المقالة

في متاهة المينوتورات

(هي حال إذا أنت حلمت بها ايقظتك ، وإذا أنت استيقظت عنها حلمت بك)

أبوحيان التوحيدي

عندما يقرر نيتشه أن ( من يجد نفسه في متاهة لا يبحث عن الحقيقة ، بل يبحث عن اريادنا ) فإنه يريد ان يخبرنا بأنه لا حاجة لمن يرسف في متاهة إلى البحث عن الحقيقة ، إذ ما من حقيقة أوكد يقينا من ضياعه ، فالضياع الذي يعيشه ، وما يكابده جراءه من آلام اغترابه عن نفسه وعن عالمه هو حقيقة تغمر كل وجوده وتفعم كامل كيانه ، ولعلنا على ضؤ هذا المعنى نرى التائه في حال انصرف إلى البحث عن الحقيقة كأنما يهرب من مواجهة حقيقة وضعه التي تقبض على خناقه ، والمتاحة له دون غيرها مما قد يتصوره من الحقائق ، والتي هي الأولى والأجدر بأن يواجهها ويعترف بها ، أو لعلنا نرى فيه غفلة برغبته فيما لا يحتاج اليه دون التفات إلى حاجته الفعلية ، وقد نعتقد أن به غفلة عن مأساوية وضعه وما يكتنفه من ظلام وعدم ، بل ربما عزونا بحثه عن الحقيقة إلى تبلّد أصابه لهول ما يكابده .

ولكن إلى ذلك كله يحق لمن ابتلي بالضياع في متاهة ألا يأخذ أقوال من ينطقون عن سلطة .. أية سلطة كانت فكرية أو عقدية أو إثنية أو جهوية .. بمأخذ القبول والتسليم ، وألا يعتبر ما يقررونه ناموسا لا ينقض ، فالحق أن كل ما قيل وما يقال لا يجاوز كونه آراء تعبر عمن يرونها ويروجون لها وتلزمهم دون غيرهم ، خصوصا وأن الواقع المعاش ينبئنا بأن أكثر الذي قيل ويقال والذي يراد لنا القبول به وإطاعته .. إن لم يكن كله .. إنما يندرج في إطار معصية الخالق.

وإذا كان ذكر نيتشه لأريادنا يستدعي الأسطورة المعروفة حول متاهة المينوتور ذلك المسخ المتوحش الذي كان يقتات بلحوم البشر ويعيش في متاهة بنيت لسجنه ولا يمكن لمن يدخل اليها الخروج منها ، فقد نجد في ذلك شيئا مما نبحث عنه ، ذلك ان أوذيس الذي اختار برغبته أن يكون من بين دفعة من الضحايا البشرية التي ترسل إلى ذلك الوحش في متاهته ليفترسها ، استطاع بالسيف الذي امدته به الفتاة اريادنا ان يقضي على الوحش كما استطاع بالخيط الذي اعطته له أن يستدل على المخرج من المتاهة ، ليغدو خيط اريادنا من ثم كناية عن الأداة او الوسيلة المفضية الى المخرج من المتاهة.

فماذا بشأننا نحن الذين نرسف ونتخبط منذ اكثر من أربعة عقود من الزمن في متاهة مينوتور لم يتوقف في أثناءها عن التهام لحوم أبناءنا ولا عن القاءنا جميعا عرايا أمام حقيقة ضياعنا ، وفي مواجهة زمهرير اغترابنا عن ذواتنا وعن بعضنا البعض ؟ هل حقا قضينا على المينوتور وتحررنا من قهره لنا ، وهل ما نعيشه ونعايشه منذ سنين أربع مجرد حلم يقظة بائس حتى ونحن نصحوا منه .. إذا صحونا .. على كابوس أشد بؤسا ؟ من يدري ؟ لعلنا لم نقض على الوحش كما ينبغي القضاء على كل وحش فعلا ، أو لعله انفجر بفعل غليان حقده وغله علينا ، لتغدوا شظاياه منذ ذلك الحين مينوتورات شائهة ومسوخا متوحشة تحاصرنا وتطاردنا وتقتات بلحومنا ولحوم أهالينا وأبناءنا ، والواقع اننا لا ندري ، ولأننا كذلك فلا بد لنا من معرفة الحقيقة ومن البحث عنها ، وحتى إذا اعترفنا بحاجتنا إلى أريادنا ، فلا بد لنا من معرفة من تكون وما وراءها.

في الأسطورة كان الحب هو الدافع الذي جعل أريادنا تعطي أوذيس السيف الذي قضى به على الوحش والخيط الذي به استدل على المخرج من المتاهة ، ولعله هو ما حال بينها وبين إدعاء انها .. المنقذة .. وذلك على نقيض مانراه في سيرة كل مينوتور سواء سمي قائدا أو مرجعا أعلى أو زعيما أو مرشدا ، والذي يجئ حين يجئ مدججا بدعاوى أنه المنقذ وأنه جاء ليستعيد الناس الفردوس المفقود على يديه .. حتى وإن اضطروه إلى ان يسوقهم إليه بالسلاسل .. ولكن ما أن يصدق الناس تلك الإدعاءات حتى تظهر حقيقة المينوتورات ، مجرد وحوش شائهة ولا شئ غير ذلك ، كما أن الغل والحقد كل عدتهم ، فما من حب للإنسان فيما يدعون.

مقالات ذات علاقة

غابات الهُوِّيَّات الثقافية

عمر أبوالقاسم الككلي

ما بين التربية الصحيحة والقمع

المشرف العام

محب الفنون الجميلة

المشرف العام

اترك تعليق