المقالة

“الشخصية الليبية” ودفاعات التكيف ــ 1

“ما إن ينخرط الفرد في جمهور محدد حتى يتخذ سمات خاصة ما كانت موجودة فيه سابقا” .. جوستاف لوبون

“لكي أحصل على الموافقة أمام جمهور المستمعين أتوجه إلى أغباهم وإلى أسفل ما فيه، الغدد؛ الدمعية أو الجنسية، وأربح دائماً ، أما الأقلية الناقدة فأنا أتعهد بهم بطريقة أخرى” .. أدولف هتلر

 

يبدو الحديث عن طبائع شخصية مجتمع أو أمة أو شعب مدخلا معقدا ومليئا بالمحاذير المنهجية والالتباسات المفهومية، وحتى اللغوية، لكن بعض التعميمات الدارجة عادة ما تختزل شعبا في سمة أو كاركتر محدد مرتبط بطبع شائع، ويحدث هذا في جميع القارات، وأحيانا من باب تندر الشعوب على بعضها أو أقاليم الشعب نفسه عبر إسباغ صفات مثل البخل أو التجهم أو الغباء أو العناد أو غيرها من الطبائع التي تبدو في مثل هذه الحالة سمة غالبة تنتقل مثل العدوى بين سكان القطر نفسه أو الجهة أو الإقليم. تقريبا لا تخلو أمة من مدينة أو إقليم يشتهر بكونه أداة لتوليد النكتة يقف وراءها طبع يبدو أنه شائع ويشكل ظاهرة.

بدأ علم النفس كمبحث تجريبي يحلل دواخل النفس البشرية الفردية ككيان مستقل يتعرض لاختلالات مختلفة نتيجة ظروف محددة أو ضغوط قاهرة، غير أن هذا العلم الفردي انتقل فيما بعد إلى ما يسمى سيكولوجيا الجماعة، أو سيكولوجيا الجماهير، التي حولها جوستاف لوبون قبل أكثر من قرن إلى وصفة سياسية لسبل تعامل السلطات الشمولية مع الكتل الجماهيرية التي تصاب بعدوى سلوك موحد حين تجتمع فيهتف الفرد في قلب الحشد ضد قناعاته الشخصية حين يكون مفردا.

هل ينطبق هذا التحول من خصائص الفرد السيكولوجية إلى عدوى الجماعة على سلوك الشخصية الفردية حين تنخرط في الجماعة؟ هل ثمة شخصية يستلزمها الاندماج في المجموع تعمل بعكس السمات الأصلية للشخصية المفردة؟ من باب مأثورات مثل “كيف الناس لاباس” أو “حط راسك بين الروس وقول يا قطاع الروس”.

أسئلة لا أستطيع الإجابة عنها سوى بمزيد من الأسئلة التي تدور حولها، وأنا أفكر الآن بشخصية من المفترض أن تتنازعها الميول الذاتية التي تصارع في قلب نزوع اجتماعي مفارق، لا يمكنه إلا أن ينتج نوعا من الفصام (ليس بالمعنى المرضي) لكن من الممكن اعتباره نوعا من الفصام التكيفي الذي تفرضه المجتمعات المغلقة، خصوصا حين تتضارب فيها رغبات الفرد وميوله الشخصية مع منظومة القيم السائدة التي نحتج عليها كأفراد ونمارسها كمجموعات.

الشخصية الليبية. بمجرد أن يطرح هذا العنوان سيتلفت أحدنا في كل اتجاه وكأنه يبحث عن شيء مألوف لا يستطيع تذكر شكله وملامحه، فيراجع حياته الشخصية وسيرته في المكان وينتبه لشيء لم يخطر بباله طرح الأسئلة بشأنه، بل إن الاندماج في بيئتنا يجعلنا لا ننتبه لخصائصها أو ما يميز محتواها الإنساني لأننا جزء منه، مثلما يتكيف الإنسان مع رائحة المكان الذي يطيل فيه المكوث حتى وإن كانت رائحة غير محببة كما يحدث في السجون ولا ينتبه لها إلا قادم من خارج المكان.

ربما هذا ما جعل الكثير من المؤرخين، والمستكشفين، والرحالة، والسواح، الذين وثقوا انطباعاتهم عن الليبيين، ينتبهون لخصائص كانت بالنسبة لنا غير مرئية باعتبارها جزءا من تكويننا الطبيعي. خصائص مثل التجهم أو التحديق في الأغراب والتوجس منهم أو العناد أو الميل إلى العنف أو الاستعجال أو الاعتداد بالذات أمام الغريب وجلدها في غيابه، أو كثرة الكلام والميل إلى تأجيل إنجاز الأعمال التي عبر عنها بعض الإعلاميين والنشطاء الأجانب الذين جاءوا إلى ليبيا أول مرة بعد انتفاضة فبراير.

