في صوته بحّة شجية قد يعتبرها الموسيقيون الأكاديميون نشازاً أو عيباً، لكن الذائقة الشعبية تقبلته وصارت تطرب له وتميزه عن كل الأصوات التي تغني غناء المرسكاوي القادم إلى بنغازي من واحة مرزق في جنوب ليبيا.. ربما نتيجة هذا القبول الجمعي، يمكننا القول إن عبد الجليل نجح في توحيد الذائقة الليبية كما فعل عدة مطربين في دول عربية أخرى.
أيام السلام والهدوء، كان لابد لك وأنت مار من شارع الاستقلال (عبدالناصر سابقا)، من رؤية كهل في حالة إعياء جالساً على مقعد متحرك لكنه يبتسم للجميع ويحي الجميع، خاصة مواكب العرس المارة من أمامه، والتي بلا شك أنه قد غنى في أعراس آباء وأمهات العرسان المتزوجين قبل قليل. لم يعبأ بنسيان عشاقه القدامى له، أو أصدقائه الفنانين الصغار الذين انتشلهم من الظلام إلى الضوء. ظل يبتسم، ظل يلوح للمارة بنبل، يمنح الحب مقابل الجحود. قبل أن أسأله عن حاله أجابني: “دنيا غرورة ما تدوم لوالي”.
بدأ عبدالجليل حياته ضابط إيقاع ماهر في فرقة الإذاعة في بنغازي عام 1966 تقريباً، لينفصل عنها ويجترح لنفسه درباً خاصاً مكّنه من التألق وسط مجموعة من المطربين الشعبيين البارزين، مثل علي الجهاني وحميده درنة وسيد بومدين وغيرهم. يقول عنه الكاتب زياد العيساوي المهتم بفن الغناء والموسيقى: “هو أفضل من أدى الأغنية المرسكاوية و(بنغزها)، أي جعل لها خصوصية بنغازية مختلفة عن الأصل. يمتلك صوتا معبراً، صحيح الشد والارتخاء في طبقات الجواب والقرار الصوتية”.
من الأمور التي رفعت وتيرة الحزن في أغانيه ومواويله أحيانا لدرجة البكاء، هو زواجه مرتين. تزوج دون أن يرزق أطفالاً.. وعبد الجليل بالمعنى العميق، سنعتبره قد أنجب فناً خالداً، وحبا مازالت شعلته لم تذبل إلى الآن.. فكل الصغار أبناؤه .. هو أب لكل الإنسانية.. وأب لقيم الخير والمحبة.. الشباب يسعدون له ويتقبلون عتابه، فيتوقفون حالاً عن الشجار. كان يعمل مشرفاً على ملعب كرة القدم، وفي المباريات القوية كثيراً ما تنشب معارك وشغب بين الجمهور. الشرطة لا تنجح في فضه، بل في بنغازي أحيانا لا يكترث بها أحد، لكن عبد الجليل سريعاً ما يركض إلى حيث الشجار ويرفع لهم يديه، ويقول لهم كلمتين: “عيب أنتم إخوة، عيال بلد واحد، الرياضة رسالة نبيلة”، فيتوقف الشجار رغم التعصب الكبير، ويصفق كل الجمهور المتشاجر وغيره لعبد الجليل، ويستأنف اللعب دون أي مشاكل، وحتى الحكام عندما تنتهي المباراة الحساسة، يركضون نحو عبدالجليل ليقودهم إلى غرفهم دون اعتداء.
بالأمس القريب، كانت مباراة الأهلي بنغازي الذي يشجعه عبد الجليل وفريق السواعد في الوحيشي، الصاعد حديثا للدوري الممتاز، الذي درّب له فريق أشباله وعاش بين ربوعه ونواحيه زمناً طويلاً، أنتج له أصدقاء وأصهاراً وحياة. ذاك الأصيل دخل الفريقان أرض الملعب وهتف جمهور الأهلي الغفير.. التقط الفريقان الصور التذكارية وأجريت القرعة وتوزع اللاعبون على أرض الملعب. رفع الحكم الصافرة إلى فمه لينفخ بداية المباراة. وفجأة انفجر الملعب بضجة وصفير وصراخ ومفرقعات احتفالية غطت السماء.. ظن الحكم أن أحد الشخصيات الاعتبارية السياسية قد وصلت أرض الملعب، فأجّل إطلاق الصفير ليرى هل من تعليمات.. لكن لا شخصية رسمية ولا اعتبارية وصلت.. المطرب عبد الجليل عبد القادر شرّف، يعني وصل.. دخل الملعب على كرسيه المتحرك.. يدفعه صديقه الطيب مرعي وتحفه الغزالة من اليمين والحورية من اليسار.. الكل رحب بعبد الجليل وصفق لحضوره.. الحكم ومساعداه.. اللاعبون والبدلاء.. المدربان.. المصورون والمعلقون والصحفيون.. أطفال جلب الكرات الطائشة.. عناصر الشرطة الواقفة حول الملعب.. حتى سيارات النجدة والمطافئ والإسعاف أطلقت صافراتها وأضاءت أنوارها مرحبة به.
بكى عبد الجليل..
تأثر في الصميم.. لم يحتمل هذا الوفاء وهذا الحب النبيل.. ربّت على عنق الغزالة ومسّح على رأس الحورية ثم نظر إلى أعلى حيث أعمدة النور العملاقة التي بدأت تضئ الواحدة تلو الأخرى.. ليبدأ الجمهور في غناء أغنية لعبد الجليل تجعله يدمع من شاكلة:
دمعك غير زايد.. ما يقضي فوائد..لا حاجة يجيب.. واصبر عالشدايد.. هكي الله رائد.. ما تعلم بغيب.. دمعك ما يفيدك.. مش بيدي وبيدك.. نرضو بالنصيب.. اللي موش بيدك.. اصبر لو تكيدك.. فرج ربي قريب…..
حيث أن كل عشاق عبدالجليل يحبون دموعه.
__________________
نشر بموقع هنا صوتك