نص يحكي قصة حصاد حب فاشلة، وعلاقة حب أجهضها الرصاص
والاحباط والاخفاق والقلق وعدم الاستقرار في زمن الحرب الليبية…!!!
• النص:
“لقاء أخير لوداع حزين”
أحببتُك في الحرب
كوردةٍ تنمو تحتَ دبابّةٍ صدأَ صدرُها من الوقوف على الحدود
كنتُ ثائرًا وعاشقًا
في قلبي خوفٌ على الوطن
ومستقبل في حِضنك،
بكيْتُ معكِ وضحكْتُ معكِ
وعشنَا تفاصيل الموتِ بحذافيرهِ،
ونجوْنا أكثر من مرّة
من الرصاص الطائِش من حوْلِنا
ونحنُ نعبرُ طريقَ حرب الشوارع
بأمنيةٍ وحُلم.
أنتِ يمينيّة مسالمة
تريدين السلام والحُبّ، ولا تحبّينَ السياسَة
ولكنّكِ تستمعين بحرصٍ لأحاديثي عن اليسار
ومسبّاتي للإنقساميّين
وتشاركينني فورةَ الدم من الواقع المريض
وحينَ تغضبينَ
ترفعينَ يديكِ بالدعاء الصادق
على من يقلقُ كلامَ الغزل في لساني
ومن يحرمُكِ سماعَ قصائدي العاشقة عنكِ.
أنا صعلوكٌ من الباديَة
وأنتِ ابنةُ مدينةٍ كبيرة وفيها المقاهي لا تُقفَل،
مدينةٌ لا يُعرفُ ليلها من نهارها
لا تشبهُ الجبل الّذي أغتسلُ بقمرهِ وحيدًا،
لا نتشاركُ المناخ
ولكنّكِ استطعتِ خلقَ حياةٍ تجمعُنا،
تحبّينَ صوتَ الرحى في بحّتي
وتفهمينَ كلامي الصّعب
ولم تعُد تقلقكِ أثارَ المراعي في وجهي،
تتركينَ الأغاني السعيدة
وتسمعينَ معي أغاني المقاومة والصعلكَة
تراقبينني أمشي
وتمشينَ معي كإمرأةٍ عظيمة، تخصُّ رجلاً واحدًا.
أحببتُكِ في الحرب
وكانَ هذا جميلاً في قساوتهِ
لطيفًا في وجعهِ
ننتصرُ معًا
ونخسرُ معًا
وأهدتنَا الحرب مشاعرًا كثيرة
وذكرياتٍ تكفي لأكثرَ من عمرٍ واحد،
ولكنّها في النهاية
حرمتنَا لقاءً أخيرًا
لوداعٍ حزين.
• الشاعر:
أنيس فوزي خليفة الحاسي، من الشعراء الليبيين الشباب ولد في (قورينا) مدينة شحات الليبية الأثرية عام 1993م، ويعيش الان في مدينة البيضاء أحدى المدن الليبية الجميلة بالجبل الاخضر، درس أنيس الأدب الأنجليزي، ثم انتقل لدراسة الفلسفة في كلية الاداب، ثم ترك الدراسة نهائيا لأنه لم يتناغم مع المناهج بحسب حديثه القصير معي.
بخصوص مانشر من شعره قال أنيس فوزي في أحدى اللقاءات الصحفية معه أنه وجهت له دعوات في وزارة الثقافة ولازالت، تطلب منه إصدار ديوانه الاول، ولكنه ما يزال حذرًا وغير مستعجل (بحسب تصريحه)، ويطمح أن يعثر على قصيدته الخاصّة لبيدأ بها.
أنيس فوزي ليس لديه إصدارات منشورة، ولكنه يملك حضور قوي ومساهمات جديرة بالاهتمام على شبكة الانترنت، وهذه قراءة لواحد من نصوصه التي أعجبتني وأقدم عنها إنطباعاتي في هذه المساحة.
• القراءة:
أستفاد الشاعر من تجربته الذاتية،كشاب في مقتبل العمر، ومن إرتباطه بالمكان في الشرق الليبي الذي يشهد بعضه صراعات وإشتباكات وحرب عنيفة، وكذا إرتباطه بالزمن الذي كتبت فيه القصيدة ووافق اندلاع هذه الحرب، فأجتهد ليسخر كل هذا ويسهل على القارئ العثور على الفكرة المركزيّة التي يقوم عليها نصه الجميل وهي فكرة الحب في زمن الحرب.