لكن هل حقا نستطيع أن نتحدث عن شخصية ليبية في أرض مترامية الأطراف كانت تفصل تجمعاتها البشرية لقرون طويلة مسافات شاسعة من الرمال القاحلة؟

أرض اعتُبِرت عبر التاريخ معبرا جغرافيا حط فيه بشر جاءوا إلى هذه الأرض من أجناس وأصواب وأحداب مختلفة، متمايزة الطباع والألوان والجينات؟

هل من الممكن أن تبلور الحدود السياسية لكيان ما شخصية موحدة لمن وقعوا ربما بالصدفة في نطاق هذه الحدود؟

وهل كان للطبيعة التي يقطنها هؤلاء السكان الليبيون تأثير في طبع الشخصية وفق آليات صراعها مع طبيعة المكان ووسائل حصولها على رزقها؟ الطبيعة التي تنقسم في ليبيا بين الصحراء والجبال والساحل. هل ثمة مميزات مختلفة للشخصية التي تعيش في الصحراء أو في الساحل أو في الأرياف أو في الحواضر المدينية؟ بين الاجتماع المترحل والاجتماع المستقر ؟

يردد سكان الصحراء الممتدة جنوب الجبل الأخضر البت الهلالي عن طبيعة هذا الجبل وقاطنيه (ما كيف الجبل كيف لولا اخباث السهاري) وكأنهم يحددون سمة خاصة بسكان الجبل، وفي جلسات التفكه على هذا التوصيف، كنت أقترح تفسيرا، قد لا يخلو من وجاهة، لهذه الخصيصة التي تعتبر نقيصة، مفاده أن الطرق في الجبل ملتفة ومتعرجة وغير مرئية، ما يجعلها تشكل سلوكا مشابها لطريقة السير في هذه المعارج، بينما الصحراوي الذي يرى طريقه على طول المدى، ويسير في درب مستقيم، تنعكس هذه الطبيعة على سلوكه، فينتبه لخبث السهاري عند سكان الجبل.

هذا للمثال فقط، ويمكن تطبيق أحكام مشابهة على سكان الساحل، أو سكان الأرياف، أو الحواضر، وكثيرا ما تحدث بينهم مواجهات تندر تذهب إلى تضخيم تلك الطباع الناتجة عن طبيعة المكان وطبيعة الحياة.

الصحراوي يسخر من الفلاح المستقر بل يعتبر الفلاحة عملا أنثويا، والفلاح يسخر من عدم استقرار البدوي الجوال الذي لا متاع له، ومن سكان المدينة الذين يقضون الكثير من وقتهم في المقاهي، والذين لا يجلبون الضيوف عنوة إلى بيوتهم، إلى غير ذلك ، وثمة سخرية أو تندر مضاد يسير في اتجاه معاكس بدءا من ساكن المدينة.

كما أسلفت كانت الطبيعة، وطرق كسب الرزق، واختلاف جيران الأقاليم من مجتمعات أخرى، تشكل خصائص مختلفة في بعض التفاصيل وإن كان بينها مشترك قد يتجاوز حتى حدود القطر.

غير أن ثمة منعطفات حادة تمر بها الأمم تترك أثارها الواضحة على الشخصية الفردية والجمعية وتحدث انقلابا واضحا في منظومة القيم المتعارف عليها، تبدأ مع جيل يحاول أن يتكيف مع قوانين العيش الجديدة وطبيعة الفرص وتنتهي بجيل يرث القيم التي فرضتها دفاعات التكيف وكأنها طريقة للعيش الطبيعي، ولعل المنعطف الحاد الذي مر بنا عبر اكتشاف الثروة النفطية الهائلة وما تبعه من أيديولوجيا مفروضة بالقوة بكل قوتها التعبوية كان له تأثر كبير، ما سنتناوله في مقالتنا التالية.

___________________

نشر بموقع بوابة الوسط.

مقالات ذات علاقة

من هُموم الحركة الأدبيَّة في عصر القذَّافيِّ

المشرف العام

لماذا نحن هنا؟

فتحي محمد مسعود

محاكمة

عادل بشير الصاري

اترك تعليق