قد يختلف كثيرون معي حول أن المجال الثقافي حاز نسبيا على مرحلة فاعلة، عقب الانقلاب العسكري سبتمبر 1969، حتى خطاب ازوارة أبريل 1973. فالنظام عقب الانقلاب عاش مرحلة فيها تنافس بين قياداته، لأجل السيطرة والانفراد، ولهذا لم يلتفت كثيرا للمجال الثقافي، كما فعل مع الصحافة التي تم تأميمها أيضا العام 1973. وكذلك حصل شيء من هذا، عند مرحلة «التوريث» 2005، حيث حدث حراك ثقافي ليس بمعتاد، دافعه أن لا ضرر من «مجال ثقافي» محدود، لخلق السبل للتوريث. وكانت الثقافة واجهت خلال الفترة من 1973- 2005، الانغلاق والتضييق والعسف المفرط. وهذا الطرح مقصوده نسبي، حيث يعتبر صدور جريدة «الأسبوع الثقافي»، خطوة جديرة بالتنويه، كما تكوين هيئات عامة للمسرح والسينما، ودور عامة للنشر وما شابه، ما ستكون فيما بعد، خاوية على عروشها لعقود.
لكن رغم ملاحظتي هذه، فخطاب النظام ونهجه كان ضد الثقافة مبدئيا، حتى إنه حمل شعار الغزو الثقافي، ضد الفنون الحديثة، وضد الموسيقى، فالفلسفة والآداب وحتى القانون، فيما اعتبر كل قديم لا يستسيغه أفكارا صفراء، والحقيقة أن ذلك ليس نابعا من موقف أيديولوجي قومي، رغم ادعاءات النظام القومية، ولا من رؤية دينية سياسية كنظرة «الإسلام السياسي»، بل أسه الجذري ودافعه الواضح الانفراد بالسلطة، واعتبار أن الفكر مبدع للاختلاف، وموضح لضرورة التباين، ثم الحالة السيكولوجية للديكتاتور: أن ما ليس معي فهو ضدي، وعليه كل تفكير خارج الحظيرة مرفوض، هذا إذا كان في «الحظيرة» مكنة للتفكر والفكر، ومن هذا جاء اعتبار «أنا أفكر إذاً أنا موجود» إلغاء لوجوده.
وهذه الأرضية تتبع أيضا، لخلق تضييق، حتى صعوبة التنفس، من أجل إبعاد أي مطالب حقوقية، فإذا ضيق مجال الفكر حتى الانمحاء ، فإن ذلكم سيؤدي إلى تضييق المعيش البشري، من سيتحولون جميعا، إلى مخلوقات طيعة ضيقة الأفق، ولهذا فإن التعليم غدا، مجرد حشو بمعلومات مغلوطة ومحدودة الأفق، ومزيفة فيما يخص الماضي، ولا أفق لها.
المشكل هذا، يبين محدودية أفق هذه السلطة الغاشمة، والجهل المقدس اللاتاريخي، ويكشف أيضا، أن ما كان يعيشه النظام غياب المستقبل، من حيث إنه يعيش يومه، ولذلك أسهب حتى الإسهال، في لغو ونظرات وأطروحات، تتقلب ويتم نفضها كل وقت، بمقتضى الحال، لأن الابتغاء المحض للسلطة يقتضي، الانشغال بالأمن ما يدلل على غيابه، وحين لا يكون ثمة غد ولا مشروع، تكون الثقافة عدوا مستهدفا لأنها المستقبل، فلم تكن ثمة فكرة، نظرية، علوم وفنون، إلا وأفقها المستقبل، ومن هذا السلطة النيرة تنتج الثقافة: الفكر والعلوم، الفلسفة والفنون…. إلخ.
عام 1970 عقدت سلطة الانقلاب، ندوة «الفكر الثوري»، اعتبرها مثقفون كثر في تلك المرحلة، كما مصيدة وفرز، لتعقبها العام 1973 اعتقالات بالجملة للمثقفين بألوان الطيف، فيما سمى بـ«الثورة الثقافية» ما جاء بها رأس النظام من الصين، لتصفية خصوم مفترضين! وعقب هذه الثورة التصفوية تصحرت الحياة، وضرب البلاد جفاف في كل شيء، فلم يعد للفكر من محل، فالتفكير ضار، نعته «القائد المعلم والمفكر الثائر!» بـ«المرض»، ومن اعتقل من المثقفين «المرضى».
ضد الثقافة الضرورة للانفراد بالسلطة، لم تفز مرة في مضمار التاريخ، إلا بتضييع الوقت والجهد والمال، لأن أيامها معدودة من جهة، ولأنها قد تسهم في إرباك المجتمعات، وتضييق الأفق ما لا يغيب البتة، فالواقع أن منع الكتب وحرقها، منع الموسيقى وحرق آلاتها، سجن المثقفين وإرهابهم، وضرب حصار حول البلاد وحدودها، لا يمكن أن يمنع الفكر والتفكر، كما ليس بمكنته مصادرة الأكسجين، حتى إن هذا قوى عود المبدعين، كما في كل مكان وزمان.
والدرس الأول-الأخير: حين العود على بدء، دون درس يذكر، فإن من يزرع الشوك لن يحصد حنطة.
ولهذا نجد بلادا كالصين مثلا، في مرحلة نموها غير المسبوق، سبقته وأتبعته بانفتاح ثقافي مميز وخصب، فنتاج الصين زاخر ومتنوع في الثقافة والعلوم والفنون، ما استوعب أن يكون في البلاد نظامين سياسيين حتى الآن، في المركز «بكين» وفي الطرف «هونغ كونغ»، وقد بدأ ذلك بتنوع فكري اقتصادي وثقافي عام، ما كان الخلفية الأساس للنظام السياسي، ما حافظ في البنية الفوقية على «الحزب»، باسمه القديم: الشيوعي، وما في جوهره أمسى حزبا، يضم تعددا وتنوعا لا اعتياديين، فاستوعب كل المعطيات الواقعية لصين اليوم، ما لم يعد بمستطاعها، أن تكون ضد الثقافة والتنوع الفكري، وإن ما زالت في طور النمو، فالثقافة الإنجاز الأعظم لأية أمة.