ويحتفي أنيس في هذا النص من أول سطر فيه بحبيبتة دون أن يخبرنا عنها فقد تكون إمرأة، وقد تكون وطناً كبير، المهم عند الشاعر أنه أحب حبيبته والحرب قائمة (أحببتُك في الحرب) وكأنه يلتمس عبر هذه البداية الموفقة حب القاري لنصه، فيأخده بشكل مباشر وسهل، إلى أجواء حبه، بأحاسيس مرهفة صادقة بسيطة وواضحة، لا تبذل فيها ولا إسفاف، هكذا مباشرة وبكل وضوح، يورط أنيس القاري، في أن يدلف لنصه الشعري، الذي حوله بحرفية لحوار يخاطب فيه حبيبتة، بثقة ووسائل من يمتلك ناصية الحروف ويملك مهارة إتقان اللغة التي كتب بها نصه، فلغة النص لغة جميلة لشاب أنيق درس القران الكريم في طفولته، وقرأ بتركيز دوواوين شعر كثيرة، ساعدته في هذا النص -على الاقل- ليمتلك الأسلوب الرصين، وينجح في أن يجعل المتلقي يتذوق الموسيقى الرقيقة العذبة في هذا النص الشعري القصير.
ويمكن للقاري العادي أن يكتشف منذ ولوجه وقرأته لهذا النص، شاعرية أنيس فوزي وبعدها الانساني، الذى جسد من خلاله بشكل موفق، مأساة الإنسان الليبي، والإنسان في كل مكان وفي أي زمان صادف أندلاع حرب بشعة يمقتها الشاعر الإنسان بشدة ولكنه يحب فيها بعمق، رغم حرمانه الأمان، فيقول الشاعر أنه رغم انها الحرب إلا أن حبيبته حمامة سلام (تريدين السلام والحُبّ، ولا تحبّينَ السياسَة). ورغم بشاعة هذه الحرب يتمكن الشاعر من رسم صورة شعرية جميلة توحي أن للحرب محاسنها رغم كل شي (وأهدتنَا الحرب مشاعرًا كثيرة)، ويتحول الشاعر الى حالات كثيرة مختلفة عبر فقرات النص الاربعة ولكنه يستمر في المحافظة على النسيج القوي المتكامل للنص برمته فالشاعر هو العاشق الرومانسي (ومستقبل في حِضنك.. كلامَ الغزل في لساني… ومن يحرمُكِ سماعَ قصائدي العاشقة عنكِ) وهو المحب الغاضب الساخط التائر (وتفهمينَ كلامي الصّعب.. ونخسرُ معًا) وهو أيضا الواقعي (أحببتُكِ في الحرب، ولكنّكِ استطعتِ خلقَ حياةٍ تجمعُنا) وهو المثالي الحالم (تحبّينَ صوتَ الرحى في بحّتي… وذكرياتٍ تكفي لأكثرَ من عمرٍ واحد) هذه الصور الشعرية المتنوعة والمتباينة توحي بأن انيس فوزي ينقلها للمتلقي دون عناء وكأنه يتحدث بشكل عابر فتصل الرسالة له ببساطة ودون عناء أيضا.
هذا النص الجميل ( لقاء أخير لوداع حزين) يقترب ليكون حكاية واحدة،أو قصة قصيرة مؤثرة، ضمها لنا الشاعر، في مفردات محببة (المراعي.. الأغاني.. القمر.. الرحى) ولمسات شفافة من الأفكار والمشاعر(أهدتنَا الحرب مشاعرًا كثيرة.. بكيْتُ معكِ وضحكْتُ معكِ.. في قلبي خوفٌ على الوطن)، لتحكي في مجموعها حكاية إنسانية واحدة متكاملة ملخصها أنها بدأت ككل قصص الحب صادقة وحقيقية بإعلان الحب ولو كان هذا الحب في وقت إندلاع الحرب، (أحببتُكِ في الحرب) وعاش تفاصيل حبه رغم حرب الشوارع، وشاركته حبيبته حبه بصدق رغم الفارق بينهما (أنا صعلوكٌ من الباديَة ..وأنتِ ابنةُ مدينةٍ كبيرة) وقاسمته الامه واماله (وتشاركينني فورةَ الدم من الواقع المريض) وحتى ذكرياته (وذكرياتٍ تكفي لأكثرَ من عمرٍ واحد) عاش حبه رغم كل شي و(كانَ هذا جميلاً في قساوتهِ.. لطيفًا في وجعهِ) ولكن نهاية حبه كانت مشوبة بالاحساس بالخيبة والانكسار، والشعور بالعدم والخواء، وانعدام الفرح ففشلت قصة حبه فشلت بسبب الحرب.. (ولكنّها في النهاية حرمتنَا لقاءً أخيرًا لوداعٍ حزين).
وأخيراأ يعكس هذا النص عندي كمتلقي شاعرية متميزة جديدة وفريدة تؤصل نهجها الشعري بتباث، ويمسك بتلابيبها شاعر ليبي جميل عمره فقط إثنان وعشرون ربيعا، يجسد في شعره البساطة تبشرنا مفردات نصوصه الشعرية بميلاد شاعر ليبي واعد، وبولادة تجربة شعرية أضنها وأن أختلفت لكنها تحمل المضامين نفسها لكل النصوص ذات الأبعاد الإنسانية العميقة.!! فشكراً لك أنيس.
_________________
نشر بموقع ليبيا المستقبل