عائشة ثبوت إبراهيم
تتوارى في قلب السلاسل الجبلية الكبيرة من الصحراء الليبية مناجم الفن الصخري التي خلفها قومٌ وهبوا قدرات فنية رفيعة، وتصل هذه النقوش في أكاكوس وتادرارت إلى مستويات متقدمة من الجمال والإدهاش.
حين أنشد هوميروس في الأوديسا قائلاً: “ليبيا حيث تلد النعاج الخراف ناضجة بقرونها”، كان مبهوراً بحضارة الليبيين القدماء التي تبدو أقدم الأعمال الفنية فيها وكأنها تظهر فجأة كقفزة مهولة من حيث الجودة وسط آثار النشاط الثقافي الإنساني، وحين قال هيرودوتس : “من ليبيا يأتي الجديد” ما كان ليخطر على باله أن اكتشاف المومياء الصغيرة بـ (وان موهاج) سيقلب موازين تأصيل الحضارة، وينسف الاعتقاد بأن الفراعنة هم من أوجدوا فن التحنيط، وما كان ليخطر على باله أن صحراء فزان الليبية ليست فقط الموطن الأصلي للفنون ولكنها الموطن الأصلي للغة والموطن الأصلي للآلهة والتدين وفكرة البعث والتحنيط والموطن الأصلي للدهشة والغموض.
“فبريزيو موري” عالم الآثار الإيطالي الذي زار ليبيا في سبع رحلات استكشافية لأكاكوس ما بين الأعوام 1955 إلى 1964 واتخذ موقعاً ما بين منطقتي (تين لالان) ووادي (تشوينت)، في مكان لا يبعد كثيراً عن كهوف تضم رسوم ورواسب (وان موهجاج) و(وان ميل). حين نشر نتائج أبحاثه في كتابه (تادرارت أكاكوس- الفن الصخري وثقافات الصحراء قبل التاريخ) ضمّنه معلومات عن أدوار الفنون الصخرية والمخابئ التي تحوي أهم نقوش ورسومات الليبيين القدماء وضمنه انبهاره وحيرته مما وصل إليه أولئك الأقوام من سمو وتطور.
الليبيون ومنذ ما يزيد على عشرة آلاف سنة يتركون رسائل على جدران الكهوف يقولون فيها أنهم ترفعوا عن التقاط الثمار وواجهوا بضراوة الحيوانات الوحشية العملاقة، ثم تحولوا من صيادين إلى رعاة متحضرين يدجَّنون الماشية ويحلبون البقر ويزعون أشجار الفاكهة، ويصففون شعورهم الطويلة الناعمة بأنفسهم أو بمساعدة رفاقهم، وأنهم كانوا يعيشون في تجمعات منظّمة يقيمون حفلات العبادة راكعين أو رافعين أيديهم إلى أعلى تضرعاً والتماساً للسكينة، وأنهم كانوا يعشقون الرقص ويقدسون الحياة الزوجية ويؤمنون بفكرة البعث، ولهم طقوس في السحر والشعوذة والطب والتحنيط.
لكن الحيرة التي لحقت بموري ليست من فحوى الرسائل أو مضامينها، أنها شىء أبعد من ذلك بكثير، شىء أخطر وأدعى إلى أن يقلب موازين تأصيل الحضارة، لقد أوحى موري في بحوثه وبتحفظ شديد بأن صحاري فزان كانت هي الموطن الأصلي للغة، وهو لا يعني باللغة ذلك المستوى المتطور من الخطاب الذي يعتمد على الكلمات المنطوقة، ولكنها اللغة منذ أن كانت مجرد رموز تشكل بداية الإدراك الواعي للبحث عن وسيلة للتخاطر ونقل الأفكار والخبرات.
ينطلق موري من فكرة: “أن الفنون الصخرية بأكاكوس هي أقدم ما وجد على سطح الأرض من آثار فنية، ولم يتيسر حتى اليوم العثور على (متن) من الأعمال الماثلة التي تكون قد سبقتها، ومن المسلم به أن قدمها غير مبالغ فيه لو قورنت زمنياً بكبرى الأعمال الأوربية من العصر الحجري الأسبق أي الباليوليتيك”.
