الحَنِيف سَنَجِدُ أَنَّهَا أَسَاسٌ مِنْ أَسَاسِيَّاتِهِ، إِذْ جَاءَ التَّأْكِيدُ عَلَيْهَا فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ، قَالَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ العَزِيزُ: “وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ”.{سُورَةُ التَّوْبَةِ، الآيَةُ:106}، وَيَقُولُ رَسُولُنَا الكَرِيمُ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ: “إِنَّ اللهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَئٍ”، وَوَرَدَ أَيْضاً التَّأْكِيدُ عَلَى إِتْقَانِ العَمَلِ في السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ وَمِن ذَلِكَ: “إِنَّ اللهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلاً أَنْ يُتْقِنَهُ”. وَهَذِهِ الأَمْثِلَةُ تُشِيرُ بِوُضُوحٍ إِلَى أَنَّ الجَوْدَةَ تَرْتَكِزُ فِي الإِسْلاَمِ عَلَى: إِحْسَانِ العَمَلِ وَإِجَادَتِهِ وَإِتْقَانِهِ، وَذَلِكَ خَوْفاً مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَاسْتِشْعَاراً لِمُرَاقَبَتِهِ لِعِبَادِهِ فِي سَائِرِ أَحْوَالِهِمْ، فَهُوَ رَقِيبٌ عَلَيْهِمْ، وَسَيُحَاسِبُهُمْ عَلَى كُلِّ أَعْمَالِهِمْ.
وَرُغْمَ أَنَّ مَفْهُومَ الجَوْدَةِ (Quality) يَرْتَبِطُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَحيَانِ بِالمَدْرَسَةِ الإِدَارِيَّةِ اليَابَانِيَّـةِ، إِلاَّ أَنَّ هَذَا المَفْهُومَ يَعُودُ إِلَى أَفْكَارِ مَجْمُوعَةٍ مِنْ مُنَظِّرِي الإِدَارَةِ الأَمْرِيكِيينَ، وَمِنْهُمْ: جوزيف جوران، وإدوارد ديمنغ، وفيليب كروسبي. وَتُعَرَّفُ جَوْدَةُ التَّعْلِيمِ حَسَبَ (إي. جريدي بوج) و(كيمبرلي بنجهام هول) بِأَنَّهَا: “الانسِجَامُ مَعَ المُهِـمَّةِ، وَتَحْقِيقُ الهَدَفِ دَاخِـلَ مَعَايِيرَ مَقْبُولَةٍ بِشَكْلٍ عَلَنِيٍّ لِلْمَسْؤُولِيَّةِ وَالكَمَالِ”، وَهَذَا التَّعْرِيفُ -حَسَبَ رَأْيِّ وَاضِعَيْهِ- يُـؤَكِّـدُ فِكْـرَةَ أَنَّهُ يُوجَـدُ تَنَوُّعَـاتٌ مِنَ التَّمَيُّزِ فِي الأَدَاءِ الفَرْدِيِّ وَالمُؤَسَّسَاتِيِّ فِي آنٍ وَاحِدٍ مَعـاً. وَيَعُـودُ انتِقَالُ مَفْهُومِ الجَوْدَةِ الشَّامِلَةِ (Total Quality) إِلَى مَجَالِ التَّعْلِيمِ العَالِي فِي الوِلاَيَاتِ المُتَّحِدَةِ الأَمْرِيكِيَّةِ إِلَى مالكوم بالدريج، الذِي ظَلَّ يُنَادِي بِتَطْبِيقِ هَذَا المَفْهُومِ حَتَّى عَامِ 1987، حَيْثُ أَصْبَحَ تَطْبِيقُ الجَوْدَةِ الشَّامِلَةِ فِي التَّعْلِيمِ حَقِيقَـةً وَاقِعَـةً، حِينَمَا أُعْلِنَ عَامَ 1993 أَنَّ جَائِزَةَ مالكوم بالدريج (جَائِزَةٌ لِلجَوْدَةِ فِي مُؤَسَّسَاتِ الأَعْمَالِ فِي الوِلاَيَاتِ المُتَّحِدَةِ الأَمْرِيكِيَّةِ) قَدْ امْتَـدَّتْ لِتَشْمَـلَ قِـطَـاعَ التَّعْلِيـمِ.
