قراءات

الكلب الذهبي يستنطق أبعاد التاريخ

رواية الكلب الذهبي للكاتب منصور أبوشناف عن دار الفرجاني

فرن الاحتراق
(هو الفرن الطرابلسي إذن، حيث لا تتوقف الكائنات عن التحول والمسخ عبر كل العصور وتئن دائما إما الغزالة وإما الحسناء، إما لوكيوس حمار أبو ليوس الذهبي وإما بطلي، إما أبوليوس وإما أنا )، يحفر الكاتب والأديب منصور أبو شناف عبر هذه الحكاية المجازية المتخمة بالسرد مشقة التحول أو لعله الإنسلاخ الذي يُحوِّل ابن الريف والبادية لمسخ مشوه وذلك من خلال الإسقاط الرمزي الأسطوري لكلب دفعته ظروف ما للنزوح من مضارب ترهونة والوقوف على إرهاصات الحضارة في مدينة طرابلس التي شيّدها الإيطاليون قبل زمن وأرادوا أن يُحييوا فيها أمجاد أويا الرومانية، الكلب “سعيد” يُنشئ علاقة مريبة مع أرملة إيطالية في منتصف عقدها الرابع يحدث التلاقي قبيل حدوث ما لم يُحمد عقباه، يقتحم صوت الراوي سياق الأحداث فيعطي نفسه مساحة التغيير والتبديل الإضافة والتراجع لبعض الوقت يُربك هذا الصوت القارئ، الكلب “سعيد” أو الذي تحول اسمه لاحقا لسعيد تعرّض لصدمة أو لعله انبعاج حضاري كانت له تأثيرات جسيمة قادته لتحوِّل نوعي وإنقلاب دراماتيكي في ترسانته الجينية من كلب عربي أجرب إلى كائن بشري اسمه سعيد هكذا فجأة أراد له الراوي أن ينقلب على عقبيه في إعادة تجلٍ لأسطورة التحوّل الحضاري، عندما نتتبع النسق السردي يتكشف لنا بأن مفتاح هذا الإنسلاخ والخروج عن جلد الأصل لقشرة الزيف كان الغواية فقد شكلت غواية الأنثى مصدرا لهذه اللعنة، نعم ولم لا ألم تُجرِّف بأحلام آدم ألم تنتحل ليليث في الميثولوجيا صورة أفعى لتفتك بآدم ؟! ولقد أكملت السنيورة الإيطالية ما انتهت عنده ليليث وحواء لتُمسخ الكلب الوادع الخائف من ظل شجرة داخل جسدها وبين فكيّ فخذيها في لحظة قدرية يبدو أن الزمن توقف عندها ولو وهلة ، نعم قد حققت معادلة الجسد فجيعة هذا التحوِّل حين تُغشي أضواء المدينة بسطوتها الغرباء الجدد.

الانسلاخ هدف
عملية الإنسلاخ ربما تُبهر صاحبها لكنّها أرعبت الممسوخ السعيد الذي بقي يُكابد محنة سلوكه الحيواني ونوازعه المتوحشة! وما كان بوسع الراوي إلا العودة للخلف والإحتماء بالأسطورة(لوكيوس لم يرتكب الخطأ فلقد كان مسكونا بالمثل النبيلة والسماء، لذا أراد أن يتحول إلى طائر ولكن حبيبته تعطيه المركّب السحري الخطأ ليتحول إلى حمار ويغرق بدل أن يطير إلى عالم المثل)، أراد الراوي أن يقول بأن سعيد هدف من عملية إنسلاخه هو التسامي بينما النتائج جاءت في صورة مشوّهة لأنه سقط في امتحان مواجهة المرآة في صباح اليوم التالي كيف تنشق وتنبعج وتنسلخ وتنمسخ وتأمل في نتائج مرضية ؟! إن هكذا أمر بمثابة المعجزة فلن ينقذك وعيك ولن تُحصّنك الأسطورة بل رأيت كيف مسخك النهد العاري وكيف تمكّنت رائحة العرق من مُضاعفة سُمك زنزانتك ! لكن في المقابل ثمة سؤال هل نجا أحد من تحولات الفرن ؟

الرجوع للأصل
سعيد أخفق في التخلص من حاسة الشمّ التي يُدرك بواسطتها حاجته الغزائزية ! ربما إذا سعى لتهذيبها لبدت النتيجة أفضل، ومن ضمن تداعيات التحول أيضا أن سعيد حاصرته الكوابيس على خلفية حملة قادتها بلدية المدينة لمطاردة الكلاب الضالة ! إنه كان يُؤثر الرجوع لبيته الكلبيّ طلبا للأمان بينما أمانه السابق صار شبحا يُرعب أيضا ! سعيد لم ينسى أن له قدرة على النُباح كان ينبح أو يعوي كذئب، نتذكر في هذا الصدد مسخ فرانكشتاين لكن هذا الأخير أحيا مسخه أو بمعنى آخر أوجده من عدم إنما في واقع سعيد أن حُمى التحول لابد أنها راودته حينما كان يرتع في براري ترهونة وهذا ما لم يذكره الراوي، سعيد كان كلبا ملتبسا بأحلامه تطلع للتحول سعى للإنسلاخ ظنا أن في انسلاخه مخرجا للهرب وأفق لحل يبعثه كآدم، لا نكاد نصدق إذن أن تلاقي سعيد والسنيورة الإيطالية جاء بمحض الصدفة وضربة قدر ! إنما الأمر محسوم بالنسبة لسعيد منذ زمن (كان المتحولون الآدميون قد جاؤوا كما عرف من كل بقاع ووديان وشعاب البلاد بحثا عن الخبز والماء، كان عليهم جميعا أن يتحولوا من رعاة وفلاحين إلى عمال وبوليس وعسكر كان تحولهم بطيئا وشاقا،فكان على الواحد منهم أن ينسى كل ما تعلم هناك بدياره القديمة وأن يبدأ من جديد)، أجل لاريب بأن هذا ما سعى إليه سعيد وجرّته حُمى التمدين لسرير السنيورة الإيطالية رغبة منه في أن يجد نفسه لكنّ نفسه ذاتيته كانت قابلة لتفتت والإنكسارعلى أسفلت المدينة، اللافت في هذه الرواية أن الكاتب منصور أبو شناف أراد تقديم وجبة ملحمية دسمة على طبق من ذهب يُمكن التعامل معها وتطويع شيفراتها بأريحية وهو بذلك يطرح قراءة تاريخ كامل غطاه الغبار وسكنته العناكب.

مقالات ذات علاقة

ما فعلته رواية “قصيل”

محمد الزنتاني

أوخيد

شكري الميدي أجي

عرائس المشواش والنحات محمد بن لامين

المشرف العام

اترك تعليق