المقالة

بونجوغ.. يا مدن الشعر

«أنر الزاوية التي أنت فيها»
طاغور.

مطار شارل ديغول 2009

هذه أول مرة أضع فيها قدمي على أرض في الضفة المقابلة للمتوسط.. هذه الجنة التي تتبدد آلاف الأرواح في سبيل دخولها.. أجساد كل عام يلفظها البحر أو تَطعَمها الأسماك مع كومة من أحلام وحزن كثيف.. أنا في مطار شارل ديغول.. عبرت تلك المقبرة الكبيرة وبدت لي من فوق السحب بقناع الماء الأزرق الفتان. قلت مطار؟ إنه وطن أرض جديدة.. موظفون من الجنسين يميزهم لباسهم تتدرج ألوانهم من الأسود إلى الأبيض لغتهم فرنسية وسحناتهم تنتمي للكون كله.. وهطول لا يتوقف من اتجاهات الدنيا إلى هذا المكان .. لا شيء يتعطل إلا لغتي ولها حلّ في بسمات المضيفات الأرضيات والمضيفين طبعًا.. وعربية تهب كمنقذ.. آخذ حقائبي من على السير الدائري.. وأتبع بضعة إشارات صوب مطار الرحلات الداخلية.. مكان ضخم آخر يتلقف دونما اختناق المزيد من الحشود التي تبتلعها البوابات المرقمة.. وأنا في انتظار الإقلاع الثاني جنوبًا.. صوب لوديف، البلدة التي كانت تستيقظ على صوت القصائد فقط.. أرشف الهوت شوكليت على طاولة المقهى.. تمّر الوجوه الغامقة والفاتحة الحلوة والنص نص.. وملامح أخرى وملابس وأحذية وطباع وأمزجة.. لكن لا أحد يراقب أحدًا هنا.. لا وجوه تضحك منك.. بل لك أو لا تتوقف عندك.. عالم في هذا المطار الواسع المكتظ المملوء عن آخره بأغلبية فرنسية وجهتها بلدات مختلفة تاركين باريس لكنهم لا يدوسون عالمك.. يتركون مساحتك تتوهج ويمرون محاذرين إطفاء روحك حيث هي في مجالك الصغير.

يوليو 2012

كان صبحًا تقليديًا.. لم أغادر البيت.. انشغلت ببعض الكتابات وفضلت الاستلقاء حتى يقترب موعد قراءتي.. ارتديت ما يناسب الجو البارد قليلاً ومضيت على مهل إلى مكتب إدارة المهرجان حيث ألتقي قبل موعدي مع دليلتي اللطيفة إلى الأمكنة المختارة.. في الطريق خفت من مشاعري المتململة وتساءلت ماذا ينقذني من هذا الشرك.. كنت ارتعبت من السقوط في مزاجي.. لكن فجأة تغير كل هذا.. مضيت وسنتيا في الأزقة الجميلة متتبعتين صوت النوارس والضباب.. منحدر.. ثم درج حجري طويل يقود إلى أسفل المدينة.. بضع خطوات زيادة وكنت قبالة قارب يحاذي الرصيف راسيًا ولا تحركه الأشرعة بل حركه الماء العميق.. رائحة السمك تملأ المكان وصيادون هنا وهناك.. ناهيك عن جمهور لا بأس به من النوارس التي تسكن أسطح البيوت داخل المدينة أيضًا.. كانت أمسية مدهشة رفقة الشاعر الصربي أنس ابن مالك وعازفة الكمنجة الساحرة ماريون.. لن أخبركم عن الناس الذين جاءوا للشعر والنوافذ والشرفات المفتوحة لينساب منها.. الميناء أخفض من الطريق الذي اتكأ على سياجه الكثيرون.. ومضى فوقه بلا توقف عديدون.. ناهيك عن هيبة البحر الذي يمكنه نقلي سيكولوجيا من مستوى إلى مستوى آخر أكثر قدرة على الخيال.. حيث الموطن الحساس والأكثر مرونة..

مدينة سيت الفرنسية لا تستقبل الشعراء وحسب، لعشرة أيام هي حلقة مريدين لثقافات وفنون حوض المتوسط على تنوعها.. سهرتُ مع «هاريس كالسيو» اليونانية.. بروفاتها طوال المساء وهى الفنانة الكبيرة.. وعدتنا باكرًا بهذه المتعة المقدسة.. في جانب من حديقة المدينة سلطنتنا لأكثر من ثلاث ساعات.
قراءتي الساعة الحادية عشرة صباحًا في قارب قادنا إلى عمق غير بعيد.. وأنا بين الماء والأشرعة ووسط هذا السحر وانتباه الناس الشغوف بالشعر والحياة.. أشق بلغتي العربية رفقة قراءة فرنسية طريقي للبهجة.. وبعض الحماسات المتعلقة بكوني خارجة من رحم حرب.

أبريل 2012

بدأ الشعر ينساب أيتها المدينة الهادئة بعناد.. يا.. لبلاد
بدأ الشعر فيك ولن يتوقف.. يتعرش كما الدالية على أسوار السرايا وينهض مثل نهار تحت سمع الغزالة مالوفك ينصاع لشباك الحواتة.. يرافق قواربهم.. يتناغم مع الهيلا هبّا.. نداء حياة وسط مزاج الأزرق.. ضحك البنات.. ولمعة عيون الشبان.. أنباء ستسري مثلما رائحة عقود الزّهر المعروضة في ساحاتك ومفارق الطرق
طرابلس مرحبًا بعودتك.. كان ذلك حلمًا تكسر سريعًا، وكما يفعل الحمام في الأمكنة الآمنة ليس فقط من الرصاص والآمنة من الكراهية والتعصب.. استمر نزول الشعر في لوديف وسيت، فيما توقف حلم الشعر العالمي وحلم الوطن.. حتى إشعار المعرفة وتحديث مفهوم البناء.

_______________________

نشر بموقع ليبيا المستقبل

مقالات ذات علاقة

“الشخصية الليبية” ودفاعات التكيف ــ 1

سالم العوكلي

كلام غير مسؤول وغير جاد.. سيميائية الرأي، والرأي الآخر

محمد المالكي

شفاه زرقاء

محمد الترهوني

اترك تعليق