هذه الأعمال المتناهية في القدم التي لم يتيسر العثور على ما هو أقدم منها، لم تأتِ هكذا فجأة، ولكنها كانت سلسلة طويلة من الصناعة الفنية تواصلت على مدى عشرات آلاف أخرى من السنين، حيث يوضح في مكان آخر: “إن التقنية المستخدمة من أصحاب النقوش تبدو في أعين الفنان المعاصر شيئا خارقاً حيث أن أخاديد النقوش عميقة ومتقنة، مما يدل على أنها حفرت بجهد وصبر وهي دليل على حنكة ومقدرة، فبعض النقوش نجد أنها ثمرة سلسلة طويلة من الخبرات أي نتاج (مدرسة) أما في الأعمال المدهونة فنجد أن الدهان مكون من المعادن المطحونة ومواد عضوية ممزوجة ببعضها بما يثـبِّـتها ويمنع تلاشيها، ليبقى أثرها ليس فقط في المجموعة بل إلى الأجيال اللاحقة، ولذا لا نحتاج لجهد بالغ لتخيل توالي المحاولات والأخطاء التي سبقت العثور على وصفة المزج المناسبة. وقد أسفرت التحاليل التي أجريت على المواد العضوية عن كشف مواد عضوية لها خاصية مثـبِّـتة، لذا فإن الوصفة تدل وبلا أدنى ريب على مستوى الوعي العالي الذي بلغه أولئك الفنانون، وهذا برهان قاطع على الإرادة الأكيدة بجعلها غير قابلة للفناء لعوامل الجو فهو إثبات لعمل نظري طويل أعقبه التطبيق”، هذا يعني أن تلك النقوش أنجزت على هذا النحو من الدقة والثبات بعد خبرة زمنية طويلة وانقضت عصور من الجهد والتجريب والتطوير حتى وصلت إلى ذلك المستوى من الإتقان. فإذا كانت أقدم النقوش قد أنجزت في عصر الصيادين هو الذي يعرف بدور الحيوانات الوحشية وهو الزمن الذي يسبق الألف الثامنة قبل الميلاد، فهنا يتحتم السؤال: كم من الزمن الذي قضاه إنسان أكاكوس حتى وصل إلى هذا المستوى من التطور الفكري والمادي الذي يؤهله إلى إنتاج هذه المشاهد الحضارية؟
ويقول أيضا: “أن جميع الأجناس البشرية تملك نفس الطاقات العضوية الكامنة لخلق ثقافة وتلقّي القدرة التعبيرية، لذا فإن الأحداث التطورية التي تساعد على اكتساب الثقافة واللغة ترجع للسلف كما هو الحال لدى جميع الأجناس البشرية مما يعني أن قدم اللغة لا يقل عن 30,000 أو 50,000 سنة وهذا الافتراض ليس من دراسة السلالات فقط، ولكن الثقافات المرتبطة بتلك الحقب تبرهن عن وجود أداة رمزية مختلفة عن اللغة ألا وهي: الإشارة الخطية”.
هذه الأداة الرمزية هي نفسها (الدلالات) التي تحدث عنها الفيلسوف الألماني (هانس غادامير) عند تفسيره للغة، مشيراً إلى أن اللغة ليست الكلمات أو الأصوات، بل هي الفكرة التي تترجم التجربة أو الخبرة لنقلها إلى الآخرين، وهذا يتفق أيضا مع الوصف الأرسطي الذي يؤكد أن اللغة لا تنصب على تعلم الكلام بل على إكساب المفاهيم الكونية القدرة على الاحتفاظ – أي الذاكرة – التي تجعلنا نتعرف على شيء ما باعتباره مشابهاً بعد عملية التجريد فتبرز معرفة متراكمة نسميها تجارب.
وبالرجوع إلى تفسيرات موري التي أعطيت للصور الحائطية في العصر القديم حسب مبدأ: “الفن من أجل الفن” اعتبرَ بعض الأعمال الجمالية أنها تخفي وظيفة وبنية ثقافية أكثر تعقيداً من ذلك، وأن تلك الصور هي شواهد متبقية حتى نفهم القليل من شذرات وعي الإنسان آنذاك بالأداة الجديدة(الرمزية)، فالإنتاج الفني هو أقدم صورة للخلق الرمزي، وحين اكتشف الإنسان الرمزية أخذ وبنفس البطء يكتشف إمكانية جعلها منقولة إلى غيره من أعضاء مجموعته بواسطة إشارات موصلة لمعنى أو معانٍ كثيرة، وأوجب الاعتراف بأن تلك الأعمال الفنية التي تؤثث صحراء فزان كانت بدون مراء حبلى بفوائد وأبعاد إضافية خارجة عن نطاق الفن وتقع في نطاق نقل الأفكار غير الشفوية والإيمائية، ويعتبرها من المراحل الكبرى التي مهدت مسيرة حياتنا نحو تعلم اللغة، فهي لا تختلف عن اكتشاف النار وعن تعلم الزراعة واستئناس الحيوان.
ويؤكد أن الأعمال الفنية الصخرية قد مثلت أول واسطة للتعبير الخطي الدائم عن المعلومات والأحاسيس وتجارب ادخرتها المجموعات لتنفذ منها إلى حيز اللغة ولذا تعتبر شواهد الفن لما قبل التاريخ أولى ظاهرة اللغة المرسومة وتتضاءل الشكوك بأن الكتابة نشأت منها وأخذت مختلف الأشكال التي اكتسبتها أثناء تطورها.