المقالة

وداعـــاً

 

وداعاً.. وداعاً.. وداعاً..

يا مدناً تسرق مني البراح وتعتقل اللحظة الهاربة.

يا مدن الشك التي يبول من فيها على.. من فيها, وداعاً..

أيتها الطرق الملتوية التي يجلس على جانبيها نحن الذين خارت قواهم من كثرة الترحال.

وداعاً.. يا أرصفة السير المضني التي مشيناها بخطى لم تكتب علينا.. أرصفةً بأقدامنا الحافية قطعناها ذات يوم.. وداعاً يا طرق المسير حيث انتهينا نحن.. وأنت لم تنته,.. وداعاً يا.. شجرة ملقاة على جانب الطريق تتحدى الريح والعاصفة وتتحدى أيضاً أشياء أخرى لا موجب لذكرها,.. وداعاً يا قمر بلادي الأحمر يا من أوحيت للعشاق أن يكتبوا قصيدة عشق تعانق أنت..

وداعاً يا بيتاً طاعناً في الطين بناه أجداد ذهبوا ولم يقولوا وداعاً.. لم يلوّحوا حتى بأيديهم.. وداعاً يا طرق الاعتياد التي قطعناك ذهاباً وإياباً, وداعاً يا ملاعب الطفولة التي ارتوت من شوق الحنين.. أنتِ أيتها الملاعب التي جفف ينابيعك زمن الإقصاء, وداعاً يا شجرة النخل الباسقة التي لم تمنعك حجب الغيب وأنواء الطقس من الارتفاع عن أحقاد نحن.. أنتِ التي كنا نرميك بحجر فترميننا بأطيب التمر, أنتِ التي كنا نحن نهز جذعك فيتساقط رطباً جنياً, وداعاً.. وداعاً يا زيتونة لا شرقية ولا غربية.. أنتِ التي يكاد زيتكِ يضيء الظلمات دون نار تمسسه, وداعاً.. وداعاً يا رفاق الغفلة أنتم الذين كبرتم دون ما مناسبة وقبل الأوان, أنتم الذين أتعبكم المسير وأنقض ظهركم زمن الحنين.. أنتم الذين بحثتم عن أنتم.. فلم تجدوا أنتم.. أنتم.

وداعاً.. وداعاً.. يا أرغفة الخبز.. خبز أمي.. يا قهوة أمي.. وداعاً.. يا روايات الطفولة, ويا أقلام الطفولة.. يا بقايا كراريس ألقيناها ذات يوم في الغدير لنعلن فك الارتباط مع قضبان الأحرف.. وداعاً يا شيخاً طاعناً في السن يكر مسبحته, ومع حبات المسبحة يكر زمنه الضائع.. يا شيخاً يجلس وحيداً بلا رفاق يبتسم أحياناً, ويقهقه أحياناً, ويقطبّ الجبين أحياناً أخرى.. وداعاً يا شيخاً يحمل فوق جبهته ندبة الزمن, وترتسم فوق ذات الجبهة خطوط العمر الذي أضحى في طي الكتمان.. وداعاً:

يا شبابيك الصدفة وداعاً.. أنتِ المشرعة على براح الصدفة.. أنتِ التي تطّلين اصطفافاً على شوارع الصدفة.. أنتِ التي مررت أنا عليك ذات يومٍ.. صدفة, في ذلك اليوم الذي كانت تطل فيه صدفة بـ.. الصدفة.

وداعاً.. يا صفحات التاريخ المكتوبة بحبر التزوير.. يا بحار الدنيا, ويا قطارات الدنيا.. يا محطات القطارات الباردة حيث كنا نمكث نفترش قطع الكرتون انتظاراً لقطار قادم قد يأتي وقد.. لا يأتي:

يا عواصم الثورة.. وداعاً.

يا ثوار الدنيا الذين جابوا.. الدنيا بأحذية ممزقة ثبتاً لزمن الثورة.. وداعاً.

يا أنتم جميعاً.. في الغرب أو الشرق, قبل الميلاد.. وبعد الميلاد:

وداعاً.. وداعاً.. لا أستثني أحد.

______________________________________

صحيفة الجماهيرية.. العدد:4021.. التاريخ:13-14/06/2003

مقالات ذات علاقة

من اليمين إلى الشمال في كل اتجاه

المشرف العام

انتصار السوق

منصور أبوشناف

ليبيا التي لم يرها المنصف وناس (2)

سالم الكبتي

اترك تعليق