وَعَلَى صَعِيدِ التَّجْرِبَةِ المَحَلِّيَّةِ فِي مَجَالِ تَبَنِّي مَفْهُومِ الجَوْدَةِ خُصُوصاً فِي قِطَاعِ التَّعْلِيمِ العَالِي نُلاَحِظُ أَنَّهَا مَا تَزَالُ مُتَوَاضِعَةً، رُغْمَ الجُهُودِ الكَبِيرَةِ التِي تُبْذَلُ، وَالخُطَطِ الطَّمُوحَةِ التِي تُوضَعُ؛ وَفِي اعْتِقَادِي أَنَّ السَّبَبَ الرَّئِيسِيَّ وَرَاءَ ذَلِكَ هُوَ: وُجُودُ الكَثِيرِ مِنَ التَّحَدِّيَاتِ وَالمُعَوِّقَاتِ فِي البِيئَةِ الأَكَادِيمِيَّةِ المَحَلِّيَّةِ (وَنَحْنُ مَا زِلْنَا فِي المَرْحَلَةِ الانتِقَالِيَّةِ)، حَيْثُ أَنَّ الجَوْدَةَ وَتَطْوِيرَ الأَدَاءِ يَجِبُ أَنْ تَنْطَلِقَ مِنَ التَّرْكِيزِ عَلَى كُلِّ عَنَاصِرِ العَمَلِيَّةِ التَّعْلِيمِيَّةِ، وَتَذْلِيلِ كَافَّةِ الصُّعُوبَاتِ التِي تَقِفُ عَائِقاً أَمَامَ تَطْبِيقِ بَرَامِجِ الجَوْدَةِ الشَّامِلَةِ، بِالإِضَافَةِ إِلَى ضَرُورَةِ تَبَنِّي الإِدَارَاتِ العُلْيَا لِمَوْضُوعِ الجَوْدَةِ، وَتَشْجِيعِهَا لَهُ، وَتَوْفِيرِ كُلِّ الإِمْكَانِيَّاتِ المَادِّيَّةِ وَالمَعْنَوِيَّةِ لِتَحْقِيقِهَا، وَالاسْتِفَادَةِ مِنَ التَّجَارِبِ الرَّائِدَةِ فِي هَذَا المَجَالِ عَرَبِيّاً وَإِقْلِيمِيّاً وَدَوْلِيّاً، مِنْ أَجْلِ السَّيْرِ قُدُماً بِمُؤَسَّسَاتِنَا التَّعْلِيمِيَّةِ العُلْيَا نَحْوَ التَّطْوِيرِ وَالتَّقَدُّمِ وَالرُّقِيِّ، وَلِيَكُونَ لَهَا مَكَانٌ لاَئِقٌ فِي التَّصْنِيفَاتِ الدَّوْلِيَّةِ لِمِثْلِ هَذِهِ المُؤَسَّسَاتِ، وَهَذِهِ الأُمُورُ بِطَبِيعَـةِ الحَالِ تَحْتَاجُ بِاسْتِمْرَارٍ إِلَى تَكَاتُفِ الجَمِيعِ فِي الجَامِعَاتِ وَالمَعَاهِدِ العُلْيَا وَغَيْرِهِمَا، وَإِدْرَاكِ أَهَمِّيَّةِ الجَوْدَةِ فِي الحَيَاةِ الأَكَادِيمِيَّةِ، وَدَوْرِهَا المُهِمِّ فِي التَّقْييمِ وَالتَّطْوِيرِ، كَمَا تَتَطَلَّبُ أَيْضاً العَمَلَ عَلَى نَشْرِ ثَقَافَةِ الجَوْدَةِ بَيْنَ الطُّلاَّبِ وَأَعْضَاءِ هَيْئَةِ التَّدْرِيسِ وَالمُوَظَّفِينِ، عَبْرَ كُلِّ الوَسَائِلِ الإِعْلاَمِيَّةِ وَالتَّثْقِيفِيَّةِ المُتَاحَةِ، لِتَكُونَ مُؤَسَّسَاتُنَا العُلْيَا كَمَا نَطْمَحُ لَهَا دَوْماً رَائِدَةً وَمُتَمَيِّزَةً فِي مَجَالاَتِهَا، وَكُلُّ الأَفْكَارِ وَالخُطَطِ المُهِـمَّةِ فِي هَذَا المَجَالِ يُمْكِنُ تَحْقِيقُهَا عَلَى أَرْضِ الوَاقِـعِ إِذَا اجْتَمَعَتِ الجُهُـودُ، وَتَوَحَّدَتِ الأَهْـدَافُ، فِمِشْـوَارُ الأَلْـفِ مَيْـل يَبْدَأُ بِخُطْـوَةٍ..